يبدو أن النزاع الخفي بين أفغانستان ودول الجوار حول المياه بدا يطفوا على سطح العلاقات بصورة أكثر وضوحًا من قبل؛ إذ تُعد قضية توزيع واستخدام الموارد واحدة من أكثر المشاكل المستعصية على الحل مع الجيران وخاصة مع إيران. ويعود بعض هذه الخلافات إلى قرن كامل وظهرت مجددًا منذ إعلان الحكومة الأفغانية بناء السدود وإدارة المياه التي تصب في الأراضي الإيرانية.
تناقش هذه الورقة بعد وضع خلفية تاريخية من النزاع بين أفغانستان وإيران في إطار سياسة الحكومة الأفغانية الجديدة بشأن تنظيم المياه وبناء السدود.
خلفية النزاع على المياه بين أفغانستان وإيران
تعد قضية تقاسم المياه بين أفغانستان وإيران واحدة من أهم القضايا السياسية والإجتماعية والبيئية بين البلدين منذ سنوات طويلة والتي كانت مصدر نزاع وصراع منذ قرن ونصف، والنزاع حول مياه نهر هلمند جنوب أفغانستان له تاريخ طويل من المناقشات والمفاوضات حول تقسيم المياه بين البلدين. حاولت إيران وبشتى الطرق أن تثبت حقها في المياه ولم تدخر جهدًا في الوصول إلى هدفها، وهو ما قوبل بمعارضة من الحكومات التي تعاقبت على أفغانستان. وانصبَّ النزاع الأفغاني-الإيراني حول مياه نهر هلمند جنوب أفغانستان، وهو الوحيد من بين الأنهار الأفغانية الذي يصب مياهه في إيران.
مشكلة نهر هلمند وتحكيم كولد سميث
برز الخلاف المائي بين أفغانستان وإيران في 1882 وعندما فشل الطرفان في حل المشكلة اتفقا على اللجوء إلى لجنة تحكيم “غولد سميث”(1) المكلفة بترسيم الحدود بين البلدين.
بدأت اللجنة في19 اغسطس/أب 1882 بترسيم الحدود، وتقاسم مياه نهر هلمند بين البلدين، وبعد فشل اللجنة في المهمة، أوصت بأنه “ينبغي على الطرفين عدم بناء منشآت أو سدود على طول نهر هلمند حتى لا يتسبب في تقليل المياه في المصب” ولكن الحكم لم يحقق نتائج إيجابية(2).
لجنة تحكيم مكماهون، ومسألة تقسيم مياه هلمند
عُيِّن العقيد هنري مكماهون(3)، سنة 1903، لرسم حدود جديدة بين أفغانستان وإيران؛ وذلك للتغيير الذي حصل في مسير نهر هلمند العام 1896، والذي كان سببًا لظهور العديد من الخلافات الجديدة بين الطرفين.
وقد قام مكماهون بتقسيم المياه في 1905، مما أضاف مشاكل أخرى، بسبب قراره بتقسيم المياه بين الطرفين بالتساوي، وطالب الجانبَ الأفغاني بعدم بناء سدود من شأنها إلحاق الضرر بإمدادات المياه لإيران وحكم مكماهون بأن من حق طهران الاستفادة من ثلث مياه نهر هلمند في منطقة ” كوهك” قرب الحدود الإيرانية-الأفغانية ولكن الجانب الأفغاني لم يقبل بهذا الحكم، ورأى أنه “يفتقر إلى الحياد” فيما يتعلق بحل المشكلة بين البلدين. كلَّف مكماهون ضابطًا بريطانيًّا للإشراف على تطبيق الحكم حول نهر هلمند وقوبل هذا الحكم بالرفض من الأفغان أيام حكم الأمير حبيب الله خان(4).
لجنة تحكيم فخر الدين آلتاي
تفاقم النزاع بين أفغانستان وإيران في 8 مارس/آذار 1934 بسبب رفض المادة 10 من معاهدة 1921 المبرمة بين الطرفين (والتي تنص على تحكيم بريطانيا في الاختلافات الحدودية)؛ فقررت كابل وطهران اللجوء إلى تركيا للتحكيم بينهما، وقد وافقت الأخيرة على ذلك، وأرسلت الجنرال فخر الدين آلتاي على رأس لجنة تحكيم، وكان من المقرر أن تقدم الدولتان شكوييهما قبل شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1934 إلى اللجنة عن طريق تركيا وعيَّنت إيران مهدي فرُخ رئيسًا للهيئة الإيرانية المؤلَّفة من 20 خبيرًا في لجنة التحكيم، أما الحكومة الأفغانية فقد عيَّنت حاكم هرات، عبد الرحيم خان، على رأس الهيئة الأفغانية(5).
