مراحل التقدم فى أوروبا: مسار التطور والتراكم

مراحل التقدم فى أوروبا: مسار التطور والتراكم

كان العالم فى حالة ركود تاريخى حين بدأ شىء ما يولد فى بعض المجتمعات الأوروبية، التى كانت راكدةً مثل غيرها. لم تكن تلك الولادة سهلةً بأى حال، رغم توافر بعض مقوماتها، نتيجة تطور اقتصادى طبيعى ارتبط بدخول النظام الإقطاعى فى حالة شيخوخة عجَّلت بها حركة الكشوف الجغرافية التى بدأت فى القرن الخامس عشر، وفتحت آفاقًا واسعة أمام التبادلات التجارية(1). وعندئذٍ بدأ الانتقال من الاعتماد شبه الكامل على الزراعة إلى مرحلة أخذت التجارة خلالها فى الانتعاش، وازداد التعامل فى الأسواق بأشباه النقود، قبل استخدام النقود الورقية فى القرن السابع عشر، وبدأ التراكم الرأسمالى البدائى الذى استُثمر فى توسيع نطاق التجارة، فتوسع نطاقها وازداد ثراء عدد متزايد من التجار فى سوق جديدة واسعة لم يعرف العالم مثلها من قبل.

وفى ثنايا هذا التطور، بدأ الركود التاريخى ينحسر تدريجيًا، وأخذت الإرهاصات الأولى للتقدم الإنسانى فى التشكل صغيرةً بل قزمية. وظهر أثر استخدام العقل الذى خاض معركته ضد القوى التى كبلته، وفى مقدمتها سطوة رجال دين نصبَّوا أنفسهم أوصياء على البشر، وهيمنة حُكّام وضعوا أنفسهم فى مرتبة تكاد تصل بهم إلى مستوى الأنبياء المعصومين.

وكانت هذه بداية عملية تاريخية طويلة قادت إلى التقدم الذى يعرفه العالم الآن بدرجات متفاوتة، وربما شديدة التفاوت. بدأت العملية التاريخية التى أدت إلى هذا التقدم فى أوروبا، ومضت فى مسار طويل على مدى أكثر من أربعة قرون، إلى أن بلغت مرحلة النضج فى نهاية القرن الثامن عشر، واستمرت بعد ذلك بشكل أكثر سرعة وسلاسة، ولكن ليس فى خط واحد إلى الأمام، إذ تذبذب هذا المسار خلال تلك الفترة الطويلة.

منهجية الدراسة
لم يتحقق التقدم إذن، وما كان له أن يتحقق، إلا تدريجيًا عبر عملية تاريخية مرت بمراحل عدة كان أهمها فى أوروبا مرحلتى النهضة والتنوير. وتبدو دقيقةً جدًا كلمة Renaissance أو النهضة فى تعبيرها عن الإرهاصات التى شكلت البدايات الأولى لمسار التقدم الطويل فى أوروبا. تحمل هذه الكلمة، ضمن ما تتضمنه من معان، معنى الاستيقاظ وبداية الوقوف والتحرك، ومعنى الإحياء فى دلالته على عودة الحياة إلى كيان كان فى حالة قريبة من الموت. وهذا ما يحدث عادةً فى بداية أى مسار يسلكه الإنسان. يستيقظ أولًا، ثم يقف على قدميه، ويبدأ فى التحرك، ومن الطبيعى أن يكون تحركه فى البداية بطيئًا كونه مستيقظًا لتوه.

مصطلح Renaissance أدق بكثير فى التعبير عن هذا المعنى من كلمات أخرى تُستخدم أحيانًا مثل Awakening، وRevival، وغيرهما. ومقابلها بالعربية (النهضة) بالتالى هو الأدق، إذا أردنا بدايةً صحيحةً لمسار تقدم شامل لا يقتصرعلى قشرة على سطح كل من مجتمعاتنا العربية، وينفذ إلى أعماقها(2). ويثير ذلك مسألة المنهجية فى دراسة التقدم. وفى غياب نظريات تُفسر تقدم الحياة الإنسانية فى مجملها، أى فى مجالاتها كافةً، يُلجأ أحيانًا إلى النظريات المُفسِّرة للتقدم العلمى.

ولا يخفى أن تقدم العلم ليس إلا جزءًا فى مسار تقدم البشرية فى مختلف أوجه الحياة، فضلًا عن أن ما تُعنى به هذه النظريات هو تقدم العلم الحديث تحديدًا، والذى بدأ فى مشارف عصر النهضة فى أوروبا. وإذا كان مقبولًا أن نُعد هذا العصر بداية التقدم الكبير فى الحياة الإنسانية، فلم تحدث هذه البداية فجأة أو بمنأى عن تطور أولي أو بدائى فى مسار البشرية فى وقت مبكر جدًا، سواء رأينا أنه ارتبط باكتشاف النار واستخدامها قبل نحو ثلاثمائة ألف عام، أو بتحدث البشر مع بعضهم ومن ثم بداية تواصل ما بينهم قبل نحو 70 ألف عام، أو بتأسيس المجتمعات الأولى الصغيرة فى مرحلة لم يُقدر لنا أن نعرفها بدقة بعد، أو بنشأة الزراعة قبل حوالى 12 ألف عام أو أكثر قليلًا. المُهم أنه كانت هناك بدايات أولية قبل عصر النهضة. كما تكونت معارف علمية بدرجات مختلفة فى مجالات متنوعة، نتيجة تراكم أولى فى إدراك البشر لبعض الظواهر الطبيعية. ولا ننسى أن تاريخ الفكر قديم يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد عندما نشأت الفلسفة الإغريقية التى نعرف الكثير منها، أو ربما إلى ما قبل ذلك مما لم يتيسر لنا بعد أن نعرفه. كما قدم مُفكرون وعلماء مُسلمون إسهامات متنوعة فى الفكر والعلم بمعايير عصرهم، وشكل بعضهم جسرًا بين التراث الإغريقى القديم، والتقدم الأوروبى الحديث.

والصلة بين الفكر والعلم وثيقة، إذ تربطهما فى الأغلب الأعم عُروة وثقى، وإن لم يظهر هذا بوضوح إلا فى أواخر عصر النهضة الأوروبية. ومع ذلك، يمكن أن ننطلق من نظريات التقدم العلمى فى تحديد منهجية هذه الدراسة التى تُعنى بتقدم الحياة الإنسانية فى مناحيها كافةً، والعلم جزء منها. ومن بين نظريات عدة فى تفسير التقدم العلمى، توجد نظريتان رئيسيتان: الأولى هى نظرية التراكم Theory of the Accumulation of Knowledge وهى تقوم على أن العلم عملية تراكمية، إذ يتطور بشكل تدريجى عبر البحث والملاحظة والتجربة والحوار بين العلماء والباحثين، وصولًا إلى صوغ نظريات تُستخدم فى بناء مزيد من المعرفة العلمية، وتُناقش، وتُراجع، وتُطور، وتُنقض نتيجة ظهور معطيات جديدة(3).

