مع استمرار الحرب الطاحنة في أوكرانيا وتعرض أوروبا والعالم بأسره لخسائر باهظة نتيجة الحرب التي قد تطول، يتساءل كثيرون عما إذا كان توسع حلف “الناتو” شرقاً كان خطأ كبيراً من قبل الولايات المتحدة والغرب، أم كان ضرورة حتمية تؤكدها المخاوف الأوروبية المتصاعدة من روسيا حالياً؟ وبينما يرى بعض المراقبين والمحللين في أميركا وكندا وغرب أوروبا أن توسيع “الناتو” كان خطأ استراتيجياً جسيماً دفع موسكو في النهاية إلى غزو أوكرانيا، يرى آخرون أن توسيعه باتجاه الشرق، كان خياراً صائباً، فما هي الأسباب التي تدفع كل فريق إلى تبني وجهة نظره؟
تُعد المأساة التي تحدث في أوكرانيا حالياً غير مسبوقة في تاريخ أوروبا الحديث، وبقدر ما يجري تحميل روسيا مسؤولية الحرب في الأمم المتحدة وفي أماكن أخرى، فإن تاريخ الأزمة الأخيرة الذي يعود إلى سنوات ما بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، يضع توسع حلف شمال الأطلسي “الناتو” بالقدر نفسه في موضع المساءلة، بما في ذلك العواقب بعيدة المدى التي يمكن أن تترتب على نتيجة هذه الحرب الدموية.
خطأ جسيم
يتفق عدد من المحللين وأساتذة الجامعات والمؤرخين في أن توسيع حلف “الناتو” شرقاً كان خطأ جسيماً، ولكن مع بعض التباينات في درجة الاتفاق بحسب ما يشير موقع “فورين بوليسي”، ففي حين يُحمّل كريستوفر بريبل مدير مبادرة المشاركة الأميركية الجديدة في المجلس الأطلسي، الولايات المتحدة، مسؤولية هذا الخطأ على اعتبار أنها كانت القوة الدافعة لتوسيع “الناتو”، وعجلت التحول إلى هيكل أمني جديد لأوروبا، وأثبطت الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وأحبطت تقاسم الأعباء عبر المحيط الأطلسي، ترى آن ماري سلوتر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة “نيو أميركا”، أن الخطأ الاستراتيجي في توسيع الحلف الأطلسي خطأ يتعلق فقط بالعلاقة مع روسيا، لكنه كان الشيء الصحيح الذي يجب القيام به من أجل إرساء الاستقرار في بلدان وسط وشرق أوروبا والتي كانت حكوماتها بحاجة إلى إشارة ملموسة للانضمام إلى النادي الديمقراطي الغربي، ومع ذلك، كان بإمكان الغرب بذل جهود أكبر للتوصل إلى بنية أمنية أوروبية، وأوروبية آسيوية، لتوفير مظلة علاقات اقتصادية جديدة وتجاوز إعادة رسم خطوط التقسيم القائمة في القرن الـ 20.
أما أليكس برافدا، كبير الباحثين في كلية “أكسفورد” للدراسات العالمية والإقليمية، فيرى أن إنشاء منظمة أمنية أوروبية أطلسية جديدة تضم الولايات المتحدة وروسيا، كان من شأنه أن يقلل من احتمالية الاستياء الروسي من الجهود المبذولة لإعادة بناء مجال السيطرة الغربية، وهو ما ينسجم مع رؤية تشارلز كوبشان، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة “جورج تاون”، في أن روسيا اضطرت إلى موازنة حشد القوة الغربية في شرق أوروبا، في وقت كان ينبغي على واشنطن أن تلتزم بتطوير الشراكة من أجل السلام، وهو إطار أمني أكثر مرونة مكّن كل الدول الأوروبية من التعاون مع “الناتو” من دون توسيع التحالف رسمياً ورسم خطوط تقسيم جديدة.
وعلاوة على ذلك، يشير ستيفن ويرثيم، كبير الباحثين في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي، إلى أنه بينما هزمت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على اجتياح القارة الأوروبية، كان عليها أن تسحب قواتها وأن ترحب بالجهود الأوروبية لتشكيل دفاع أوروبي مشترك بدلاً من قمع هذه الجهود، لكن أوروبا لا تزال تعتمد بشكل كبير على واشنطن في الدفاع عنها ضد روسيا، بينما تواجه الولايات المتحدة أخطاراً كبيرة لا تتناسب مع مصالحها الاستراتيجية واحتياجاتها المحلية.
