العالم العربي يتفرج على حرب أوكرانيا وغير مستعد لإزعاج بوتين

العالم العربي يتفرج على حرب أوكرانيا وغير مستعد لإزعاج بوتين

دخلت الحرب في أوكرانيا الآن مرحلة أكثر خطورة من أي وقت مضى، وتستمر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في اتخاذ موقف يبقي خياراتها مفتوحة ويتجنب إزعاج فلاديمير بوتين، لكنه ينبئ بنظام عالمي جديد يتشكل على وقع الأزمات في المنطقة والعالم.

لندن – ينظر القادة في الدول العربية والخليجية إلى الحرب الروسية – الأوكرانية التي تجاوزت الشهرين بحذر مدروس، حيث تُلقي هذه الأزمة بتداعياتها على هذه الدول جميعها دون استثناء، ومن شأن أي قرار غير متّزن من قادتها أن يلحق ضررا كبيرا بعلاقاتها مع موسكو ومصالحها الخاصة.

وعندما بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا كان اللاعبون الأقوياء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حريصين على عدم استعداء فلاديمير بوتين.

ولا يتوقع الدكتور أندرياس كريغ، الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الدفاعية بكلية الملك في لندن، حصول أي تحول في هذا النهج من القادة السعوديين والإماراتيين والمصريين، على الأقل في هذه المرحلة.

نظام عالمي جديد
قال كريغ في حوار لمؤسسة “عرب دايجست” الاستشارية “أعتقد أن هناك تحالفا أيديولوجيا بين هؤلاء اللاعبين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وروسيا. ولا يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية فقط، أو بالطاقة، أو بالمصالح العسكرية كما قال البعض، بل أعتقد أنه أعمق من ذلك بكثير؛ فهو تحالف أيديولوجي. وأرى أننا في لحظة محورية في التاريخ العالمي حيث يُعاد خلط جميع الأوراق وسنرى النظام الليبرالي القديم الذي تشكّل بعد الحرب الباردة ينهار، أو على الأقل يتعرض لتحديات كبيرة تهدد وجوده”.

أندرياس كريغ: حياد الدول العربية يفسّر بأنه انحياز إلى روسيا والصين

وتابع “نشهد صعود نظام بديل في الشرق. ومن الواضح أن روسيا جزء منه. وأرى أن مصر والسعودية والإمارات تحاول الاندماج في هذا النظام بدلا من محاولة التقرب من الغرب. هي تتعلم كيفية تنظيم الشؤون السياسية والاجتماعية، وتشعر بأنها لم تعد مرتبطة ارتباطا وثيقا بأي شروط قادمة من الغرب لأن هناك بدائل الآن. وأعتقد أن هناك عامل مجموع صفري في هذا السيناريو، لأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي تتوقع من شركائها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن يدعموها”.

وكانت السعودية والإمارات ومصر مترددة في ذلك، وقالت “نعم، نحن شركاء مع الغرب. ولكننا شركاء مع الشرق أيضا”. وتتجه أنظار الكثيرين، خاصة في الإمارات، إلى بكين وليس إلى واشنطن أو بروكسل أو لندن أو باريس. وتبدو موسكو أقرب بكثير من الناحية الأيديولوجية إلى بكين منها إلى بروكسل.

لذلك يعتقد الخبير العسكري أن هذه البلدان ستبقى محايدة على المدى الطويل. وعندما تظل محايدة يبدو من وجهة نظرنا الغربية أنها تنحاز إلى روسيا والصين.

وتحاول قطر أيضا توظيف الأزمة الروسية – الأوكرانية لصالحها؛ إذ تعمل على أن تصبح البديل الجديد للغاز المسال، حيث تريد أوروبا -وفي مقدمتها ألمانيا- توقيع شراكات طويلة المدى مع الدوحة تضمن لها النأي بنفسها عن الغاز الروسي.

ويقول كريغ إن قطر -مثل عمان وخاصة الكويت- تتخذ موقفا مختلفا بشأن هذا الأمر. وهو في الأساس نهج أيديولوجي يدعم النهج القائم على المصالح الذي اتخذه القطريون أيضا خلال أحداث الربيع العربي. ويوجد في أيديولوجيتهم عنصر قوي جدا، ليبراليا على الأقل، إن لم يكن ديمقراطيا. وهذا ما لا يتوافق بشكل جيد مع الأيديولوجيا الروسية.

وعندما ننظر إلى النضالات الثورية ما بعد الربيع العربي في مصر وليبيا وسوريا، يتبين لنا أن القطريين كانوا دائما على الجانب الآخر من مكان وجود الروس.

وقد تعرض القطريون مرة أخرى للتنمر من قوى خارجية، وكانت بعض هذه القوى أكبر حجما من حيث قوتها العسكرية خلال الأزمة الخليجية مع قطر التي استمرت من 2017 إلى 2021. وجربوا انتهاك سيادتهم وعدم احترام سلامتهم الإقليمية. لذلك يجب أن يكون هناك توافق أيديولوجي طبيعي مع مصير الأوكرانيين.