والثانية هى نظرية الثورات العلمية أو القطعية المعرفية Theory of Scientific Paradigm Shifts. ولا تنفى هذه النظرية حدوث التراكم العلمى التدريجى. لكن هذا التراكم وفقًا لها، تقطعه تحولات كبرى تنتج عن أبحاث تجريبية ونظرية، وتؤدى إلى التحول من نموذج معرفى Paradigm إلى آخر(4).

وهاتان هما النظريتان الكبريان فى تفسير التقدم العلمى، وبجوارها بضع نظريات أخرى مثل نظرية لاكاتوس Lakatos (نظرية البرنامج البحثى)، ونظرية ألكسندر جيفرى (Alexander Jeffrey) و(نظرية المراجعة (Theoretical Revision .

وتعتمد هذه الدراسة على نظرية التراكم العلمى أو المعرفى، لاعتقاد كاتبها فى أنها أصدق بدون تهوين من شأن نظرية الثورات العلمية. وقد أحسن توماس كون صاحب نظرية الثورات العلمية، لأنه لم يُنكر وجود التراكم فى العلم والمعرفة، وإن عده علمًا عاديًا يتطور بشكل روتينى، ووضعه فى مرتبة تبدو أقل من العلم الذى يُكشف عنه نتيجة طفرة كبرى أو ثورة فى لحظة معينة ويُؤدى إلى نموذج فكرى أو معرفى جديد مختلف عن سابقه أو سابقيه، مثل التحول من رؤية بطليموس إلى رؤية كوبرنيكوس فى فهم الكون، والانتقال من فيزياء نيوتن إلى نسبية أينشتاين، وغير ذلك مما يُعد ثورة علمية كبرى وفق هذه النظرية.

وعندما نتأمل اللحظة التى يحدث فيها كشف علمى يُعد ثورةً بهذا المعنى، يصعب علينا تصور أنه جاء من فراغ، أو حدث خارج نطاق الحياة، وإلا صار نوعًا من الوحى الذى يوحى به، وليس عملًا من أعمال العلم الذى يمضى العالِم أو الباحث سنوات، أو عمرًا كاملًا فى بعض الأحيان، لكشفه. فالعالِم الذى يكشفُ ما يُعد ثورةً علميةً ينشئ ويقرأ ويطلع ويُفكر ويتأمل. وهو فى هذا كله يعتمد، بقصد أو من دونه، على معارف كثيرة، وربما أيضًا على نقاش مع آخرين ذوى علم أو أصحاب ذكاء. وهو، فوق هذا وذاك، ينطلق مما سبق كشفه حتى إذا لم يعتمد عليه بشكل مباشر.

يصعب، على سبيل المثال, تصور أن الفكرة التى قفزت فى ذهن إسحق نيوتن، عندما شاهد تفاحة سقطت من شجرة على الأرض فى حديقة والدته، دخلت فى عقله بلا أى مقدمات، وبدون تفكير امتد لسنوات واعتمد فيه على ما كان مُتوافرًا من معارف، وما كان قد أجراه من أبحاث أولية. فهذه المقدمات قلت أو كثرت هى التى أوصلته إلى حالة صار فيها جاهزًا للبحث فى علاقة سقوط التفاحة من الشجرة بظاهرة طبيعية سعى إلى فهمها، ووصل من خلالها إلى نظرية الجاذبية الأرضية.

وقُل مثل ذلك عن مختلف ما تُعد طفرات أو ثورات لا يُمكننا نزعها من سياقها، وفصلها من ثم عن كل ما سبقها حتى إذا لم تكن ثمة صلة مباشرة لها بهذا الذى سبق. فظهور نظرية جديدة غير معتمدة على تطوير نظرية سابقة بطريقة مباشرة لا يعنى أنها مُنبتة الصلة بكل ما سبق من تراكم معرفى.

وهذا ما انتبه إليه غير قليل من دارسى فلسفة العلوم، ومنهم على سبيل المثال جاستون باشلار الذى ينتمى إلى مدرسة الثورات العلمية، ولكنه أكثر وضوحًا من توماس كون فى الإقرار بأن القطيعة الأبستمولوجية الناتجة عن ثورة جديدة لا تنفى أن مسار التقدم العلمى متواصل، وأن جيدة لا ينفصل عن قديمه(5).

وإذا كان هذا ما يحدث فى التقدم العلمى، الذى لا يُقر القائلون بحدوث انقطاع أبستمولوجى فيه، بأهمية التراكم التدريجى، فمن باب أولى يكون التطور فى الحياة الإنسانية الأوسع بكثير من العلم هو الأقرب إلى الواقع. ومن هنا منطق دراسة التطور الذى حدث فى أوروبا باتجاه التقدم وفق نظرية التراكم، وتقسيمه إلى مراحل.

إرهاصات التقدم الأولى فى عصر النهضة
الفنون والعلوم جناحا النهضة الأوروبية

كانت حصون التخلف لا تزال قويةً متينةً حين بدأت الإرهاصات الأولى لمسار التقدم الطويل فى أوروبا فى القرن الخامس عشر. بدأت تلك الإرهاصات فى صورة ومضات فنية انطلقت من بعض الإمارات الإيطالية، وأخرى علمية متناثرة فى عدد من بلدان وإمارات أوروبا. وكان القاسم المشترك بين جناحى النهضة فى بداياتها الأولى، وهما الفنون والعلوم، عقلًا بدأ يتفتح ويفتح آفاقًا جديدة، بعد أن شرع فى الخروج من قمم حُبس فيه طويلًا، والتخلص من قيود كبلته بأغلال ثقيلة أبقته فى حالة سكون تحت وطأة قمع تعرض له كثير ممن سعوا إلى استخدامه.

1- النهضة الفنية

كانت فرصة الإبداع الفنى أكبر نسبيًّا مقارنةً بالإبداع العلمى، برغم أن الصراع استمر بشأن كل منهما منذ القرن الخامس عشر بين الجديد البازغ والقديم المتشبث بالاستمرار. وبخلاف العلم الذى كانت المواجهة فيه مباشرةً بين العلماء والكنيسة المهيمنة، وجدت فنون الرسم والتصوير والنحت والمعمار والموسيقى مساحةً للتجديد التدريجى، فكانت البداية الأولى التى ظهر فيها توق الإنسان حينذاك إلى التقدم. وهذا ما حملته الفنون التى بدأت فى الاختلاف عما كان موجودًا فى القرون السابقة على القرن الخامس عشر. حملت الأعمال الفنية بدءًا من ذلك القرن معانى تُحرك العقل وتدفع إلى التفكير.

