يتزايد القلق في دوائر القرار الأوروبي من أن يؤدي «التصعيد العدواني» الروسي، وتصميم الإدارة الأميركية على مواجهته، إلى وضع أوروبا أمام مخاطر صدام مباشر، عرضي أو متعمّد، بين القوتين النوويتين الكبريين، أو اتساع دائرة المعارك تدريجياً وراء الحدود الأوكرانية. ويخشى المراقبون الدبلوماسيون في العاصمة الأوروبية أن تدفع الانتكاسات العسكرية الروسية، والمعنويات الأوكرانية المتنامية، والمصالح الجيوستراتيجية للولايات المتحدة، نحو مرحلة جديدة في هذه الحرب، أشدّ عنفاً ودماراً من المرحلة الأولى، تكون تداعياتها أكثر خطورة بالنسبة للقارة الأوروبية.
في تقديرات الأوروبيين، ستكون الأيام المقبلة حاسمة، وبالتحديد التاسع من الشهر الحالي الذي يصادف عيد الانتصار الروسي على القوات النازية في الحرب العالمية الثانية، حيث يمكن أن تقرّر موسكو التصعيد في حدة عملياتها العسكرية وكثافتها، أو التهدئة تمهيداً لمفاوضات يقال، إن بكين دخلت على خط الوساطة بشأنها. لكن الأرجح، في تقديرات الحلف الأطلسي، أن تستمر العمليات العسكرية على كل الجبهات المفتوحة، مع احتمال لجوء القوات الروسية إلى استخدام أسلحة جديدة لحسم المعارك في بعض المناطق التي ما زالت تواجه صعوبة في إحكام السيطرة عليها، أو إعلان حرب شاملة في جميع الأراضي الأوكرانية.
ويعترف الحلفاء الغربيون، أن الأسلحة الجديدة والمتطورة التي يزوّدون بها أوكرانيا تحتاج إلى مشاركة دائمة من جانب الدول الغربية لصيانتها وتشغيلها وتأهيل القوات الأوكرانية على استخدامها؛ الأمر الذي يزيد من مخاطر هجوم عرضي أو متعمّد من جانب القوات الروسية. ويكرر المسؤولون الأميركيون منذ أيام، أن هدفهم لا يقتصر على منع القوات الروسية من الانتصار، بل إنهاكها كي لا تعود قادرة على القيام باجتياح آخر؛ الأمر الذي دفع بإدارة بايدن إلى زيادة المعونة المقدمة لأوكرانيا، التي تجاوزت بعد حزمة المساعدات الأخيرة المعدّل السنوي للإنفاق العسكري الأميركي السابق في أفغانستان.
وكان الرئيس الروسي من جهته هدّد باستخدام أسلحة «لا يملكها أحد غيرنا» للرد على التدخل الغربي المتزايد، الذي تعتبر موسكو أنه قارب الدخول طرفاً مباشراً في النزاع، في حين اتهم وزير خارجيته سيرغي لافروف الحلف الأطلسي بشنّ حرب ضد روسيا بواسطة أوكرانيا، محذّراً من أن «خطر نشوب حرب نووية بات حقيقياً ولا يجب التقليل من احتمالات وقوعها».
وبدأت تظهر بوادر توسيع دائرة العمليات العسكرية لتشمل مولدافيا بواسطة ما تسمّيه موسكو «قوات حفظ السلام» التابعة لها والموجودة في منطقة ترانسنيستريا الانفصالية. وتقول مصادر المخابرات الغربية، إن الجناح المتشدّد في موسكو يميل إلى إعلان الحرب المفتوحة ضد أوكرانيا؛ الأمر الذي يقتضي التعبئة العامة واستدعاء السكان البالغين في روسيا إلى الالتحاق بصفوف القوات المسلحة.
وتعزو المصادر الأطلسية التصعيد الأخير في تصريحات المسؤولين الروس إلى الصعوبات التي تواجه القوات الروسية في التقدم على معظم الجبهات، وتُقرأ في الاحتجاجات الروسية ضد المساعدات الغربية خشية موسكو من فشل عسكري في أوكرانيا. وترجّح هذه المصادر أن تضطر موسكو إلى وقف هجومها على جبهة الدونباس والبحر الأسود عندما يبدأ الجيش الأوكراني بتسلّم الأسلحة المتطورة من طائرات مسيّرة وقاذفات صواريخ ومنظومات الدفاع الجوي وأجهزة الرادار. وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي الذي كان متردداً في البداية للتدخّل في النزاع العسكري، أصبح الآن أكثر استعداداً لتزويد كييف بالمساعدات التي تطلبها، ومصمماً على لعب دور في تحديد مسار هذه الحرب كما صرّحت أمس رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين من الهند، بقولها، إن «الاعتداء الروسي يشكّل تهديداً مباشراً لأمننا، وسنحرص على أن يكون فشلاً استراتيجياً. إنها مرحلة حاسمة، وعلى استجابتنا يتوقف مستقبل النظام الدولي واقتصاد العالم».