ولهذا السبب اتخذ القطريون -دون انتقاد مباشر للروس- موقفا يدعم الأوكرانيين. لكنهم في نفس الوقت يترددون في شجب روسيا، حسب رأي كريغ.

وخلال منتدى الدوحة في مارس الماضي قال القطريون دون تسمية روسيا إنهم يدافعون عن السيادة ووحدة الأراضي، وإنهم يدعمون النظام القائم على القواعد الليبرالية ومستعدون للدفاع عنه. ثم دعوا فولوديمير زيلينسكي إلى التعبير عن وجهة نظره. وهكذا، تحدث زيلينسكي باسم أوكرانيا ولم يتحدث القطريون نيابة عن الأوكرانيين. وما يظهر أن القطريين ممزقون بعض الشيء هو أنهم لا يريدون اتهام الروس.

اللاعبون الأقوياء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حريصون على عدم استعداء بوتين

لكن قطر بلد يستفيد بشكل كبير من هذا الصراع لاسيما في مجال الطاقة، ووسع مجاله الشمالي، بينما استثمر مليارات الدولارات في هذا التوسع. وفي ذلك الوقت من 2019، عندما أعلن عن ذلك، كان الكثير من الناس يقولون إن “هذه مخاطرة كبيرة جدا، لأنه قد لا يكون هناك طلب على إنتاجهم وقد لا يتمكنون في الواقع من بيعه كله”.

وما نراه الآن هو عكس ذلك، حيث تحاول الدول الأوروبية بشكل خاص قطع علاقاتها مع روسيا، خاصة في مجال الطاقة. وتوفر قطر الآن بديلا. وستطرح كميات ضخمة من الغاز الطبيعي المسال في السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة ويتطلع القطريون إلى التعاقد على ذلك. لذلك تستفيد قطر كثيرا من الحرب كما أنها تستفيد أيضا من ارتفاع أسعار الطاقة. ويجب ألا ننسى أن روسيا منافس في قطاع الغاز والطاقة. لذلك فإن ما يحدث ضد روسيا سيعود على القطريين بالفائدة.

وعلّق كريغ على التقارير التي تقول إن أسرة آل ثاني الحاكمة منقسمة حول كيفية التعامل مع بوتين، قائلا إنه انقسام طفيف لأن ما فعلته قطر خلال العام ونصف العام الماضيين على وجه الخصوص هو التمحور بوضوح إلى جانب الولايات المتحدة والغرب وأدارت ظهرها لهذا النظام الشرقي. والقطريون يساعدون كلما طلب الأميركيون منهم ذلك. وقد رأينا ذلك في أفغانستان، أو حتى في غزة.

وعندما كانت أزمة الطاقة تلوح في الأفق في يناير قال القطريون: نعم، يسعدنا تقديم المساعدة إذا كان بإمكاننا تحويل بعض شحناتنا بعيدا عن آسيا نحو أوروبا، وسيسعدنا ذلك حقا. لذلك نجد أن القطريين، بين دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، ليسوا مجرد شريك للولايات المتحدة أو شريك للغرب، وإنما أصبحوا حليفا بشكل واضح.

ويُعتبرون حليفا رئيسيا للولايات المتحدة من خارج الناتو. لكن هناك بعض الأصوات في قطر تقول إنهم بحاجة إلى التنويع أيضا؛ حيث لا يمكنهم وضع كل بيضهم في السلة الغربية، كما لا يمكنهم وضعه في السلة الأميركية، ويجب ألا يُنظر إليهم على أنهم دولة تابعة للولايات المتحدة أو الغرب.

ويعتقد الأكاديمي البريطاني أن بعض الأصوات تقول “لنكن أكثر توازنا”.

نفاق ليبرالي
اللاعبون الأقوياء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

في مقال كتبه مؤخرا لموقع “ميدل إيست آي” قال أندرياس كريغ إن أحد الأشياء التي ترتبت على الحرب في أوكرانيا هو الكشف عن النفاق في قلب الديمقراطية الليبرالية عبر “الاسترداد الاستبدادي”.

وأوضح هذه الفكرة بالقول إن النظام الليبرالي يقوم على قيمتين؛ إحداهما حق السيادة وحق الدول، والأخرى هي حقوق الأفراد. وتتعلق حقوق الدول بحرمة وحدة أراضيها وسيادتها. وعلى الجانب الفردي يتعلق الأمر بحقوق الإنسان وبالتحرر من القمع وحق تقرير المصير الفردي. وهذا هو كل ما يدور حوله النظام الليبرالي. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل أن الدول التي تعرّف نفسها على أنها دول ليبرالية -باعتبارها المدافعة عن ذلك النظام- قد فعلت ما يكفي للدفاع عن هذه القيم وعملت على إنجاز ذلك بشكل متسق ومتماسك؟ والإجابة هي بالطبع لا.

