مع انقضاء مهلة “الـثلاثين يوماً”، أقفلت أنقرة مجالها الجوي أمام الطيران الروسي، الذي يقلّ العتاد والجنود إلى سوريا، أو حتى الطائرات المدنية. جاء ذلك على لسان وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، لثنيها عن حرب ما زالت تستعر منذ 24 فبراير (شباط) على تخوم كييف العاصمة والمدن الأوكرانية الاستراتيجية.
اللافت استقبال الكرملين لهذا القرار بكثير من البرود كما هي سياسته الخارجية، أو حتى حربه مع خصومه، إذ لم ينبس المسؤولون بأي كلمة تعليقاً على هذا الإجراء، ودونما اهتمام تواصل روسيا مد جسرها الملاحي إلى حليفتها دمشق.
وريثما يقرّ القيصر الروسي بتسوية للحرب الأوكرانية، سيؤثر الحظر الجوي في تكبّد الطائرات أعباء الملاحة نحو مسار جوي جديد، وبرحلة أطول للوصول إلى سوريا عن طريق الأجواء العراقية مروراً بإيران، بينما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، “إلى وقف إطلاق نار عاجل” أثناء زيارته في 26 أبريل (نيسان) الحالي للعاصمة الروسية.
نسخة جديدة من الحروب
لم تتزحزح القوات الروسية عن مواصلة عملياتها الحربية في الميدان السوري، على الرغم من معارك شديدة الوطيس على الجبهة الأوكرانية، جاء ذلك بالتوازي مع انتداب جنرالات وخبراء روس على وجه السرعة من سوريا إلى أوكرانيا، أو حتى من دون أن تهمل سير العمليات الممتدة في ريف إدلب، وهذا الحظر الجديد سيترك مزيداً من الإصرار لتكثيفها وبشكل لافت للضربات الجوية.
وهذه ليست المرة الأولى في إغلاق المجال الجوي أمام روسيا على الساحة السورية، حيث شهد عام 2015 مثله، في وقت انخراط الجيش الروسي بالصراع المسلح الدائر منذ 2011، إذ شاب العلاقة وقتها بين أنقرة وموسكو توتر، لا سيما بعد إسقاط طائرة “سو-24” روسية في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) بواسطة نيران سلاح الجو التركي، قالت وقتها وزارة الدفاع إن الطائرة اخترقت مجالها.
مع هذا تكون إسطنبول قد ولجت في أتون حرب الأراضي السوفياتية، تتسع دوائرها بشكل مريب، وسط مخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة، كما أنبأ بذلك وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، “إن الخطر جسيم ولا يمكن الاستهانة به”. ووسط انقلاب الأتراك على التحالف مع الروس طوال أعوام منصرمة، جاء الحظر ليزيد تعقيد مسألة حل الأزمة السورية، وتشابك الملفات تبعاً للمصالح الدولية.
وأن تنكفئ الطائرات (المدنية والعسكرية) الروسية عن المجال التركي يعني مزيداً من صعوبة إمداد قاعدة “حميميم” الجوية الواقعة في ريف اللاذقية، غرب سوريا، أو إمداد القواعد بطرطوس المطلّة على المتوسط، وهذا الإجراء يفوّت إيصال العتاد اللازم في موعده، ويؤخر بالقدر ذاته العمليات الحربية عن تحقيق أهدافها.
تأجج المعارك شمالاً
وتشير المعلومات الواردة من جبهات القتال في الشمال الغربي إلى تأجيج المعارك وحالة استنفار للقوات المتنازعة في ريف إدلب، حيث تهيمن جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) على امتداد مدينة إدلب وأجزاء من ريفها بعد تمكن عملية عسكرية في أبريل من عام 2019 بمشاركة خبراء روس وفصائل إيرانية، من استرجاع أجزاء من الريف الجنوبي، بينما يربط متابعون للمشهد في شمال غربي البلاد اشتداد قصف الطائرات الروسية على مواقع الفصائل المعارضة المتشددة مع إغلاق المجال الجوي.
