الغاز يعيد تشكيل العلاقة بين شمال أفريقيا وأوروبا

الغاز يعيد تشكيل العلاقة بين شمال أفريقيا وأوروبا

يمنح الهجوم الروسي على أوكرانيا العلاقات بين أوروبا وشمال أفريقيا فرصة جديدة لإعادة إحيائها بعد أن بدا ذلك شبه مستحيل، حيث سيلعب الغاز دورا مهما في هذه المعادلة باعتبار حاجة الأوروبيين إلى تعويض الغاز الروسي.

لندن – تشير التحركات التي يقوم بها القادة الأوروبيون إلى أنهم يحاولون بذل كل ما في وسعهم من أجل تعويض الغاز الروسي، وهو ما يتيح إمكانية إعادة تشكيل العلاقة بين شمال أفريقيا والقارة العجوز خاصة بعد الزيارات التي قام بها مسؤولون أوروبيون وغربيون عموما إلى المنطقة.

وكان رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي قد زار الجزائر في وقت سابق من هذا الشهر لبحث زيادة إمدادات الغاز الجزائري إلى بلاده في وقت تعد فيه الجزائر ثاني مزود بالغاز لإيطاليا بعد روسيا التي تشهد أزمة مع كل شركائها الأوروبيين منذ غزوها أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي.

احتياطات وفيرة
رغم نفيها مراراً قدرتها على تعويض الغاز الروسي في السوق الدولية، إلا أن للجزائر احتياطات كبيرة من الغاز وهو ما جعلها وجهة الدبلوماسيين الأوروبيين الساعين لوقف اعتماد بلدانهم على إمدادات الطاقة الروسية.

فرانسيس غيليس: الأزمة ستجبر الأوروبيين على تغيير سياساتهم تجاه شمال أفريقيا

وقال الباحث المتخصص في الطاقة في أوروبا وغرب المتوسط، فرانسيس غيليس، “هناك معطيات داخل الجزائر بصدد جذب الشركات الأجنبية، وفي الأسابيع الأخيرة اندفعت الشركات الأجنبية إلى النظر في إمكانيات الاستثمار، وخاصة تلك التي تبحث عن نفط وغاز جديدين. لذلك فإن الأحداث تتحرك، لكن تحديد مدى سرعة تحركها صعب”.

واتبعت الجزائر في السنوات الأخيرة سياسات جديدة للطاقة حيث يعتبر سعر الكهرباء في البلاد من أدنى الأسعار في العالم ولا يغطي هذا السعر حتى التكاليف، حيث تحجم السلطات عن تغيير الأسعار خشية الاضطرابات الاجتماعية.

وأسهم ذلك في زيادة توجيه إنتاج الغاز الجزائري إلى الاستخدام المحلي. كما كانت القوانين مقيدة للغاية بشأن الاستثمار الأجنبي حتى العام 2019. وتغير ذلك منذ نهاية تلك السنة. ثم جاءت أزمة فايروس كورونا المستجدّ الذي انتشر في مختلف مناطق العالم. لكننا نشهد الآن عقودا كبيرة إثر توقيع أول عقد رئيسي مع إيطاليا في نوفمبر الماضي.

وتتعافى شركة سوناطراك للنفط والغاز من 10 سنوات من سوء الإدارة ومحاكمات الفساد التي شهدتها في أوائل العشرية الثانية من القرن الحالي. ومع ذلك تفتخر هذه الشركة التي تشغل حوالي 130 ألف شخص، وهي الأكبر في أفريقيا، بالعديد من المهندسين الماهرين.

ولا يوجد سبب يمنع سوناطراك من التعافي في السنوات القليلة المقبلة إذا كانت تتمتع بالدعم الكامل من الدولة بحسب غيليس.

وتابع غيليس “توجد نقطة أخرى يجب توضيحها، وأعتقد أنها مهمة، وهي أن المستثمر الأجنبي لم يكن مترددا في التوجّه إلى الجزائر وتطوير حقول الغاز في البلاد الأفريقية بسبب البيروقراطية الجزائرية أو القواعد الصارمة فقط. فمنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وضع الاتحاد الأوروبي سياسة لتحرير الطاقة، مما يعني أن عقود الغاز أصبحت أقصر. ولا يمكنك توقع تطوير حقل غاز قد يستغرق 10 أو 15 عاما بموجب عقود لمدة عامين أو ثلاثة أعوام. فهذا غير منطقي تماما. وأصبح الاتحاد الأوروبي يحتاج الآن إلى العثور على المزيد من الغاز بعد ما حدث مع روسيا وأوكرانيا. ولكن العقود قصيرة الأجل تصعّب الأمور”.

