طالما حذر المسؤولون والخبراء الغربيون من أن دخول روسيا في حرب ضد أوكرانيا سوف يتحول إلى معركة طويلة تستنزف فيها القوة الروسية اقتصادياً وعسكرياً، ولم يخف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن رغبة بلاده في أن ترى روسيا تضعف لدرجة لا تستطيع معها القيام بما فعلته في غزو أوكرانيا، غير أن شن هجمات روسية على إمدادات الأسلحة الغربية لأوكرانيا، وقطع إمدادات الغاز الروسية عن بولندا وبلغاريا، وزيادة التكلفة المادية للحرب الطويلة، يثير أسئلة عما إذا كان هدف الغرب استنزاف روسيا يمكن أن يصبح استنزافاً متبادلاً بمرور الوقت.
استيعاب الكارثة
مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير (شباط) الماضي، لم يكن الصراع مجرد حدث جيوسياسي كبير، بل نقطة تحول جيو-اقتصادية أيضاً بسبب موجة العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة من القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة ضد روسيا، التي شملت قطاعات مالية وتجارية وعسكرية، كان الهدف منها إضعاف روسيا وإظهارها كدولة منبوذة ومعزولة، وتوقع الاقتصاديون أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة تسعة إلى 15 في المئة في الأقل هذا العام، مع تدهور الروبل وبدء موجة نزوح للعقول والكفاءات الروسية خارج البلاد، وتراجع قدرة روسيا على التقدم التكنولوجي والاندماج في الاقتصاد العالمي.
لكن، على الرغم من الخسائر الهائلة التي مني بها الاقتصاد الروسي والتي ستظل تلقي بظلالها لفترة طويلة قادمة، فإن موسكو تمكنت في فترة وجيزة من استيعاب أكثر الأضرار خطراً وحسنت من قيمة الروبل، وجنت ضعف ما كانت تجنيه من صادرات النفط والغاز بعد بدء الحرب، بسبب ارتفاع أسعارهما في السوق الدولية.
ضرر عالمي
غير أن تداعيات العقوبات الغربية، تجاوزت روسيا نفسها، حيث تسببت الآثار غير المباشرة في حدوث اضطرابات في أسواق السلع الأساسية الدولية، واندلع ذعر بين التجار وقفزت أسعار القمح والنحاس والنيكل والألمنيوم والأسمدة والذهب، لأن الحرب أغلقت الموانئ الأوكرانية وتجنبت الشركات الدولية صادرات السلع الروسية، في وقت يلوح في الأفق الآن نقص في الحبوب والمعادن عبر الاقتصاد العالمي، وأدت صدمة أسعار الطاقة والسلع في مختلف المجالات إلى ارتفاع معدلات التضخم العالمي في وقت تواجه البلدان الأفريقية والآسيوية التي تعتمد على واردات الغذاء والطاقة صعوبات أكبر.
ومع استمرار الصراع في أوكرانيا وطرد الدبلوماسيين بين روسيا والغرب، وزيادة أثر العقوبات الاقتصادية على روسيا، نفذ الكرملين تهديده بوقف إمدادات الغاز إلى دولتي بولندا وبلغاريا في أوروبا الشرقية وهما عضوان في حلف “الناتو”، بعد أن رفضتا طلب موسكو دفع ثمن الغاز بالروبل، ومع اقتراب المواعيد النهائية في الأسابيع المقبلة لدفع الدول الأوروبية الأخرى قيمة الغاز بالروبل والتي من غير المرجح أن تذعن لمطالب الكرملين، عادت المخاوف بشأن تهديدات الرئيس فلاديمير بوتين السابقة بعرقلة إمدادات الغاز للدول غير الصديقة وهو ما يعني أسعاراً كارثية للغاز في الأشهر المقبلة على حد قول التجار المخضرمين في السوق.
صدمات أوروبية
وبينما تبدو الولايات المتحدة في مأمن حتى الآن من ردود الفعل الانتقامية الروسية، إلا أن الحلفاء الأوروبيين الذين يعتمدون بنسبة 40 في المئة على الغاز الروسي يجدون أنفسهم في موقف صعب، إذ تواجه أوروبا صدمات اقتصادية متزامنة من الحرب في أوكرانيا وزيادة في أسعار المواد الغذائية والطاقة تفاقمت بسبب الصراع، ما أثار مخاوف بشأن “الركود التضخمي” حين يكون النمو الاقتصادي منخفضاً والتضخم مرتفعاً نتيجة الضربة الضخمة للنشاط الاقتصادي حتى نهاية موسم البرد المقبل في ربيع عام 2023.
وبينما يتوقع بعض الخبراء الاقتصاديين ألا يقدم الكرملين على هذه الخطوة لأنها ستكون مكلفة أيضاً بالنسبة إلى روسيا وصعبة التنفيذ، إلا أن آخرين يعتقدون أن الرئيس بوتين قد لا يتردد في اتخاذ هذا القرار في خضم الحرب المشتعلة في شرق أوكرانيا، التي لا تحقق فيها قواته سوى تقدم بطيء حتى الآن، فضلاً عن اعتقاد بوتين أن قرار وقف تدفقات الغاز إلى بولندا وبلغاريا، سوف يعزز عزم الاتحاد الأوروبي على إنهاء اعتماده على الغاز الروسي بأسرع وقت ممكن، والذي قد يكون بنهاية العام المقبل أو عام 2024 على أقصى تقدير، ما يعني أن تضرر روسيا من سوق واسعة ونشطة في أوروبا سيحدث في كل الأحوال.
وإذا حدث قطع الغاز الروسي عن أوروبا، ستظل أسعار الطاقة مرتفعة، ولكن من المحتمل ألا ترتفع أكثر، لأن أوروبا يمكن أن تهضم تدريجياً صدمة أسعار الطاقة، ومن المرجح أن تعود إلى النمو الكبير خلال الصيف ما لم تتفاقم عمليات الإغلاق الصينية المرتبطة بـفيروس “كوفيد-19” ونقص الإمدادات، مع ذلك، فإن وقف تدفق الغاز الروسي لا يزال يمثل خطاً نسبياً قد يجبر بعض الدول الأوروبية على تقنين إمدادات الغاز إلى قطاعات صناعية معينة في أواخر عام 2022 أو أوائل عام 2023، مع إمكانية أن تزيد الخطوة الروسية من مخاطر تصاعد مستويات التضخم الذي وصل في منطقة اليورو إلى مستوى قياسي مرتفع بلغ 7.5 في المئة خلال شهر مارس (آذار) الماضي، ومن المتوقع أن يستقر عند سبعة في المئة بنهاية العام الحالي.
استهداف السلاح الغربي
وفي الوقت الذي عبر فيه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن رغبة بلاده في إضعاف روسيا حتى لا تستطيع تكرار غزو أوكرانيا بعدما فقدت الكثير من القدرة العسكرية، كانت روسيا تفي بوعودها بمهاجمة نقاط شحن الأسلحة الأميركية والغربية ومستودعات الوقود في أوكرانيا، واستهدافها خمس منشآت للسكك الحديدية وخطوط الإمداد والبنية التحتية بصواريخ دقيقة بعيدة المدى مع بدء وصول أنظمة أسلحة غربية من المدفعية الثقيلة والدبابات والعربات المدرعة بمليارات الدولارات لمساعدة أوكرانيا في مواجهة ما يتوقع أن يكون هجوماً روسياً واسع النطاق في دونباس.