قام أعضاء اللجنة بزيارة المنطقة المتنازع عليها، وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، ذهبوا إلى كابل، وفي 22 من نفس الشهر -ولأجل استكمال التحقيقات- عادوا إلى منطقة الحدود.
بقي أعضاء اللجنة ثلاثة أسابيع في مدينة مشهد الإيرانية، وفي 29 ديسمبر/كانون الأول ومن أجل المزيد من التحقيقات ذهبوا إلى مديرية غوريان في ولاية هرات، وفي 18 يناير/كانون الثاني 1935، التقى ممثلو أفغانستان وإيران لتبادل الوثائق بين الطرفين(6).
تفقد الوفد المناطق المتنازع عليها من نقطة الحدود إلى جنوب سياه كوه “الجبل الأسود” وفي الشهر نفسه زاروا هرات، حينها استدعى الجنرال آلتاي الطرفين إلى جلسة مشتركة، وبدأت خطوات الوساطة بشكل مختصر وبعدها ترك آلتاي اللجنة وعاد إلى بلاده تركيا دون أن تحقق وساطته تقدمًا ملموسًا في ملف المياه بين أفغانستان وإيران(7).
جلس الأفغان والإيرانيون للمرة الرابعة بين عامي 1936-1939 وطالبت إيران بنصف المياه التي تصب في “سد كمال خان” في ولاية نيمروز، واشترطت على أفغانستان عدم بناء أية منشآت تؤدي إلى نقص المياه ولكن الجانب الأفغاني لم يقبل عرض الإيرانيين لأنه يحتاج إلى مصادقة البرلمان عليه.
1
سد كجكي في ولاية هلمند الأفغانية (المصدر: وكالة الأنباء الأفغانية آوا)
اتفقت أفغانستان وإيران، في 28 فبراير/شباط 1951، على تشكيل لجنة للنظر في القضايا العالقة بين الطرفين، وزار أعضاء اللجنة نهر هلمند جنوبي أفغانستان، وبعد الدراسة سلَّم الجانب الإيراني تقريره للحكومة الأفغانية وبيَّن فيه ما تحتاجه طهران من المياه، وبعد سنتين وافقت الحكومة الأفغانية على مطالب إيران التي عادت وتراجعت عنها بعد عامين بحجة أن الدراسة تحرمها من حقها في مياه نهر هلمند، ومرة أخرى فشلت مفاوضات واشنطن حول تقاسم مياه نهر هملند بين البلدين، العام 1956(8).
وبعد سنوات من فشل مفاوضات واشنطن التقى ممثلو أفغانستان وإيران لمناقشة تقاسم مياه نهر هلمند، وفي 25 يناير/كانون الثاني 1959، وصل ممثل الحكومة الأفغانية، محمد كبير لودين، إلى إيران لتسليم عرض الحكومة الأفغانية بمنح كمية من المياه لحل المشكلة بين البلدين، إلا أن الجانب الإيراني طلب مهلة للنظر في العرض الأفغاني.
وقد تمحورت النزاعات في أغلبها حول نهر هلمند جنوب أفغانستان الذي يتدفق داخل إقليم سيستان وبلوشستان الإيراني وهو مصدر مياه مهم للسكان في كل من أفغانستان وإيران.
التقى ممثلو أفغانستان وإيران بعد سقوط حكومة حركة طالبان تسع عشر مرة للنظر في قضية المياه بين الطرفين ولكن هذه اللقاءات باءت بالفشل لأن الجانب الإيراني رفع سقف مطالبه واعتراضاته على السياسة المائية للحكومة الأفغانية معتبرًا أن حركة طالبان تنتهج نفس السياسة(9).
الاتفاقية التي وُلدت ميتة!
بعد أكثر من قرن من النزاع حول مياه نهر هلمند، أطول نهر في أفغانستان، يمتد على مسافة 1.150 كيلومترًا من جبال هندوكوش، التي تقع بمسافة نحو 80 كيلومترًا غربي كابل، ومن ثم ينساب جنوب الغربي عبر الصحراء إلى أهواز سيستان ومنطقة بحيرة هلمند المحيطة بزابل قرب الحدود الأفغانية-الإيرانية.
