تتابع الأوساط المعنية بالعلاقات المصرية الخارجية، باهتمام وترقب، الجولات المكوكية والاتصالات التي يقوم بها كلاوديو ديسكالزي، رئيس شركة النفط الإيطالية «ايني». وقد جاءت هذه الاتصالات والجولات عقب اكتشاف «ايني» حقل الغاز الذي أطلق عليه اسم «الظهر»، ووصفته «نيويورك تايمز الدولية» بأنه «قد يكون أكبر حقل غاز طبيعي اكتشف في البحر الأبيض المتوسط، وبأنه واحد من أكبر حقول النفط المكتشفة في العالم منذ سنوات» (29-10-2015).
وترمي الاتصالات التي يجريها ديسكالزي إلى إزاحة عقبات وتعقيدات تحيط باستثمار «الظهر». وفي هذه الحالة فإن المفروض أن تنحصر هذه الاتصالات بالزعماء المصريين أنفسهم، فحقل الغاز هو في المياه الإقليمية المصرية، ومن حق المصريين دون غيرهم أن يقرروا سياسات بلدهم في مسألة الطاقة أو في كل ما يمس مصالح بلدهم. هذا صحيح. ولكن يبدو أن ديسكالزي يتحرك في العواصم المعنية على خلفية الأهمية الكبرى ل«الظهر»، إذ إن اكتشافاً بهذا الحجم لا يؤثر في إنتاج الغاز ولا في الأوضاع العامة في مصر وحدها، بل في سائر المناطق والدول المجاورة، ولكن إذا كانت التفاعلات الإقليمية المتوقعة لمثل هذا الاكتشاف التاريخي تقتضي إجراء اتصالات مع القوى المعنية بالأمر، فإنه من المفروض أن تشمل الاتصالات الدول المستوردة والمصدرة للغاز من أجل وضعها في صورة هذا الحدث والتنسيق معها بحيث يتحول «الظهر» إلى مناسبة لتعزيز عرى التفاهم بين مصر والدول العربية، وكذلك الدول المجاورة.
وفيما تتم بعض هذه الاتصالات في أجواء طبيعية، بل ومتفائلة مع عدد من بلدان المنطقة، فإن الأجواء التي تبحث فيها مسألة تداعيات «الظهر» وآثاره في «إسرائيل» تتسم بالتأزم، فكيف نفهم ردة الفعل هذه؟
حتى نجيب عن هذا السؤال علينا مراجعة بعض النظرات الشائعة حول العلاقات العربية-«الإسرائيلية»، حيث إن «الظهر» يوفر فرصة لتبين الخطأ والصواب فيها.
من هذه النظرات أن السلام ممكن بين «إسرائيل» والدول العربية، لأنه ليس للكيان العبري أي غرض توسعي أو مطمع في الأراضي العربية خارج ما يدعى ب«إسرائيل» الجغرافية، أو «إسرائيل التاريخية». هذا ما دأب على تأكيده شمعون بيريز، الرئيس «الإسرائيلي» الأسبق، في رسائله المعلنة إلى اللبنانيين، على سبيل المثال، عندما كان يقول لهم، إننا لا نطمع في شبر من أرض لبنان، ولا في أية قطرة من مياهه، ومن مياه أنهاره. ولكن بينما كان بيريز يوجه هذه الرسائل إلى اللبنانيين، كان آرييل شارون، رئيس حكومة «إسرائيل» الأسبق يبلغ مجلس الأمن أن أية محاولة يقوم بها لبنان للإفادة من المياه اللبنانية التي تمر في جنوبه سوف تعتبر «عملاً حربياً»، ولم يكن منطق «الإسرائيليين» في تعاملهم مع السوريين يختلف عن منطقهم في التعامل مع اللبنانيين. فردّاً على المطالبات السورية المتكررة بالجولان، كان «الإسرائيليون» يرددون أنهم لا يستطيعون التخلي عن الجولان لأن ثلث ما يستهلكونه من المياه يأتيهم من هذه الأرض السورية. هذا معناه أن حاجات «الإسرائيليين» هي التي تحدد سياسة «إسرائيل» تجاه الدول المجاورة، وليست الشرائع الدولية التي تحرم احتلال أراضي الغير.
تختلف علاقة «الإسرائيليين» مع مصر عن علاقتها مع سوريا، أو لبنان، أو الأردن. ف«إسرائيل» لا تحتل أراضي مصرية، كما هو الأمر مع سوريا، ولا هي قادرة على انتهاك السيادة المصرية كما تفعل مع لبنان، أو أحياناً مع الأردن، ولكنها مع ذلك تعامل مصر كأنه من واجب المصريين أن يقدموا باستمرار تأكيدات على حسن نواياهم تجاه «إسرائيل».
ورغم سائر الاتفاقات المعقودة بين مصر و«إسرائيل»، ورغم الإعلانات المتكررة عن تمسك «الإسرائيليين» بالسلام المتكافئ مع مصر والالتزام بموجباته، فإنهم لم ينقطعوا عن التصرف كما لو أن مصر هي دولة ذات سياسة محدودة في علاقتها مع «إسرائيل»، وكما لو أن «إسرائيل» هي ذات موقع ممتاز في علاقتها مع مصر. وفي الحالات والظروف كافة، لم ينقطع «الإسرائيليون» عن الاستنجاد بواشنطن لكي تفرض على مصر، أكبر بلد عربي، القبول بمثل هذه العلاقة المرفوضة.
في هذا السياق، نفهم ردة الفعل «الإسرائيلية» السلبية تجاه «الظهر». ف«إسرائيل» لم، ولن تكون بلداً مكتفياً بذاته. خيارها إما أن تكون عالة على الغرب، أو أن تهيمن على العرب. وفي سعيهم للوصول إلى الخيار الثاني، بدا ل«الإسرائيليين» كأنهم باتوا يمتلكون سوق الغاز المصرية، وأنهم من خلال هذه السوق سوف يتمكنون من تصدير الغاز «الإسرائيلي» إلى مصر، ومن بعدها إلى الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة وأوروبا. ولفرط تأكدهم من خريطة الطريق هذه ومن إمساكهم بالسوق المصرية للغاز، فقد تشددوا مع الشركاء الأمريكيين بغرض أن ينتزعوا منهم أفضل شروط الشراكة.
بعد «الظهر»، يجد «الإسرائيليون» أنفسهم أمام حاجة إلى وضع خريطة طريق جديدة لصادرات الغاز «الإسرائيلي» وأسواقه. صحيفة «جيروزالم بوست» (9-1-15) «الإسرائيلية» تعد «الإسرائيليين» بفرص متجددة في السوق المصرية، أما «وول ستريت جورنال» (2-9-15) المناصرة ل«إسرائيل» فإنها تتوقع أن يجد «الإسرائيليون» أسواقاً بديلة عن السوق المصرية في تركيا اليونان وقبرص. قد تصح بعض هذه التوقعات والتقديرات، ولكن مع تكبد «إسرائيل» خسائر جسيمة. ولكن المغزى الأهم لفصل «الظهر» في تاريخ العلاقات العربية – «الإسرائيلية»، هو أنه يقدم دليلاً جديداً على أن «إسرائيل» ليست كياناً مجاوراً للدول العربية يرغب في السلام معها، بل هو كيان يطمح إلى الهيمنة عليها، وإلى توظيف طاقاتها وثرواتها في خدمة المستوطنين والغزاة الصهاينة.
رغيد الصلح
صحيفة الخليج