تفطنت دول الاتحاد الأوروبي إلى الفرصة التي يمكن أن تتيحها احتياطات الغاز الجزائرية للتقليل من الاعتماد على الطاقة الروسية.

وقال غيليس إن “روما شعرت بأن الأزمة قادمة بطريقة ما عندما زار رئيس إيطاليا في نوفمبر الماضي الجزائر وقرر توقيع عقد كبير بأكثر من مليار دولار بين إيني (الوكالة الوطنية للمحروقات) وشركة سوناطراك الجزائرية الحكومية”.

وأضاف “يعدّ هذا أمرا مهما لعدد من الأسباب؛ أولها التعاون بين الإيطاليين والجزائريين في مجال النفط والغاز في1960 – 1962 قبل الاستقلال، لمّا كان إنريكو ماتي مؤسس إيني الإيطالية مستشارا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلال المفاوضات مع الجنرال ديغول التي أدت إلى الاستقلال. ويذكرنا التاريخ بأن الجنرال ديغول أراد فصل الصحراء حيث تم العثور على النفط والغاز في منتصف الخمسينات من القرن الماضي مما كان سيصبح جمهورية الجزائر الجديدة. وفشل بينما ساعد الإيطاليون القوميين الجزائريين (أو المقاتلين من أجل الحرية كما كان يُطلق عليهم آنذاك) على تشكيل سياستهم في مجال النفط والغاز. ونستخلص من كل هذا أن هناك تفاهما سياسيا عميقا بين إيطاليا والجزائر”.

وتابع الخبير الدولي قائلا إن “النقطة الثانية تكمن في بناء أول خط أنابيب للغاز تحت البحر -باستخدام التكنولوجيا الإيطالية التي قدمتها شركة سايبم- بين الجزائر وإيطاليا عبر تونس ومضيق صقلية. وكان افتتاحه في 1983. وهو يعمل بسلاسة تامة منذ ذلك الحين. والنقطة الثالثة، وهي مهمة بالنسبة إلى الجزائر، هي أن لإيطاليا قدرة تقنية تتمتع بها شركات مثل سايبم وفينكانتييري. كما تتمتع بالخبرة في مصانع النفط والغاز والغاز الطبيعي المسال والمكثفات. ويمكن لإيطاليا أن تزود الجزائر بكل ما تحتاجه من تكنولوجيا وتساعدها في بناء خطوط الأنابيب والاستكشاف. ويعتبر الإيطاليون ماهرين جدا في هذه اللعبة، بما يتجاوز إيني ويمتدّ إلى جميع الشركات المضيفة. وتجعل هذه الأسباب الاتفاقية مع إيطاليا مهمة عند تقييم أوروبا لما قد تحصل عليه من الجزائر”.

وكان رئيس الوزراء الإيطالي قد أدى زيارة إلى الجزائر العاصمة يوم الاثنين الحادي عشر من أبريل الجاري برفقة رئيس إيني ووزير الخارجية. وهي زيارة مهمة لأن دراغي، بصفته الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي والعضو السابق في بنك غولدمان ساكس، يعدّ رجلا في قلب هيكل السلطة في الغرب.

يشكل عامل الغاز معطى مهما في هذه المرحلة التي تعد الاضطرابات سمتها البارزة سواء في أوروبا أو في شمال أفريقيا، ويمكن أن يلعب دورا بارزا في إحياء العلاقات بين أوروبا وهذه المنطقة على أرضية جديدة، وفقا لمراقبين.

وتمتلك الجزائر احتياطات وفيرة من الغاز حيث لم يتم استكشاف نصف أراضي هذا البلد، وهو الأكبر في أفريقيا جغرافيا. وحتى في المناطق التي جرى البحث فيها، لم يتم استكشاف العديد من الموارد بالطرق الحديثة التي أصبحت متاحة في السنوات العشر إلى الخمس عشرة الماضية.

وتشير اكتشافات إيني الحديثة بالقرب من حوض بركين إلى أن هناك الكثير من الغاز الذي يمكن العثور عليه، لأن المناطق التي لم يتم استكشافها جيولوجيا تشبه تلك المُستغلّة اليوم.