وبدأت بشائرها الأولى فى القرن الرابع عشر الذى أبدع فيه دانتى أليجييرى رائعته “الكوميديا الإلهية”، التى يُختلف على ما إذا كانت من أواخر أعمال العصر الوسيط، أم أول إبداعات عصر النهضة. ولهذا وجدتُ من الإنصاف القول إنها كانت جسرًا بين العصرين، وإن دانتى بهذا المعنى “عابر بين عصرين”(6).

فقد عبر عن حالة العبور تلك فى رائعته التى يبدو فيها العالم متوترًا، تتناظر فيه الأضداد وتتعايش، وكأنه بانتظار جديد لم يكن واضحًا فى ذلك الوقت. وبغض النظر عما إذا كان دانتى وعى طبيعة تلك اللحظة التاريخية، أم أن الأمر كان مجرد إحساس بتغيير صار قريبًا، فقد عبر عن تناقضات مرحلة العبور بين العصرين وصعوباتها(7).

واستغرق الأمر بضعة عقود بعد دانتى المتوفى عام 1321 لتشرق شمس النهضة على الفنون التى أخذت تُجدد نفسها وتتحرر من الأنماط التقليدية. فكان دخول ملامح مجتمعية إلى الموسيقى دالًا على ظهور طبقة بورجوازية تجارية جديدة لها مذاقها الفنى المختلف عن الطبقة الأرستقراطية. وأخذت الجداريات أو التصاوير الجدارية تبتعد عن الأسلوب الشكلى، وتكتسب عُمقًا. فقد فُتحت أمام الفنانين، مع خروج العقل من القُمقُم، آفاق جديدة فانطلقوا سعيًا إلى اكتشاف مجاهلها، مثلما بدأ العلماء فى البحث عن أسرار استغلقت على البشر طول تاريخهم. فكانت بداية ازدهار الفنون تعبيرًا عن إرهاصات اكتشاف الإنسان لنفسه وروحه اللتين أزهقهما التخلف على مر الزمن. وهى بداية مبكرة جدًا قياسًا على مناطق أخرى فى العالم تأخر فيها ازدهار الفنون إلى القرن التاسع عشر(8).

وإلى جانب الدلالات الجمالية لفنون عصر النهضة، كانت لها دلالة أخرى بالغة الأهمية وهى بدء انطلاق الإبداع الذى أصبح ضروريًّا ضمان حريته، الأمر الذى وضع الأساس للاهتمام بعد ذلك بقضية “الحرية” التى لا يعيش إبداع بدونها.

ولم تكن صُدفةً أن نهضة الفنون تركزت فى البداية على الرسم والتصوير والنحت، والموسيقى بدرجة ما، لأن ارتفاع نسبة الأمية يُزيد الطلب على الفنون السمعية والبصرية التى شهدت تطورًا كبيرًا بُنى فيه على إرهاصات بدأت فى أواخر العصر الوسيط، مثل أعمال الفنان جيوتو بوندونى (1226-1337) الذى كسرت تصاويره الطابع التجريدى لرسوم ذلك العصر، حيث اهتم بإبراز مواقف ومعان إنسانية حية وكأنه كان يكتشف أسرار التوازن بين المادى والتجريدى. كما حلت أشكاله المُعبرة عن مجتمع بدأ لتوه يتحرك ببطء وحذر شديدين ويتطلع إلى المستقبل محل النماذج الخطية الكلاسيكية الموروثة من العصر البيزنطى.

والحق أنه ليس هناك أوفى ولا أروع من تبيان تفاصيل فنون عصر النهضة باللغة العربية من موسوعة د. ثروت عكاشة الثمينة التى صدرت طبعتها الأولى عام 1988(9).

يأخذك د. عكاشة فى جولة شديدة الثراء فى العصر الذى يقول عنه إن نسائمَ نديةً هبت فيه وحملت معها بُشرى عالم مُتقدم تحظى الفنون بمكان كبير فى قلبه. وعندما تقرأ هذه الموسوعة, تشعر كأنك تستقل مع مؤلفها عربةً تجرُها الخيول، وتعودُ إلى حيث هبت تلك النسائم فى مدن إيطالية عدة منذ القرن الرابع عشر، وفنانيه الذين يرجع إليهم الفضل فى التحول التاريخى الذى بدأ فى عصر النهضة، وتتوقف معه فى محطات تقرأ فى كل منها دراسة لحالة الفن فى هذه المدينة أو تلك. وكم تبدو مبدعةً دراستُه عن حالة الفن فى فلورنسا، التى تركزت حولها النهضة الفنية البازغة فيما يُسميه لقاءً لم يكن مألوفًا من قبل بين العبقرية والطاقة الإنسانية والظروف. وقل مثل ذلك عن دراسته عن مدينة البندقية مهد الأسلوب الباروكى الذى عُرف فى أواخر القرن السادس عشر فى العمارة والرسم، وعُنى بالجوانب الحسية للأشياء ووصفها بتفصيل وتنميق.

ومن أهم ما يُميز تلك الموسوعة، التى يكفى الاطلاع عليها للإلمام بكيف بدأت وتطورت نهضة الفنون فى أوروبا، كم الصور التى التُقطت ببراعة للوحات وجداريات ومبانى ذلك العصر. وقد أحصيتُ فيها 1220 صورة موزعة على أجزائها الثلاثة. يتضمن الجزء الأول 461 صورة اختار للغلاف الأمامى صورة لوحة ليوناردو دافنشى (العذراء بين الصخور) المحفوظة فى متحف اللوفر، وللغلاف الخلفى تفصيلة من جدارية ميكلا أنجلو (خلق آدم) التى تُزين سقف كنيسة السيستين بالفاتيكان.

وفى الجزء الثانى 495 لوحة اختار د. عكاشة منها للغلاف الأمامى لوحة رمبرانت (هوميروس الشرير) المحفوظة فى متحف لاهاى، وللغلاف الخلفى لوحة دودرو (جناح طائر الشقراف) الموجودة فى مكتبة البرتينا فى فيينا. أما الجزء الثالث فيتضمن 574 لوحة اختار منها للغلاف الأمامى لوحة فيريولو (الحسناء ذات القبعة المُثلثة تحمل مروحة) المحفوظة فى ناشيونال جاليرى فى لندن، وللغلاف الخلفى لوحة فرانسوا بوشيه (مدام دى بومبادور) الموجودة فى متحف اللوفر.