جرى تبادل الزيارات بين المسؤولين الأفغان والإيرانيين وتعيين اللجان لبحث آلية حل المشكلة إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل والسبب الرئيسي هو أن الجانب الأفغاني يعتقد أن هذه الأنهار كلها أفغانية وأن إيران أخذت أجزاء كبيرة من الأراضي الأفغانية وضمتها داخل حدودها(10).
تولى موسى شفيق، في 24 ديسمبر/كانون الأول 1972، رئاسة الوزراء في أفغانستان، وهو سياسي جمع بين العمل الأكاديمي الجامعي والممارسة السياسية، كلَّفه الملك الراحل، محمد ظاهر شاه، بتشكيل الحكومة.
وجاءت مبادرته بشأن حل المشاكل المائية مع إيران وفق نظريته المعروفة “تصفير مشاكل مع الجيران” التي أقلقت الاتحاد السوفيتي والمحسوبين على التيار الشيوعي في أفغانستان، لذا أسرعوا بالتخلص منه عبر انقلاب أبيض قام به محمد داود، ابن عم الملك الراحل محمد ظاهر شاه، ويعتبر من مؤسسي دبلوماسية المياه في أفغانستان.
يكتب النائب البرلماني السابق، عبد الغفار فراهي، في كتابه ” أفغانستان في عهد الجمهورية والديمقراطية”: “طلب مني رئيس الوزراء، موسى شفيق، أن أزوره في مكتبه، عندما وصلت سألني عن رأيي حول اتفاقية تقاسم المياه مع إيران، فقلت له: هذا نهر داخلي وليس للإيرانيين أي حق فيه، ويجب عدم منح إيران في كل ثانية ستة وعشرين مترًا مكعبًا من المياه، وقلت له: لم يتجرأ رؤساء وزراء سابقون على النظر في هذه القضايا الحساسة، لماذا أنت مصرٌّ على حل هذه المشكلة؟
نزل الدمع من عينه، وأضاف: “هذا دليل تخلف أفغانستان، الآن قررت حل مشاكل أفغانستان مع الجيران وليحكم التاريخ كما يشاء”(11).
وفعلًا، وقَّع رئيس الوزراء الأفغاني الأسبق، موسى شفيق، ونظيره الإيراني، أمير عباس هويدا، اتفاقية تقسيم مياه نهر هلمند، والتي اشتهرت لاحقًا باتفاقية شفيق-هويدا، في 12 مارس/آذار 1973. وفقًا للاتفاقية، تستطيع إيران الاستفادة من 22 مترًا مكعبًا في الثانية، ثم منح 4 أمتار مكعبة أخرى لحسن النية، هذه الكمية كانت أقل من 10 في المئة من إجمالي المياه التي تحصل عليها إيران سابقًا من أفغانستان(12).
بعد توقيع الاتفاقية بين الجانبين في كابل، كان الجميع يعتقد أن البرلمان الأفغاني لن يصادق عليها لكنه وافق على الاتفاقية لسببين رئيسين:
الأول: أن رئيس الوزراء، موسى شفيق، أقنع النواب، وثانيًا: كانت مدة البرلمان على وشك الانتهاء ولم يعترض النواب على قرار الحكومة، حتى يتسنى لعدد منهم الترشح للمرة الثانية والفوز بمقاعدهم في البرلمان(13).
لم يحدث تبادل الوثائق بين الطرفين بسبب الانقلاب الذي أطاح بحكومة رئيس الوزراء الأفغاني، موسى شفيق، وحكومة رضا شاه بهلوي في إيران.
كان ابن عم الملك الراحل ظاهر شاه، محمد داود، من أشهر معارضي هذه الاتفاقية ويكتب وحيد مژده، الموظف السابق في الخارجية الأفغانية، في كتابه “العلاقات السياسية بين إيران وأفغانستان في القرن العشرين”:
“عارض داود خان الاتفاقية بين أفغانستان وإيران، وحسب مصادر حكومية كان يحرِّض عددًا من السياسين والنواب ضدها، وبعد الانقلاب ضد الملك الراحل، محمد ظاهر شاه، قال في مؤتمر صحفي ردًّا على سؤال حول الاتفاقية: “بكل بساطة، ليس لديَّ معلومات عن الاتفاقية”(14).