وللجزائريين -وفقا لإحصاءات أميركية- ثالث أكبر احتياطيات من الغاز غير التقليدي في العالم، بالإضافة إلى مواردهم التقليدية.

وقال غيليس إن “الجزائر تعتبر خزانا ضخما للغاز. وتتمتّع شركة سوناطراك بعدد مهم من الفنيين والخبراء. لكن ما تفتقر إليه الجزائر هو سياسة اقتصادية تقبل الإصلاحات في جميع المجالات. ونرى مبررا للقول بأن الطريقة الوحيدة لتحريك القيادة الجزائرية والجنرالات على وجه الخصوص تكمن في جذب إيطاليا ودول غربية أخرى لاسيما ألمانيا التي تناقش مسألة شراء الغاز من الجزائر”.

دول الاتحاد الأوروبي تفطنت إلى الفرصة التي يمكن أن تتيحها احتياطات الغاز الجزائرية للتقليل من الاعتماد على الطاقة الروسية

وأضاف “إن كانت هذه الدول قد قدّمت بالفعل أموالا على الطاولة، فإن العروض المُقترحة والعروض الأولية لتطوير الغاز تزيد عن 100 مليار دولار. وإذا أظهرت الدول المتقدمة استعدادا حقيقيا لاستثمار أموالها كما يجب والقول إنها ستنخرط في عقود طويلة الأجل من 10 إلى 15 عاما مع تطوير حقل الغاز هذا وذاك، فقد تكون هذه الطريقة الوحيدة لتحريك الجزائر نحو إدارة أكثر حداثة وشفافية، ليس لقطاع النفط والغاز فقط وإنما لاقتصادها ككل”.

لكن غيليس يحذر من وجود تعقيدات وعوامل تاريخية وسياسية يمكن أن تصعّب عملية الاستثمار هذه.

وقال “دعونا نتذكر أنه يوجد في أوروبا ما لا يقل عن 15 مليون مواطن من أصل شمال أفريقي، إن لم يكن 20 مليونا. ولنتذكر أن هناك قدرا هائلا من التجارة بين إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وشمال أفريقيا. وإذا أردنا مواجهة مشكلة الهجرة غير الشرعية والفقر في أفريقيا، فسيتعين علينا اتخاذ بعض القرارات الجريئة للغاية في أوروبا، (وتحديدا) في بروكسل”.

وأوضح أن “هذه القرارات صعبة. لكن الغاز يبقى أحد العوامل الرئيسية في هذا وقد يدفعنا إلى إعادة تنظيم تفكيرنا الجيواستراتيجي. يبقى الغاز جزءا لا يتجزأ من عملية إعادة التفكير الجادة، والتي لن تحدث فقط في أوروبا، بل يجب أن تحدث في شمال أفريقيا أيضا. وربما تجبر هذه الأزمة القادة الأوروبيين على تغيير سياساتهم، لأنه يتعين عليهم تغيير خططهم”.

ونالت الجزائر استقلالها قبل 60 سنة، وتتمتع به تونس والمغرب منذ أكثر من ذلك، لكن الجزائر تبدو أكثر صراحة تجاه الأوروبيين بينما تجبر الالتزامات مع صندوق النقد الدولي وأوروبا والولايات المتحدة للحصول على مساعدات اقتصادية تونس على الصمت اليوم تجاه الغرب.

ويرى غيليس أن “هذه الأزمة، التي ستفرض إعادة ضبط العديد من السياسات حول جملة من النقاط في حزم من قضايا الاقتصاد، ربما تكون هي الفرصة. سيتعين على أوروبا أن تتعلم من هذه العملية أن الدعوة إلى الديمقراطية لا فائدة منها على الإطلاق لأنه على مدار الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين عاما الماضية ظل الغرب، بما في ذلك أميركا، يبشر بالديمقراطية بشكل انتقائي. وأصبح العرب حساسين للغاية تجاه هذا الأمر مع ما حدث لفلسطين وما حدث في ليبيا وفي العراق. وسيتعين على أوروبا أن تقرر ما تريده في العقود القليلة القادمة. ويتطلب ذلك تفكيرا واضحا وأفكارا جديدة. ولا أعتقد أنه مستحيل. لكن كل هذا يتطلب قيادة جريئة”.

العرب