وقدّم كريغ غزو العراق في 2003 مثالا على ذلك، حيث جسّدت الحرب انتهاكا كبيرا للقيم الليبرالية والنظام القائم على القواعد الليبرالية. كما انخرط الغرب في الصراع الدائر في ليبيا، لكنه تجاهل سوريا لأنها لا تناسب مصالحه، أو لأنه كان من المتوقع أن تكون التكاليف مرتفعة للغاية. وقد رأينا أشياء مماثلة في ما يتعلق باليمن وبالثورة المضادة أيضا؛ حيث وقف الغرب مكتوف الأيدي بينما نجحت الإمارات ومصر والسعودية في تقليص تبعات الربيع العربي والتبعات الليبرالية.

وحتى لو تجاوزت ذلك، فإن الروايات التي استخدمها أعداء الثوار لتبرير كون الاستقرار الاستبدادي هو السبيل الوحيد لإدارة الشؤون الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، قد تبنت الدول الغربية بالفعل بعضها.

ونرى هذا في الانتخابات الفرنسية الأخيرة والروايات التي استخدمتها مارين لوبان وإيمانويل ماكرون أيضا: فكرة أن الإسلاموية والنشاط الإسلامي هما الإرهاب. ومن الواضح أن الأمر نفسه ينطبق على الحزب الجمهوري، حيث يتبنى العديد من أتباع حركة دونالد ترامب في الولايات المتحدة روايات مماثلة. وإذا سألتهم عن الشرق الأوسط، فإنهم سيقولون إن أفضل طريقة لتنظيم الشرق الأوسط وتشكيله هي من خلال إنشاء نظام من الاستقرار الاستبدادي، حيث يضع الحكام الاستبداديون غطاءً على أي نوع من النشاط، وبالتالي يخلقون الاستقرار الذي من الواضح أنه عرض قصير المدى للغاية.

ويقول كريغ إن جميع البيانات تظهر أن الأنظمة القمعية طويلة المدى لن تكون قادرة على النجاح، وسيكون لدينا ربيع عربي آخر. من الواضح أنه ليس نهجا استراتيجيا، وإنما هو أيديولوجيا حيث يتشارك المستبدون هذه الأنواع من الروايات مع الليبراليين غير الحقيقيين. وأعتقد أن هذا قد قوض النظام الليبرالي إلى حد كبير.

وفي غضون ذلك، مع اقتراب السعوديين والإماراتيين والمصريين والبحرينيين من إسرائيل، يستمر تجاهل حقوق الفلسطينيين في المنطقة وفي الغرب.

ومن الواضح أن أسوأ جزء من كل هذا التحرك خارج الربيع العربي هو مصير الفلسطينيين، ودعم إسرائيل، والطريقة التي استُخدم بها حق إسرائيل في الوجود لتبرير كل نوع من القمع ضد أي نوع من النشاط الفلسطيني مع إنكار حق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولتهم الخاصة.

ثم نجد العنف: العنف السياسي والعنف النفسي والعنف الجسدي الواضح الذي يستخدمه الإسرائيليون ضد الفلسطينيين. يمر هذا النوع من العنف دون عقاب. ولم يقف كل هؤلاء المدافعين عن النظام الليبرالي ضده. كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن تقف إسرائيل إلى جانب الدول العربية الآن، لأنهم جميعا يعتقدون أن النشاط العربي يؤدي بشكل أساسي إلى عدم الاستقرار. ولطالما اعتقد الإسرائيليون أنه إذا كان الشارع العربي قادرا على تقرير مصيره السياسي والمجتمعي، خارج الأنظمة القمعية، فإنه سيخلق نظاما في العالم العربي أو في الشرق الأوسط يكون معاديا لإسرائيل.

ويرى كريغ أنه يوجد تحالف أيديولوجي يشترك فيه الإسرائيليون مع الروس، وهو تحالف يتقاسمونه مع السعودية والإمارات وكذلك مع مصر. وتنحرف إسرائيل في الواقع بعيدا عن النظام الليبرالي، وتندمج كثيرا في نظام استبدادي جديد في هذا الجزء من العالم. فليس من المفاجئ حقا أن الإسرائيليين لم يتخذوا موقفا قويا جدا إلى جانب أوكرانيا، على الرغم من حقيقة أن الرئيس زيلينسكي يهودي، وأن الأوكرانيين اليهود يعانون على أيدي الروس. ولم تدافع إسرائيل عنهم حقا، لكنها في الواقع كانت محايدة إلى حد ما، بل أحيانا موالية لروسيا.

وفي غضون ذلك وقف العالم الليبرالي مكتوف الأيدي تجاه القضية الفلسطينية ولم يقل أي شيء. ورغم أعمال العنف التي تطال الآن الفلسطينيين في الأقصى، نرى الأوروبيين والأميركيين ووسائل الإعلام يقولون إن علينا أن نسمع كلا الجانبين، على الرغم من انتهاك جانب واحد ومنعه من أن يصلي بسلام. ونرى الجانب الآخر يستخدم أساسا العنف المسلح والقوة الغاشمة ضد مدنيين.

ويشدد كريغ على أن هذا ما قوض بالتأكيد مصداقية النظام الليبرالي.

العرب