وندد التيار الشيوعي بالاتفاقية واعتبرها خيانة ولقب رئيس الوزراء، موسى شفيق، بـ”بائع المياه”، ولم يقتصر التنديد على المعارضة فقط وإنما اعترض أيضًا رئيس الوزراء السابق، هاشم ميوندوال، على الاتفاقية بين أفغانستان وإيران.
رغم معارضة داود خان والأحزاب الشيوعية، وقَّع رئيس الوزراء، موسى شفيق، على الاتفاقية لأنه كان يسعى لحل المشكلة مع إيران حتى يتفرغ لبدء مشاريع تنموية أخرى في الجنوب الأفغاني لكن حلمه لم يتحقق وأطيحت حكومته نتيجة الانقلاب وأُعدم لاحقًا على أيدي الشيوعيين.
مع أن الاتفاقية لم تر النور بسبب الإطاحة بحكومة موسى شفيق والاجتياح السوفيتي لأفغانستان، العام 1979، وانعدام الأمن في كافة أرجاء أفغانستان، إلا أنها شكَّلت خطوة مهمة في حل النزاع بين البلدين(15).
وفي الجانب الإيراني نرى أن عددًا كبيرًا من الإيرانيين لم يكونوا راضين عن أداء حكومة أمير عباس هويدا في ملف تقسيم المياه؛ يقول وزير البلاط الإيراني، أسد الله علم، في مذكراته: “بعد وصول المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الأفغاني، محمد داود خان، إلى طهران لتبادل الوثائق مع وزير الخارجية الإيراني بقيت مستيقظًا إلى وقت متأخر من الليل، مدحت المبعوث الأفغاني ولعنت الدولة الإيرانية، لأنه دافع عن حق بلاده في المياه وهدَّد الجانب الإيراني، وقال: “لا نقبل مساعدتكم على حساب المياه وغادر طهران”(16).
ويعتقد الكاتب الإيراني، بابيلي يزدي، “أن رئيس الوزراء، موسى شفيق، الذي وقَّع اتفاقية تقسيم المياه مع إيران، حدَّد بحنكته السياسية حق إيران في مياه نهر هلمند؛ حيث كانت إيران تستفيد من 70% في المئة من المياه الأفغانية، وعندما جاء الإنجليز منحوا الإيرانيين 50%، فيما أعطت حكومة موسى شفيق إيران 26% فقط، واعتبر هذا “مكسبًا عظيمًا للدبلوماسية الأفغانية وهزيمة للإيرانيين”، حسب تعبيره(17).
وُلِدت اتفاقية تقسيم المياه بين أفغانستان وإيران ميتة، لأن الوثائق لم تُتبادَل بين الطرفين بسبب انقلاب داود خان على ابن عمه، الملك محمد ظاهر شاه، وأثارت جدلًا واسعًا بين الأحزاب السياسية والمعارضين في كلا البلدين.
واستفحلت القضية بين البلدين، خصوصًا أيام الرئيس الأفغاني الأسبق، محمد داود خان، في سبعينات القرن الماضي. إضافة إلى ذلك، يرى الأفغان أن إيران ليس لديها حق في مياه نهر هلمند ويعارضون مقاسمتها مع إيران وفق المعاهدات التي وضعها المستعمر البريطاني سابقًا. وبوصول الشيوعيين إلى السلطة، في 27 أبريل/نيسان 1978، تعقَّد الوضع أكثر بين أفغانستان وإيران، وأدى التوتر الأمني والاجتياح السوفيتي السابق إلى توقف مشاريع بناء السدود غرب وجنوب أفغانستان.
حرب السدود
إن المياه في مجال السياسة الخارجية، سبب في التعاون بين الدول كما هي سبب الخلافات والنزاعات. ومن هنا يُعتبر الأمن المائي على المستوى العالمي ذا أهمية كبيرة إلى جانب الأمن الغذائي، والعلاقة المائية بين أفغانستان وجيرانها ألقت بظلالها على العلاقات الدبلوماسية والاستراتيجية، وملف المياه بين أفغانستان وإيران حاضر في كل اللقاءات والزيارات، وحسب مصدر في مجلس الأمن القومي الأفغاني “لا أتذكر أن وفدًا إيرانيًّا جاء إلى كابل ولم يتطرق إلى ملف المياه”(18).