لكن الإيقاع الفعلي في التسابق على تسليح أوكرانيا يبقى لواؤه معقوداً لواشنطن، التي تقول مصادر أطلسية، إن مساعداتها بدأت تصل إلى أوكرانيا غداة الاجتياح الروسي في 25 فبراير (شباط)، «بعد أن تبيّنت مواطن الضعف لدى الجيش الروسي ومخابرات الكرملين»، مشيرة إلى أنه لا توجد حتى الآن أدلّة على تعرّض هذه الإمدادات لضربات من القوات الروسية. ويعتبر المراقبون أن هذا التصعيد في الموقف الأميركي، والذي توّجهُ طلب بايدن من الكونغريس تخصيص مساعدات إضافية لأوكرانيا بقيمة 33 مليار دولار، نقل أهداف واشنطن من الدفاع عن هذا البلد ومنع تقسيمه، إلى التصعيد باتجاه صدام أكثر مباشرة مع موسكو.
وإذا لاحظنا أن قيمة المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا منذ بداية العام الحالي بلغت 46.6 مليار دولار، في حين كان المعدّل السنوي للإنفاق العسكري في أفغانستان لا يتجاوز 41 مليار دولار حسب مصادر البنتاغون، يتبيّن أن واشنطن تستعدّ لحرب طويلة «قد تدوم، في الأقل، حتى نهاية السنة الحالية»، كما قال مؤخراً أحد كبار المسؤولين في البيت الأبيض.
لكن التفاؤل الغربي، خصوصاً الأميركي، بهزيمة روسيا وإضعافها على الأمد الطويل، يثير القلق عند بعض المحللين، مثل مايكل أوهانلون، مدير بحوث السياسات الخارجية في معهد «بروكينغز» والخبير المعروف في الأمن القومي الأميركي، الذي يقول إنه «من الخطأ تحويل إضعاف روسيا إلى الهدف الرئيسي من التدخل الأميركي. يجب أن نتحاشى تحويل روسيا إلى قوة محبطة وخطرة كما حصل لألمانيا في عشرينات القرن الماضي، ولا حاجة إلى التذكير بما حصل منذ مائة عام بعد تلك المذلّة التي تعرّضت لها ألمانيا».
ويدعو أوهانلون إلى الاستمرار في توجيه رسائل إلى موسكو بأن ثمّة مخرجاً دائماً عبر الحوار، مهما كان كل طرف متيقنّاً من احتمالات النصر، «لأنه إذا كانت الرسالة الوحيدة التي تصل إلى الكرملين هي أن واشنطن جاهزة لحرب طويلة، من المحتمل جداً أن تلجأ موسكو إلى خطوات تصعيدية يستحيل التكهّن بمداها وطبيعتها».
وتقدّر المخابرات الغربية أن عدد الفيالق الروسية الموجودة في أوكرانيا انخفض من 130 في بداية الحرب إلى 90 في الوقت الراهن بسبب من الخسائر والمقتضيات اللوجيستية، وأن الجيش الروسي استنفد ترسانته من الأسلحة الدقيقة وليس قادراً، مالياً وتقنياً، على التزوّد بصواريخ تزيد كلفة كل منها عن مليوني دولار، وهو يلجأ مضطراً إلى استخدام المدفعية التقليدية والهجمات العشوائية التي تحدث دماراً واسعاً في محيط الأهداف المنشودة.
كل الأنظار تترقّب الموقف الذي من المنتظر أن يعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الاثنين المقبل في موسكو خلال الاحتفالات بمناسبة الانتصار السوفياتي على ألمانيا النازية. في هذا اليوم نفسه تحتفل أوروبا بذكرى الإعلان المؤسس للمشروع الأوروبي الذي راهن عليه روبرت شومان بعد خمس سنوات فقط من هزيمة أدولف هتلر، عندما كانت المصالحة بين فرنسا وألمانيا أقرب ما تكون إلى السراب. لعلّ في ذلك نافذة تاريخية للحلم بأن هذه الحرب التي يخشى أن تشعل أوروبا بكاملها، قد تمهّد لعهد جديد من السلم والرخاء، عوضاً أن تكون مدخلاً إلى عصر آخر من الصراعات والأزمات.
الشرق الأوسط