التوسع غاية
وعلى الرغم من أن توسيع “الناتو” منح السلام والأمن للمناطق التي كانت تحت السيطرة السوفياتية وما زالت مهددة من قبل موسكو بحسب ما يشير مايكل كيماج أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأميركية، إلا أن توسيع الحلف أصبح غاية في حد ذاته، وانتهى الأمر بتطبيق سياسة الباب المفتوح للدول الأوروبية الراغبة في الانضمام، لكنه منح القليل جداً من الالتزام الحقيقي لكل من جورجيا وأوكرانيا، ونطاقاً ضئيلاً للغاية للترتيبات الأمنية للدول غير التابعة لحلف “الناتو”، ما يعني عدم الاستجابة للتحديات الاستراتيجية للدول الأوروبية غير الحليفة، وأسهم ذلك بحسب مايكل ماندلباوم، أستاذ الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة “جونز هوبكنز”، في تحويل المواقف الروسية إلى مناهضة الغرب، بالتالي خلق السياق السياسي الذي استغله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقيام بحملاته ضد جورجيا عام 2008 ثم ضد أوكرانيا عام 2014 ثم في عام 2022.
وفي حين يعتبر جوشوا شيفرينسون، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “بوسطن”، أنه لم تكن هناك بدائل لتوسيع “الناتو” لأن أهداف الولايات المتحدة كانت تتمثل في إبراز القوة، وتقليل احتمالات شنّ عدوان روسي مستقبلي، والمساعدة في توجيه دول وسط وشرق أوروبا نحو الغرب، إلا أن طريقة توسع “الناتو”، والتي لم توفر سوى القليل من التحليلات حول كيفية توفير الأمن لدول أوروبا الوسطى والشرقية، في مواجهة معارضة روسية مفهومة ومتوقعة، كانت تضمن عملياً ظهور مشاكل مستقبلية، وهو ما يتفق فيه ريتشارد بيتس، أستاذ دراسات الحرب والسلام بجامعة “كولومبيا”، والذي اعتبر أنه من غير الحكمة أن نركل روسيا عندما كانت تسقط بينما كان علينا إدراك أنها ستعود.
أسباب متعددة
غير أن ناديغدا أرباتوفا، أستاذ ورئيس قسم الدراسات السياسية الأوروبية في معهد “بريماكوف” للاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في الأكاديمية الروسية للعلوم، ترى أن هناك أسباباً متعددة تفسر خطأ توسع “الناتو” شرقاً، أولها أن هذا القرار اتخذ في العصر الذهبي للعلاقات الروسية- الغربية وفي مناخ مختلف، وثانياً أن توسع “الناتو” أدى إلى تعريض استراتيجية توسيع الاتحاد الأوروبي للخطر، بعد أن أصبحت عضوية “الناتو” شرطاً مسبقاً غير مكتوب لعضوية الاتحاد الأوروبي.
وثالثاً أن التوسع قوّض ثقة روسيا في “الناتو” والغرب، بخاصة بعد العملية العسكرية للحلف في يوغوسلافيا عام 1999 والتي كانت أول عمل للحلف الموسع حديثاً، ورابعاً، أحدث التوسع تناقضاً بين حق الدول في اختيار التحالفات الأمنية بحرية، وحق الدول الأخرى في معارضة توسع الحلف إذا نظرت إليه على أنه تهديد للأمن القومي، كما أن الإهمال الغربي للمخاوف الأمنية الروسية، أقنع الكرملين بأن الكلمات التي ألقاها بوتين في خطاب بمدينة ميونيخ عام 2007 أو تلك التي تضمنتها مسودة الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف لمعاهدة أمنية أوروبية عام 2010، لن يكون لها أي تأثير على الاستراتيجية الغربية، وان ما يهم فقط هو القوة الصلبة لروسيا.
قرار صائب
في المقابل، يرى محللون وباحثون آخرون أن قرار “الناتو” التوسع شرقاً كان قراراً صائباً للغاية، فبحسب سفير الولايات المتحدة السابق في موسكو، أليكسندر فيرشبو، صحح توسيع الحلف الأطلسي أخطاء اتفاقية يالطا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعزز الأمن والديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية، وهو ما تتفق فيه ألينا بولياكوفا، المديرة التنفيذية لمركز تحليل السياسات الأوروبية، إذ تقول إن عضوية “الناتو” هي السبب الوحيد لعدم تعرض دول البلطيق والأعضاء الآخرين في أوروبا الوسطى والشرقية لهجوم من قبل روسيا، وأنه كان من الخطأ الاستراتيجي عدم التحرك بشكل أسرع ليضم “الناتو” أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا.