وليس الفنانون العظماء الستة، الذين اختير عمل لكل منهم ليتصدر أحد الأغلفة الستة لأجزاء الموسوعة، إلا بعض أبرز المُبدعين الذين جعلوا الفنون جناحًا أول اعتمدت عليه نهضة أوروبا فى إقلاعها باتجاه التقدم، الذى استغرق خمسة قرون ليكتمل طوره الأول الذى فتح الباب أمام أطوار تالية صار الانتقالُ من طور إلى آخر فيها أسرع، على النحو الذى خلق الهوة العميقة بين الغرب وبقية العالم.

والملاحظ أن الكثير من فنانى عصر النهضة كانوا متعددى المواهب والقدرات، أى من النوع الذى يُطلق عليه فنان شامل يرسم أو يُصوَّر وينحت ويعزف موسيقى ويقرض الشعر، فضلًا عن اهتمام بعضهم بالعلم أيضًا، ولكن فى حدود إمكانات عصرهم.

خذ مثلًا ليوناردو دافنشى (1452-1519) الذى جمع فنون الرسم أو التصوير والنحت والمعمار والموسيقى، فضلًا عن مهارته العلمية فى مجال الهندسة. فقد وضع تصميمات أولية لعدد من الآلات التى توقع مبكرًا جدًّا أن العالم الجديد يتجه إليها. وكذلك الحال بالنسبة إلى ميكلا أنجلو الذى رسم ونحت وقرض شعرًا. وهما أكثر فنانى عصر النهضة تميزًا، ومعهم آخرون لا يتسع المجال لهم ونذكر منهم نيكولو بينراتو، ودونتسو دى بويتسينا، وأمبروزيو لورنزيني، وفيليب دى فيثرى، ولانج دول، ولورنزو جيبرتى، وباولو أوتشيللو.

ولتوضيح كيف كان التطور فى الفنون نهضةً فى ذاته، وبداية نهضة أبعد وأوسع فى الوقت نفسه، نقف أمام عمل يتجلى فيه التحول نحو الإبداع القائم على العقل الآخذ لتوه فى الانطلاق، وهو لوحة دافنشى الأكثر شهرة “موناليزا” التى رسمها أو بالأحرى أكملها فى مطلع القرن السادس عشر (1503)(10).

قد لا تكون “موناليزا” أفضل لوحات ذلك العصر من زاوية التقييم الفنى المهنى، وهى ليست أجمل لوحاته فى رأى بعض دارسى فن دافنشى مقارنةً بأعمال أخرى مثل “العذراء بين الصخور” و”العشاء الربَّانى”.

ولكنها ربما تكون أحد أكثر الأعمال الفنية التى عبرت بوضوح، وفى وقت مبكر، عن التطور الذى كان يحدث فى نظرة الإنسان إلى نفسه ومجتمعه وإلى الكون فى مُجمله، وهو ما يتعين علينا إدراك أنه يمثل الأساس الحقيقى للتقدم، إذا أردنا أن نتقدم. وتدل هذه اللوحة، كما لوحات أخرى عدة فى ذلك العصر، على تجاوز المظهر الخارجى للأشياء، والنفاذ إلى داخلها والوصول إلى أعماقها، والبحث فى الدوافع المُحركة للمخلوفات، والسعى إلى معرفة ماهية الحقيقة فيها بما يعنيه ذلك من إشباع الروح وليس إمتاع البصر فقط.

وربما لا يجد من يُشاهد “موناليزا” شيئًا مميزًا فى شكل المرأة بطلة اللوحة. فهى ليست جميلةً يلفت حُسنُها الانتباه. لكن أهم ما يُميزها هو نفاذ مُبدعها إلى روح الإنسان الذى كان قد بدأ رحلتَه إلى التقدم، وسعيَه لكى يُحرك التاريخ ويُصبح فاعلًا فيه بعد أن بقى مفعولًا به على مر ما سبق من الزمان إلا قليلًا أو على سبيل الاستثناء. كانت اللوحة، فى أحد أبعادها، تعبيرًا عن الجديد الذى كان يبزغ بصعوبة وسط القديم، متمثلًا فى روح الإنسان الذى بدأ يعرف نفسه وقدرة عقله على تغيير شكل الحياة على الأرض(11).

ويبدو الفرق واضحًا بين تأمل نظرة المرأة المرسومة فى “موناليزا” بشىء من التدقيق, والاكتفاء بإطلالة سريعة عليها. وإذا عدنا إلى تأملها بعد حين، ربما نجدُ فيها معنى مختلفًا. فقد نراها نظرةً ساخرةً، وقد نشاهدُ فيها شيئًا من الحُزن، وربما نعتقدُ أنها نظرةُ تفكير وتأمل. ولكننا فى كل مرة نتأملَّها، نشعر أنها تحثنا على التفكير فى ماهيتها فتستأثر بعقولنا، وليس بعيوننا فقط، ويأسرنا ما يبدو أنها حيوية كامنة فيها. وعندما نكون مُدركين طبيعة العصر الذى رُسمت فيه، يمكن أن نلاحظ فيها تعبيرًا عن التحول من حالة الجمود والركود التى انعكست على الفن كما على غيره فى العصر الوسيط، حيث كان الأشخاص فى اللوحات يبدون قبل ذلك كما لو أنهم تماثيل جامدة خالية من أى حياة.

ومن هذا الأفق الواسع، نظر عدد من أساتذة الفن وعلم الجمال إلى دلالة “موناليزا” على التقدم الذى كان مساره قد بدأ. ولنقرأ مثلًا ما كتبه والتر بيتر: (إن الجمال الذى يشع من لوحة “موناليزا” إنما هو فى روح الإنسان وليس شكله. إن ما هو مرسوم أمامنا يُلخص أفكار العالم وتجاربه: روحانية أثينا، وظمأ روما، وصوفية العصر الوسيط. إن “موناليزا” تبدو لنا كما لو أنها الغيلان التى ماتت ألف مرة وانبعثت ألف مرة أيضًا …)(12).

وقد يكون فى هذا الوصف ما يراه أى منا مبالغة. غير أن هذا الذى يبدو مبالغًا إنما يؤكد الدلالة التاريخية العميقة للوحة بقيت عابرةً للأزمان، وستظل مرآةً يرى فيها الناظر إليها بعمق شيئًا قد يتعلق به هو وينبع من داخله كما لو أنه يريد إعادة اكتشاف نفسه. وهذا بعض ما يحدث للإنسان فى رحلته إلى التقدم، إذ يُعيدُ اكتشافَ نفسه وعقله وما لديه من قدرات.