توجد في أفغانستان عشرة أنهار مختلفة، بعضها مشترك مع دول الجوار (مثل نهر هلمند الطويل الذي يصب في شرق إيران)، وبعضها الآخر يتدفق حصريًّا داخل حدودها.
من أطول هذه الأنهار نهر “آمو داريا” المشترك مع طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، ومن أقصرها نهر كونر المشترك مع باكستان، علمًا بأن هناك نهرًا آخر مشتركًا بينهما هو نهر كابل.
وطوال قرون، وبسبب موقعها الجغرافي، تتدفق معظم المياه من أنهار أفغانستان الرئيسية شمالًا صوب آسيا الوسطى وشرقًا صوب باكستان وغربًا صوب إيران دون أن يستفيد منها الأفغان.
تحوز أفغانستان 57 مليار متر مكعب من متوسط الأنهار السنوي ولكنها لا تستهلك إلا أقل من 30% ويذهب المتبقي من المياه إلى دول الجوار(19).
على عكس سياسة الرئيس الأفغاني الأسبق، حامد كرزاي، الذي تجنب إثارة المشاكل مع جارتها الغربية (إيران) لأنه لم يكن يريد إشغال نفسه وحكومته مع إيران بينما كان على خلاف كبير مع الحكومة الباكستانية على خلفية دعم المخابرات الباكستانية لحركة طالبان واتهامه لها بزعزعة الاستقرار في أفغانستان منذ العام 2004(20)؛ عندما وصل الرئيس الأفغاني السابق، محمد أشرف غني، إلى سدة الحكم، العام 2014، تصاعدت حدة الاحتقان بين إيران وأفغانستان حول مشاريع بناء السدود التي تعتزم الأخيرة بناءها غرب البلاد وجنوبها وخاصة في ثلاث ولايات، وهي: هرات وفراه ونيمروز التي تقع على الشريط الحدودي مع إيران.
أطلق الرئيس الأفغاني السابق، أشرف غني، سياسة “المياه مقابل اللجوء” موضحًا في تصريح له أن أفغانستان لن تطلب من أحد مساعدة اللاجئين فدول الجوار أيضًا بحاجة إلى تعاون أفغانستان في ملف المياه(21).
تعتقد أفغانستان أنها بإمكانها التحكم بسياسات إيران وقرارتها بشأن أفغانستان عن طريق ملف المياه، لتتحكم بشراء النفط وملف اللاجئين في إيران، وذلك عن طريق إقامة السدود على مجاري الأنهار التي تنبع من أراضيها، ولكنها -وحسب الدراسات التي أجرتها وزارة المياه والري- تحتاج إلى نحو 11 مليار دولار لتنفيذ مشروعات المياه التي تتطلع إليها لبناء السدود.
خطَّط الرئيس الأفغاني السابق لإنشاء 49 سدًّا في عموم أفغانستان لتنظيم الأنهار وإدارة المياه ورسم الاستراتيجية المائية لبلاده وأمر بتعديل قانون المياه على أمل استخدامه ورقة ضغط على دول الجوار(22).
استغلت إيران حالة أفغانستان المتوترة منذ خمسة عقود وبنت أكثر من ثلاثين سدًّا داخل أراضيها على أنهار تتدفق إلى إيران، وقامت بمساعدة خبراء يابانيين بحفر الآبار في ولاية سيستان وبلوشستان والتي تحافظ على مليار متر مكعب من المياه الأفغانية دون المشورة مع الجانب الأفغاني، ومد أنابيب بطول 192 كيلومترًا إلى مدينة زاهدان، وتقول الحكومة الأفغانية إنها تعارض كل الاتفاقيات بين البلدين.
فاقمت المشروعات التنموية التي تقوم بها أفغانستان من حدة النزاع حول مياه نهر هلمند؛ إذ تخشى إيران من أن يُمنع تدفق المياه بشكل أكبر مع بناء السدود داخل الأراضي الأفغانية بغرض تعزيز القطاع الزراعي في أفغانستان، ويعتبر سدُّ كمال خان في ولاية نيمروز وكجكي في ولاية هلمند مثالًا على تلك المشاريع إذ تشعر إيران بقلق من أن يمنع هذا السد تدفق المياه إلى إقليم سيستان وبلوشستان الإيراني.