كما يرى أندريه كوليسنيكوف، رئيس برنامج المؤسسات السياسية الروسية في مركز “كارنيغي” في موسكو، أن توسع الحلف باتجاه الشرق لم يشكل تهديداً لروسيا على الإطلاق، إذ يعتبر التوسع بالنسبة لبلدان أوروبا الشرقية، بمثابة اكتساب ضمانة أوروبية- أميركية للأمن، ولكن عندما وصل بوتين إلى السلطة، أصبح ذلك عاملاً أسهم في عدائه للغرب، والذي بلغ ذروته في حرب أوكرانيا.
ويرى باري بافيل، مدير مركز “سكوكروفت” للاستراتيجية والأمن في المجلس الأطلسي، أن توسع “الناتو” يعد بمثابة عملية تتخذ من خلالها الدول ذات التفكير المماثل التي تشارك قيم أعضاء الحلف وتفي بمعايير معينة، قراراً سيادياً بالتقدم بطلب العضوية الرسمية، لذا يعد هذا تحالفاً للقيم والمصالح المشتركة الحقيقية، بينما كانت البيئة الأمنية في أوروبا حميدة نسبياً مقارنة بالحرب الباردة، ولكن مع قيام بوتين بغزو واحتلال أجزاء من دول مجاورة ذات سيادة، تشعر تلك الدول التي انضمت إلى “الناتو” منذ نهاية الحرب الباردة بسعادة كبيرة لأنها اختارت القيام بذلك.
تجنب الفراغ
لكن فرانسيس جافين، مدير مركز هنري “كيسنجر” للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة “جونز هوبكنز”، يعتبر أنه من دون توسع “الناتو”، كان من الممكن أن ينشأ فراغ أمني خطير في وسط أوروبا، مثلما حدث في الماضي، ففي غياب عضوية الحلف، ربما تكون بولندا ودول أخرى قد سعت للحصول على أسلحة نووية خاصة بها، كما أن ألمانيا التي أعيد توحيدها وكانت محور الاهتمام في أوائل التسعينيات، لم يكن أحد يعرف كيف ستتطور في مثل هذه الظروف الحالية، إذ ينسى المنتقدون أن “الناتو” غيّر مهمته وهيكله بعد عام 1990 وأحدث تخفيضات كبيرة في قواته العسكرية، وليس هناك ما يضمن أن روسيا كانت ستكون سعيدة بترتيبات أمنية أوروبية أخرى من دون عودة إمبراطوريتها السابقة ومناطق نفوذها، ولا شك أن التهديد الروسي المتجدد، سلط الضوء على وحدة “الناتو” وجاذبية قدراته الأمنية الجماعية.
وينظر إيفو دالدر، رئيس مجلس “شيكاغو” للشؤون العالمية إلى توسع الأطلسي على اعتبار أنه لبى تطلعات الشعوب التي هربت من نير السيطرة السوفياتية حتى تكون حرة وآمنة، وأن السؤال حول ما إذا كان توسيع الحلف خطأ أو صواباً تجدونه لدى مواطني بولندا ودول البلطيق ورومانيا وآخرين، كما يرى جيمس غولدغير كبير الباحثين في مركز “ستانفورد” للأمن والتعاون الدوليين أن طريقة توسيع الحلف كانت عملية وليست حدثاً واحداً، وخلقت السياسة احتكاكات مع روسيا خلال هذه العملية، ولكن ليس بالتساوي، فعندما انضمت بولندا والمجر وجمهورية التشيك للحلف عام 1999، كانت حرب كوسوفو قضية أكثر أهمية بكثير بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة و”الناتو” وروسيا، وعندما انضمت سبع دول أخرى للحلف عام 2004، كانت حرب العراق و”الثورات الملونة” أكثر أهمية بكثير للعلاقات الأميركية- الروسية، لكن خطأ الحلف تمثل في إصدار إعلان قمة بوخارست عام 2008 ليشمل البيان بأن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في “الناتو”، بينما لم يكن الحلف جاهزاً ولا تلك الدول، ولم يتم وضعها على طريق العضوية، وأعطى إعلان بوخارست بوتين ذريعة لفعل ما أوضح أنه يريد القيام به نظراً لاعتقاده أن أوكرانيا تنتمي إلى روسيا، وحاولت الولايات المتحدة وحلف “الناتو” خلال عملية التوسيع المبكرة العمل مع روسيا لمعالجة مخاوفها الأمنية، وهناك آمال في أن تتمكن واشنطن وبروكسل يوماً ما العودة إلى تلك المحادثة.
اندبنت عربي