2- النهضة العلمية

فى الوقت الذى بدأ تجديد غير مسبوق فى الفن تعبيرًا عن رغبة العقل الخارج من القُمقم فى سبر أغوار الإنسان والمجتمع والكون، كان العلم البازغ يشرع فى التعريف بما لم يستطع البشر إدراكه من قبل، ويخلق فى ثنايا تطوره معاول تُفيد فى دك حصون تخلف طال أمده.

معروفة لكُثُر قصة الصراع الضارى بين علماء بدأوا فى تطوير معارفهم واستخدامها لاكتشاف الكون، والكنيسة التى تخندقت فى موقعها. وهكذا كان الصدام الذى حمل فى طياته نقلة علمية كبرى أحدثها كوبرنيكوس ثم جيوردانو برونو وجاليليو من فكرة مركزية الأرض إلى نظرية مركزية الشمس، ومن اعتقاد كان سائدًا فى أن الأرض ثابتة إلى اكتشاف أنها تتحرك وتدور حول الشمس فى تحدِ غير مسبوق لتعاليم الكنيسة فى هذا الشأن.

وفضلًا عن الأهمية النوعية لتلك النقلة النوعية، فقد حملت فى ثناياها مغزى عميقًا إذ ارتبط اكتشاف أن الأرض ليست ثابتةً جامدةً بنهضةِ كان جوهرُها تحريك الجمود الذى تعودت عليه البشرية. لم يكن الكوكبُ وحده الذى اكتُشف أنه يتحرك، بل الإنسانُ الذى حقق هذا الاكتشاف وأثبت أنه قادرٌ على الخلاص من الجمود. كانت أوروبا قد بدأت فى ذلك الوقت رحلة تَحولها من الجمود والسُبات، والثبات أيضًا، إلى حالة الحركة الناهضة والمتوثبة لتقدم تحقق تدريجيًّا.

استمر ذلك الصدام عقودًا طويلةً استعرت خلالها الحرب ضد العلم، بعد أن أدرك حُراس حصون التخلف أنه يُهدد بدك معاقلهم. وتحلى علماء رُوَّاد بشجاعة كبيرة، وضحى بعضهم بنفسه مثل جيوردانو برونو الذى حكمت عليه محكمة تفتيش بالموت، وأُلقى به فى النار بعد قطع لسانه. وبرغم أن جاليليو اضطر إلى التراجع ظاهريًّا عن علمه حين مثل أمام محكمة أخرى عام 1633 ليتجنب الموت حرقًا، فقد جهر خلال محاكمته بأن الكتاب المُقدس ليس كتاب علم بل دين، وأنه مرجع روحى وليس علميًّا(13).

وكانت الصلةُ وثيقةً منذ البداية بين نهضة العلم وحياة الإنسان. فما أن بدأ العلم يشق طريقه فى ظروف ملبدة بغيوم الخرافات والأساطير المتراكمة عبر التاريخ، حتى بلور فرانسيس بيكون (1561-1626) ما يمكن أن نُعدها مقدمات المنهج التجريبى، الذى ساهم فى تأكيد قدرة العقل على إنتاج المعرفة استنادًا على قواعد مُحددة(14). وتبعه فى الاتجاه نفسه جون لوك (1623-1704)(15)، الذى عُرف بإسهامه فى بلورة مبدأ التسامح أكثر من دوره فى تطوير المنهج التجريبى. وتواصل هذا الاتجاه، وتنوعت الإسهامات فيه. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على هذا الجانب أو ذاك فى المنهج التجريبى، فالقدر المُتيقن أنه أدى دورًا تاريخيًّا فى النهضة العلمية فى أوروبا، وفى العالم بعد ذلك.

والحال أنه لم يكن مُتصورًا أن تبدأ نهضة علميةٌ فى أجواء سادَها ظلامُ التخلف بدون إسهامات منهجية ضرورية للمساعدة فى تنظيم التفكير، الذى كان مسألة شاقة فى تلك المرحلة بعد أن توقف العقل، أو أُوقف، عن العمل لزمن طويل. ولهذا عُنى رينيه ديكارت أيضًا بمسألة المنهج، ووضع عام 1637 كتابه فى هذا المجال، وكان عنوانه (مقال عن المنهج المُتبع لحسن قيادة عقل الإنسان والبحث عن الحقيقة فى العلوم)، ولكنه تُرجم إلى العربية مُختصرًا (مقال عن المنهج). واعتمد فيه على معرفته بالفلسفة برغم أنه كان عالمًا فى الرياضيات. وهذا هو الكتاب الذى وردت به عبارته التى اشتُهرت فى العالم كله (أنا أُفكر، إذن أنا موجود)(16). ولكن المنهج عند ديكارت لم يكن تجريبيًّا فقط ولا فى الأساس، لأن المعرفة عنده يمكن أن تُكتسب عن طريق التصورات العقلية أيضًا، ولكن بعد تفكير وبحث عميق يبدأ بالشك، أى عدم قبول أى شىء بوصفه حقًّا إلا بعد التأكد من ذلك، عن طريق تقسيم الموضوع إلى أجزاء صغيرة، والسير مع العقل من البسيط إلى المُركب، ومن السهل إلى الأصعب، ثم القيام بمراجعة شاملة لكيلا نغفل أى عنصر أو جانب فى هذا الموضوع.

ولنا أن نتصور ما كان يعنيه التفكير بهذه الطريقة المنهجية فى مرحلة كان الإنسان قد بدأ لتوه فى استخدام عقله مُتحررًا من الجمود وقيوده، ومن الخوف وأصفاده.

وربما يجوز أن نُعدَ إسهامَ ديكارت المبنى على تميزه علميًّا وفلسفيًّا أهم أُسس الجسر الذى ربط بين مرحلة النهضة التى استمرت زهاء ثلاثة قرون، والمرحلة الثانية فى مسار التطور فى أوروبا وهى مرحلة التنوير فى القرن الثامن عشر. وكان لكل من جورج بيركلى (1685-1753)، وديفيد هيوم (1711-1776) أيضًا دور كبير فى بناء ذلك الجسر. وكان التقريب بين المنهجين التجريبى والعقلى من الدعائم الأساسية التى أتاحت هذا التطور. فكأن الجسرَ بين مرحلتى النهضة والتنوير سبقَهُ جسر بين هذين المنهجين.