يقول مسؤول في وزارة الكهرباء والمياه: “بعد وصول حركة طالبان إلى السلطة، في 15 أغسطس/آب الماضي، طلبت إيران كعادتها من الحكومة الجديدة بدء المفاوضات بشأن تقسيم المياه والنظر في اتفاقية موسى شفيق-هويدا وتعتقد أنها لا تحصل على الكمية التي تحتاجها ولكنها لا تقبل بأن الجفاف أثَّر على كمية المياه في أفغانستان وأن الحكومة الحالية تقول إنها تلتزم باتفاقية شفيق-هويدا بشأن تقاسم المياه بين أفغانستان وإيران”(23).
ويعتقد مستشارون وصنَّاع قرار في إيران أن ندرة المياه في المنطقة يُمكن أن تسبِّب توترًا بين إيران وجيرانها في المستقبل القريب، وأن طهران تُفضِّل حل الخلافات حول المياه مع جيرانها من خلال الدبلوماسية بدلًا من المواجهة العسكرية. وفي مؤتمر وطني حول دبلوماسية المياه في طهران، دعا الجنرال رحيم صفوي إلى “محادثات مفتوحة حول إدارة المياه” مع العراق وأفغانستان وتركيا وبلدان أخرى تتقاسم موارد المياه مع إيران.. وأشار إلى أن إيران تتشارك موارد المياه مع 12 دولة مجاورة، وأكد أنه مع تفاقم مشاكل المياه في المنطقة، سيكون هناك المزيد من التعاون أو المواجهة بين إيران وجيرانها في المستقبل(24).
هذه ليست المرة الأولى التي يُحذِّر فيها مسؤول إيراني كبير من أن التناقص في وفرة المياه والتغيرات في المناخ قد يوتِّران علاقات إيران مع جيرانها.
اتهم الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، الدول الإقليمية، لاسيما تركيا وأفغانستان، بمفاقمة المشاكل البيئية في إيران والمنطقة الأوسع من خلال بناء سدود كبرى من دون التشاور المُسبَق مع الجمهورية الإسلامية، وأشار روحاني إلى “أن بناء سدود عدة في أفغانستان -سدود كاجاكي وكمال خان وسلما وسدود أخرى في شمال وجنوب أفغانستان- يؤثر على محافظتي خراسان، وسيستان وبلوشستان”(25).
جميع الحكومات الإيرانية تطالب أفغانستان باتفاق جديد حول تقاسم المياه بينها وبين أفغانستان. وفي أحدث ردِّ فعل بعد موجة الجفاف التي ضربت كلًّا من أفغانستان وإيران على السواء أوعز نائب الرئيس الإيراني، محمد مخبر، إلى كل من وزير الخارجية ومساعد النائب الأول لرئيس الإيراني للشؤون الدولية والتعاون الإقليمي أن يتابعا بكل جدية مع الحكومة الأفغانية التي تتزعمهما حركة طالبان في أفغانستان الإفراج عن حصة إيران من مياه نهر هلمند المشترك بين البلدين(26).
تنفي الحكومة الأفغانية الجديدة مزاعم نائب الرئيس الإيراني بشأن عدم تنفيذ اتفاقية تقاسم المياه بين البلدين وتبرر بأن أفغانستان تعاني من الجفاف مثل جارتها إيران وأن الحكومة الأفغانية ملتزمة بجميع الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع إيران في 1972(27).
وحسب مسؤولين أفغان سابقين ومصادر في حركة طالبان، تُتهم طهران بعرقلة عملية بناء السدود جنوبي وغربي أفغانستان؛ يقول وزير الدفاع الأفغاني الأسبق، طارق شاه بهرامي: “إيران تسعى لمنع بناء سد بخش أباد وكان هجوم حركة طالبان، في عام 2017، على عدة نقاط تفتيش في ولاية فراه لمنع الحكومة الأفغانية من الاستمرار في بناء سد كمال خان وإن الاشتباكات تأتي في إطار الحرب المائية”(28).
يتهم وزير الداخلية الأفغاني السابق، حياة الله حياة، ووسائل إعلام أفغانية طهران بمساعدة طالبان على عرقلة بناء السدود المائية وضمان التدفق الحر للمياه الأفغانية إلى إيران: “إن الحرس الثوري الإيراني قد زوَّد طالبان بأسلحة متطورة لتعطيل بعض سدود الأمة حتى يتسنى لطهران الحصول على حصة أكبر من المياه من نهر هلمند”(29).