وعلى طائرات الشحن العسكرية أو المدنية اتخاذ طريق أطول هو المسار الجوي العراقي مروراً بإيران، وتقدّر المسافة بين موسكو – بغداد بما يناهز 2500 كيلومتر، وقد كانت الرحلات الجوية بين البلدين استؤنفت في سبتمبر (أيلول) من عام 2017 بعد توقف دام 13 عاماً، بالتالي الاعتماد أكثر على الإنزال البحري للسفن، التي تواجه في الوقت ذاته تقييداً من أنقرة بحسب اتفاقية مونترو (خاصة بنظام المضائق البحرية عام 1936 تمنح تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل).
الفتيل وبرميل البارود
في غضون ذلك، يقرأ المراقبون وقائع المعركة المقبلة عبر إعادة ترتيب أوراقها على المستوى السوري، فقواعد الاشتباك قبل الحرب الأوكرانية ليس كما بعدها، ويبدو بشكل لا لبس فيه أن صفقات تحوم في الفترة الأخيرة على الخريطة الجغرافية شمال شرقي سوريا، وبالذات في ما يتعلق بنفوذ المكون “الكردي” المتنامي والمدعوم من التحالف الدولي والولايات المتحدة، وليس مستبعداً أن الجرأة التركية لها ثمن، بعدما التزمت الحياد طوال الأشهر المنصرمة، وقد يصل إلى كبح جماح النفوذ الكردي في الشمال السوري..
ولعل الأمر الذي يفسر هذه النظرية هو إقدام الجيش التركي على تنفيذ عمليات في عمق الشمال العراقي بالتزامن مع تلويح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتوعده بشن عملية عسكرية شمال سوريا لملاحقة قيادات من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وليس عبثاً أن يطل الجنرال بن هودجز، وهو قائد سابق للقوات البرية الأميركية في أوروبا في 21 أبريل، لينتقد دعم بلاده زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لوحدات الشعب الكردية “ذلك أضر بعلاقتنا مع تركيا”، وفق تصريحاته لوسيلة إعلام تركية.
ويمكن التقليل من ترجيح فرضية تعاون واشنطن وأنقرة مقابل الاستغناء عن الأكراد بعد انتقادات حادة وجهها الرئيس الأميركي جو بايدن، في ذكرى الإبادة الأرمينية على يد العثمانيين عام 1915، رد عليه الرئيس التركي واصفاً ذلك بالادعاءات.
روسيا لاعب أساسي
وإزاء ذلك مهما بلغ الثمن لكسب تركيا، وهي دولة تنتمي إلى حلف “ناتو” نهاية الأمر، فإن روسيا لا تكترث كثيراً بهذا الإجراء الأخير، فهي طوال الأعوام المنصرمة من الحرب ومنذ 2015 حين دخولها معترك الحرب السورية تُعدّ لاعباً دولياً وأساسياً ولا حل للأزمة إلا بموافقتها، واستطاعت خلال هذه الفترة مدّ قواعدها بأكثر أصناف السلاح العسكري المتطور آخرها “كاليبر” فرط الصوت، إذ تتميز صواريخه بدقة إصابة عالية للأهداف، وتزويد البلاد بمنظومة “إسكندر- إم” علاوة عن قدرة الصواريخ المتنوعة التي تمتلكها قاعدة حميميم بتدمير أهداف أرضية لمسافة تقدّر بـ 500 كيلومتر.
وظلت الساحة السورية طوال هذه الفترة موقعاً لاختبار كفاءة ما يقدر بأكثر من 320 سلاحاً، بما فيها المروحيات، ولفت وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى أن “نسبة الأسلحة والمعدات الحديثة لدى الجيش الروسي تصل إلى 70 في المئة، وهي النسبة الأعلى مقارنة ببقية جيوش العالم”.
وليس مستبعداً أن تجتهد الولايات المتحدة، عبر قواتها وقواعدها المرابطة في الشرق السوري، وكذلك دول “ناتو” المتمثلة في قوى التحالف الدولي، في إشغال القوات الروسية وحلفائها في سوريا، وهو أحد السيناريوهات غير المستبعدة والقريبة من التحقق، أو التخلي عن قوات حماية الشعب الكردية مقابل كسب موقع تركيا، وبالحالتين، فإن الحظر الجوي أولى الخطوات لترتيب أوراق اللعبة من جديد وإيذاناً بتجدد اشتعال المعارك شمال سوريا.
اندبندت عربي