ومن أهم العوامل التى أسهمت أيضًا فى تقدم العلم فى مرحلة النهضة، خاصةً فى القرن السابع عشر، تلك المناظرات الثرية التى حدثت بشكل غير مباشر بطبيعة الحال بين المنهجين التجريبى والعقلى، إذ دافع من يمكن أن نسميهم “العقليين” عن إمكان إدراك الواقع عن طريق التصورات التى يُكونها العقل، بينما حاجج التجريبيون بأن المعرفة تُدرك بالدليل المستند إلى مختلف أنواع التجارب العملية. وفى ثنايا ذلك الاختلاف المنهجى، أخذ دور العقل فى التطور والازدهار، وحدث تكامل بين المنهجين التجريبى والعقلى بدءًا من ديكارت، مثلما التقت أفكار ورؤى كثيرة بدأت مختلفةً ومتناظرةً فى مجرى التطور الذى أحدث قطعًا مع العصر الوسيط، وحرث الأرض التى كانت قاحلةً فأينعت فيها ورودٌ وأزهارٌ متنوعةٌ ألوانُها وروائحُها، فبدأ الانتقال من مرحلة النهضة إلى مرحلة التنوير طبيعيًّا أو قُل تلقائيًّا، بعد أن اكتمل الجسر بينهما تدريجيًّا مع بلوغ التطور فى العلم مستويات أعلى.

خذ مثلًا الدور الذى لعبه رائد علم الفيزياء إسحاق نيوتن (1642-1727) فى إكمال هذا الجسر من خلال إسهاماته التى مثلت فى حينها مستوى متقدمًا فى مسار التطور، عن طريق اكتشاف بعض أهم قوانين الطبيعة التى يُعتمد عليها حتى اليوم(17).

وكان كتابه (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) الصادر عام 1687 فتحًا غير مسبوق، وخطوةً كبيرةً فى مسار تطور العلم. فهو يُعد الأساس الذى اعتمد عليه علماء الفيزياء والرياضة فى كثير من بحوثهم واكتشافاتهم حتى اليوم. وكان أثر إسهامات نيوتن واضحًا فى تفكير بعض فلاسفة مرحلة التنوير، خاصةً إيمانويل كانط (1724-1804)، الذى تأثر فكره بدوره بالإسهامات العلمية فى عصر النهضة، ووضع ما يمكن أن نُعده أول أساس أبستمولوجى للعلم.

والحال أن إسهام نيوتن فى ترسيخ دور العقل وقيمته لا يقل أهمية عن اكتشافاته العلمية، بل قل إن عمله من أجل وضع أساس لنهضة العلم تكامل مع دوره فى تدعيم قيمة العقل. فقد مزج بطريقة خلاَّقة بين العلم والفكر فى مرحلة كانت النهضة فى حاجة إليهما معًا. خذ مثلًا كتابه (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) الذى عمَّق فيه هذه المبادئ مع تبسيطها فى الوقت نفسه ليسهل فهمها ودرسها، ومن ثم البناء عليها لتحقيق التراكم المعرفى الذى بدأ فى مرحلة النهضة. وهذا هو الكتاب الذى صاغ فيه قوانين الحركة، التى تُعد أساس الميكانيكا الكلاسيكية، فى سياق ما يمكن تسميته خط أفكار امتد من أرسطو حتى جاليليو، حتى وصل إليه فنقله نقلةً نوعيةً أتاحت صوغ تلك القوانين، وهى قانون القُصور الذاتى، وقانون العلاقة بين القوة والحركة، وقانون الفعل ورد الفعل(18).

والعلاقة بين نهضة العلم وتطور الفكر ليست مجرد افتراض، إذ نجد تجليات عدة لها فى الواقع الأوروبى فى تلك المرحلة، ومنها على سبيل المثال تأثر المُفكر التنويرى الفرنسى فولتير (اسمه الأصلى فرانسوا مارى أورين 1694-1778) بإسهامات نيوتن. فقد استخلص منها ما دعم اعتقاده فى فكرة سمو العقل على ما عداه، وقدرته على تغيير صورة الحياة على الأرض، الأمر الذى أحدث الصلة الوثيقة بين مرحلة النهضة ومرحلة التنوير التى سننتقل إليها فى الجزء التالى.

لقد وضع علماء روَّادٌ بإسهاماتهم الأساسَ الذى ساعدَ مُفكرى مرحلة التنوير وفلاسفتها فى مهمتهم التاريخية الكبرى، عندما أشهروا العقل سلاحًا فى مواجهة تقاليد غير عقلانية، من أجل تحرير الإنسان ليكون هو سيد نفسه بوصفه كائنًا عاقلًا يستطيع تغيير المجتمع والعالم إلى الأفضل اعتمادًا على قوة العلم والمعرفة. وكانت تلك لحظةً تاريخيةً اتسمت بالرومانسية التنويرية، ولم يُتصور خلالها أن العقل والعلم يمكن أن يُغيرا العالم إلى الأسوأ أيضًا.

مرحلة التنوير
لم يأخذ التطور نحو التقدم فى أوروبا صورة طفرة أو قفزة كبرى، وما كان له أن يحدث على هذا النحو. حدث التطور نحو التقدم تدريجيًّا، وببطء ملحوظ أخذ يتسارع قرنًا بعد قرن، إلى أن اكتملت المقومات التى أتاحت انطلاقه بمعدلات أسرع، وصولًا إلى الحالة التى سمحت بطفرات متوالية منذ بدايات النصف الثانى فى القرن العشرين.

وكان لمرحلة التنوير، وهى المرحلة الكبرى الثانية فى مسار التطور فى أوروبا، أثر بالغ فى تسريع هذا التطور. ولكى نعرف أهمية الجديد الذى حملته مرحلة التنوير، يحسن البدء بمعرفة المقصود به، ومن ثم بالمرحلة التى تحقق خلالها برغم صعوبات وعقبات مهولة واجهته.

بدأ الانتقال تدريجيًّا من مرحلة النهضة إلى مرحلة التنوير فى نهاية القرن السابع عشر. ولكن تعريف التنوير بدقة انتظر حتى قرب نهاية القرن التالى (الثامن عشر)، عندما أصدر الألمانى إيمانويل كانط كتابه، أو بالأحرى كراسته المعنونة (جواب عن سؤال ما هو التنوير) عام 1784. وقد نُشرت تلك الكراسة أولًا فى مجلة برلين الشهرية ردًّا على سؤال أثاره القس يوهان فريدريش تسولز فى المجلة نفسها، على هامش مقالة كتبها فى تفنيد فكرة الزواج المدنى التى كانت جديدةً حينذاك، وجاء فيها أنه لا يعرف معنى لما يسمعه عن التنوير، وسأل عما يكون تحديدًا. وكان سؤاله مزيجًا من الاستنكار والفضول فى آن معًا. تصدى كانط للجواب بطريقة مُبسطة بخلاف ما اعتاده فى كتاباته، التى مازال دارسوه مختلفين على تفسير بعض ما فيها، خاصةً عند ترجمتها من الألمانية إلى الإنجليزية ومنها إلى العربية ولغات أخرى(19).