وهناك نزاع آخر بين أفغانستان وإيران حول نهر “هريرود” الذي يبلغ طوله حوالي 1100 كيلومتر في أفغانستان، يمر نهر هريرود في أفغانستان وإيران ويصب أخيرًا في صحراء قراكم في تركمانستان. يغطي حوض هريرود مساحة 112200 كيلومتر مربع، 35٪ في أفغانستان، و44٪ في إيران، و21٪ في تركمانستان.
وتريد إيران تقييد صادراتها من المياه إلى البلدان المجاورة، في حين تنتقد أفغانستان لبناء سدود كهرومائية تُقلِّل من التدفق الحر لمياه نهر هلمند إلى المقاطعات الشرقية المُتعطِّشة للمياه في إيران.
وتجدر الإشارة إلى أن إيران قد لجأت في السابق إلى إنشاء بنى تحتية للمياه القادمة من أفغانستان دون موافقة الأخيرة، وعملت على عرقلة مشاريع مائية عدة في أفغانستان “إن البنك الدولي أوقف تمويل مشروع سدٍّ كبير، بعدما علم أنه يحتاج إلى إذن من طهران وقامت إيران باختراق أجهزتها الحكومية، لاسيما وزارة المياه الأفغانية؛ بهدف الحصول على معلومات عن مشاريعها الخاصة بالموارد المائية، وهو ذات الاتهام الذي وجهته الهند لإيران، وكان يتعلق بسعي طهران لعرقلة بناء سد الصداقة الأفغانية-الهندية “سلمى” حيث تمكنت الهند من افتتاحه، عام 2016، بمقاطعة هيرات الأفغانية، ضمن سلسلة من مشاريع إعادة إعمار أفغانستان”(30).
بسبب معارضة إيران لم تتمكن الحكومات الأفغانية السابقة من الحصول على المنح من البنك الدولي وجهات مانحة أخرى لبناء السدود في أفغانستان، لجأت الأخيرة إلى بناء السدود من ميزانيتها الخاصة ومنح العقود إلى شركات أجنبية خاصة “مشاريع بناء السدود في أفغانستان تحتاج على الأقل أحد عشر مليار دولار أميركي ولا يمكن للحكومة الأفغانية توفير هذا القدر من الأموال لذا تفضِّل العمل مع الشركات الأجنبية وفعلًا تعمل شركة تركية في الجزء الثاني من سد كجكي في ولاية هلمند”(31).
خلاصة
تتلخص مشاکل إيران مع أفغانستان في إدارة مواردهما المائية المشتركة في السدود الأفغانية التي تدشنها كابل على أنهار عدة تصل روافدها إلى إيران، ومن أهم هذه الأنهار نهر هلمند الذي ينبع من جبال أفغانستان ويصب في بحيرة هامون المشتركة مع إيران.
ويثير إصرار أفغانستان على بناء عدة سدود على أنهارها المشتركة مع إيران استياء الأخيرة. وقد لجأت أفغانستان مؤخرًا إلى الاستعانة بخبرات تركية على هذا الصعيد. وتعتبر إيران أن هذه السدود تحول دون الاستفادة من مياه الأنهار القادمة إليها من الداخل الأفغاني وحاولت طهران من خلال أوراق ضغط في الداخل الأفغاني الضغط على الحكومة للعدول عن قرار إنشاء مثل هذه السدود، وكان آخرها سد “كمال خان” بولاية نيمروز بالقرب من الحدود الإيرانية، الذي جرى افتتاحه في مارس/آذار 2021، حيث بلغت تكلفة تشييده 78 مليون دولار، واستغرق بناؤه 4 أعوام، كانت مليئة بالشد والجذب بين الدولتين بشأن تأثيره على حصة إيران من المياه.
تلعب الأنهار الأفغانية وخاصة نهر هلمند دورًا جيوسياسيًّا كبيرًا في العلاقات بين البلدين، وتستطيع أفغانستان أن تستخدم المياه أداة سياسية واقتصادية في علاقاتها مع إيران وجيرانها خاصة أن 95% من المياه تتدفق داخل الأراضي الأفغانية.
مركز الجزيرة للدراسات