التنوير، ببساطة، كما شرحه كانط هو تحرير الإنسان من حالة ذهنية وجد نفسه فيها، وخضع لها بشكل طوعى، فقيد عقله وتصور أنه عاجز عن التفكير وإدراك ما يحيط به، وأنه فى حاجة إلى من يُساعده على الفهم. وفسر كانط هذا العجز بارتياح الإنسان إلى الانقياد لمن يتصور أنهم يفهمون أكثر منه، فوضع نفسه بدون أن يدرى تحت سيطرة أوصياء يعرفون كيف يمارسون وصايتهم ويُحافظون عليها. وأدى ذلك تدريجيًّا إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية، وإعادة إنتاجها، وتنامى قُدرة الأوصياء على إبقاء الخاضعين لهم فى حاجة إليهم، وترسيخ خضوعهم عبر اختراع مزيد من الأسباب التى تحول دون انطلاق البشر مُعتَمدين على عقولهم وتفكيرهم.

وأوضح كانط أن الخضوع للوصاية العقلية يُشبه العيش فى ظلام، وأن فى إمكان الخاضعين أن يتلمسوا طريقَهم بأنفسهم مُستفيدين من مصابيح صغيرة يُضيئُها التنويريون الذين يَدْعون كلَّ فرد إلى استخدام عقله، والتفكير فيما يحتاج إلى فهمه، وإجراء نقاش مع المُحيطين به بطريقة حُرة، وبدون أن يكون أى من المُناقشين وصيًّا على الآخرين. وشرح كيف أن المضى فى هذه الطريق يبدو صعبًا فى البداية، لأنه يتطلب التحرر من خرافات تُعطل السعى إلى معرفة موضوعية، ومن تقاليد موروثة تعوق العقل وتمنع من التفكير الحر(20). كان المطلوب، باختصار، هو قطع حبال الوصاية التى رُبط الإنسان بها، وتشجيعه على التحرك الحُر الذى يكون صعبًا عليه فى أوله، إلى أن يتعود على التحرر، ويجد فى استخدام عقله ما يُضىء طرقًا كانت تبدو له مُظلمةً، فيُصبح مُتنورًا وقادرًا على أن يُنير للآخرين أيضًا.

يُعد كانط، والحال هكذا، أكثر الفلاسفة التنويريين تأثيرًا فى إرساء قيمة العقل، التى ما كان لمسار التطور أن يتسارع بدون ترسيخها. فكان إخراج العقل من “قُمقُم” حُبس فيه ضروريًّا لإعادة صوغ الحياة على الأرض. ولذلك لم تكن صُدفةً أن العقل كان قاسمًا مشتركًا فى معظم مؤلفاته. فقد فتح فى ثلاثيته (نقد العقل الخالص أو المُجرد – 1781، ونقد العقل العملى -1781، ونقد ملكة الحكم- 1788) أبوابًا كانت مُغلقةً أمام العقل على نحو أعاقه عن القيام بدوره انطلاقًا من قدرته التى رآها غير محدودة، وليست مرتبطةً بمسلمات جاهزة لا يستطيع إلا أن يتكيف معها(21).

ولهذا يجوز أن نُعد كانط عُمدة مرحلة التنوير برغم أن المفكرين الفرنسيين فى تلك المرحلة يحظون باهتمام أكثر منه، مثل فولتير، وديدرو، ودالاميير، وباسكال، وهولباخ، وبالطبع جان جاك روسو، وشارل دي مونتسكيو.

ومادامت القضية التى تعنينا، فيما يتعلق بمسار التطور فى مرحلة التنوير، هى تحرير العقل الذى انطلق بعد ذلك مُحققًا التقدم بمعدلات أسرع، يمكن أن نقف وقفةً سريعةً جدًّا عند بعض الأفكار الأساسية المتعلقة به لدى فولتير، الذى اهتم بتاريخه وكيفية تطوره. فقد لاحظ ما سماه صعودًا بطيئًا ولكنه متواصل لدور العقل، وصولًا إلى التبشير بالعقلانية فى القرن الثامن عشر. وارتبط هذا الصعود، عند فولتير، بمسألة الحرية التى رأى أنها جوهر حياة الإنسان. ولكنه عُنى أساسًا، مثل آخرين فى تلك المرحلة، بالحرية الشخصية فى المجال الخاص بالإنسان، خاصةً حريته فى التفكير، إلى جانب قليل من الحريات العامة المرتبطة بها وفى مقدمتها حرية الرأى والتعبير، وعلاقتها بمبدأ التسامح الذى سبقه إليه جون لوك فى القرن السابع عشر(22).

ولكن فولتير ذهب بهذا المبدأ إلى مدى أبعد، إذ رآه ملازمًا لطبيعتنا إذا أردنا أن نكون بشرًا نعي إنسانيتنا، وليس مجرد كائنات حية. فقد نبَّه إلى أن الإنسان ضعيفٌ بطبعه وقابلٌ لارتكاب الخطأ، ورتب على ذلك ضرورة أن يُسامح بعضُنا بعضًا، وأن نَتَسامح مع الأخطاء بشكل متبادل. وجرى فولتير على نهج جون لوك، ونشر بدوره كراسته فى موضوع التسامح(23).

وأهم ما يجمع الكُراستين إيمانٌ عميقٌ بأن التسامحَ أسمى القيم الإنسانية، وتركيزٌ على التسامح الدينى والمذهبى بالأساس، لأنهما كُتبتا فى عصر ساده تعصُّب رهيبٌ أنتَج حروبًا مذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت. ولكن المعنى الذى أضفاه فولتير على هذا المبدأ كان مُقدمةً لتعميمه فى مواجهة مختلف أنواع التعصب، وليس ذلك المستند على الدين أو المذهب فقط. ولهذا كتب الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، بعد قرنين، أنه لم يقرأ عن التسامح أعمق وأروع مما كتبه فولتير.

ولكن ما كتبه وشرحه بوبر جاء أعمق وأروع، إذ أعاد إنتاج مبدأ التسامح بوصفه الأساس الأول للديمقراطية التى كانت فى حالة جنينية فى مرحلة التنوير. فقد ربط بوبر الديمقراطية بالتسامح إلى حد أنه لم يتصور ديمقراطيةً فى مُجتمع يَخلو، أو يقل فيه التسامح. وذهب إلى مدى أبعد عندما ناقش من يرون أن التسامح لا موضع له مع من لا يؤمنون به، ولا يجوز تطبيقه عليهم، بعد أن ازداد الاعتقاد، بسبب مرارة تجربة الفاشية والنازية، فى أن غير المتسامحين ليسوا أهلًا للتسامح معهم لأنهم يُمثلون خطرًا على الديمقراطية، أو على الدولة. فقد أكد فولتير أن المبادئ الكبرى لا تُجَزَّأ لأنها عامة وشاملة، وإذا كان ثمة مجال لاستثناء فى مبدأ التسامح فيتعين أن يكون مقصورًا على من يرتكبون عُنفًا دون غيرهم. وخلص إلى اختزال مبدأ التسامح فى ثلاثة عناصر جوهرية: إننى قد أكون مُخطئًا، وقد تكون أنت مُصيبًا. وإننا حين نتحاور بشكل عَقلانى قد نصلُ إلى تصحيح أخطائنا. وإن هذا الحوار العقلانى يُساعدُنا لكى نقترب معًا من الحقيقة(24).

ولا تكتمل هذه اللمحة العامة لموقع مرحلة التنوير فى مسار التطور فى أوروبا بدون الإشارة إلى بداية تأسيس التفكير العميق فى المسألة الاجتماعية، بوصفها أحد أهم التجليات العقلية فى تلك المرحلة. ويعود الفضلُ إلى جان جاك روسو فى فتح الطريق أمام التفكير فى هذه المسألة خاصةً ما يتعلق بالتفاوت، الذى صار أحد أهم ما عجز التقدم عن إصلاحه حتى الآن فبقى مصدرًا لآلام أعداد لا حصر لها من البشر، مثلما كان كذلك عبر التاريخ منذ أن انقسم الناس إلى أقوياء وضعفاء، وأثرياء وفقراء. كل ما حققه التقدم فى هذا المجال هو إنهاء العبودية رسميًّا، فلم يعد هناك سادة يَملكون عبيدًا يفعلون بهم ما يشاءون، ولكن ظل الأقوى والأثرى والأكثر نفوذًا قادرًا من الناحية الفعلية على استعباد ضعفاء وفقراء.

كان روسو أكثر فلاسفة مرحلة التنوير اهتمامًا بالسعى إلى تغيير الإنسان، ليكون أقل أنانيةً وجشعًا، وأكثر عطاءً وإنسانية. وهو، على هذا النحو، أول من بَشَّرَ بمبدأ المساواة، بدون أن يُسميه، ورائد البحث فى نشأة التفاوت الاجتماعى الذى أنهى ما تصور أنها حالة كان البشرُ فيها متساوين فى حياتهم الأولى، قبلَ أن ينقسموا إلى مَالكين ومُعدمين. ولأننا لا نعرف حتى اليوم تحديدًا اللحظة التاريخية التى بدأ فيها البشر فى تكوين مجتمعات صغيرة، لأنها سبقت التاريخ المُسجل، تصور روسو أن تلك اللحظة هى التى بدأت فيها الملكية الخاصة، واستولى بعض البشر على أراض كانت مشاعًا وزعم كل منهم أنها ملك له، ووجد من يُصدقونه، ومن يعملون فى خدمته(25).

لا خاتمة.. حيث لا خِتام للتقدم
فتحت النقلة الكبيرة التى حدثت فى مرحلة التنوير آفاقًا أرحب، وجعلت التقدمَ فى أوروبا أقربَ مما كان فى أى وقت قبلها، بعد أن وُضع الأساس لدور العقل، وأُعلى شأن مبادئ لم تكن معروفةً من قبل مثل الحرية والتسامح والمساواة، وتواصل التطورُ العلمىُّ الذى بدأت إرهاصاتُه على مشارف مرحلة النهضة، الأمر الذى كان له أثرهُ العميقُ فى تعبيد الطريق باتجاه هذا التقدم. وما أن حلت نهايةُ القرن الثامن عشر حتى كانت هذه الطريقُ قد فُتحت عبر تطورين نوعيين، إذ أفضى التراكمُ الذى حدثَ بفعل توسع التجارة وازدهارها، وبفضل التطور فى العلم، إلى الوقوف على أعتاب عصر الصناعة فيما عُرف بثورتها الأولى، فى الوقت الذى أتاحت المبادئ التى بُشر بها وما ارتبطَ بها من أفكار إمكانات التطور التدريجى أيضًا نحو الديمقراطية.

فكان النصف الأول فى القرن التاسع عشر بمثابة مرحلة الانتقال الأكثر أهمية، التى شهدت مخاضًا صعبًا للديمقراطية بالتزامن مع البدايات الأولى لظهور ما صارت تُعرف بالتقنية (التكنولوجيا) نتيجة التطور العلمى، بدءًا من العقد الثانى فى القرن الثامن عشر حينَ اختُرعَ أول محرك بخارى، ووصولًا إلى عقده السابع مع الشروع فى استخدام هذا المُحرك لتشغيل آلة غزل النسيج التى أحدثت ثورة فى الصناعة، وفتحت طريقًا أوسع باتجاه التقدم الاقتصادى، فى تفاعلِ مع التقدم السياسى الذى وفرته الديمقراطية عندما أشرف مخاضها الصعب على الانتهاء فى العقود الثلاثة الأخيرة فى ذلك القرن، واستنادًا على التقدم الثقافى-الفكرى الذى كانت فتوحاتُ عصر التنوير بدايةً لازدهاره.

ولهذا يتعذر اختتامُ دراسة فى التقدم الذى لا ختاَم له فى موطنه الأوروبى، والأمريكى معه بطبيعة الحال، ولا نهايةً لسعى أعداد متزايدة من البلدان فى بقية أنحاء العالم إلى الأخذ بأسبابه كُل بطريقته، ووفق ظروفه، وحسب ما يؤدى إليه التفاعلُ بين مُحفزاته وكوابحه فى كل منها، وأخذًا فى الاعتبار أنه لا يسير فى خط مُستقيم، بل مُتعرج، وأن الآثار السلبية لإساءة استخدام العقل والعلم تدفعُ أعدادًا متزايدةً من البشر إلى الشك، والتشكيك، فى أنه يسيرُ فى الطريق الصحيحة، ومما يُؤدى إلى تراجع التفاؤل بمستقبل البشرية.

لكن ما يمكن استخلاصُه أن مسارَ التطور الذى قطعتهُ أوروبا استغرقَ بين أربعة وخمسة قرون، إلى أن اكتملت المُقوماتُ اللازمةُ للمضى قدمًا نحو التقدم الذى لا يتحقق، على هذا النحو، فى صورة طَفرَات، ولكن المسارَ المؤدى إليه لابد أن يشملَ بعضًا منها فى هذا الجانب أو ذاك، خاصةً فى العِلم الذى تقدم، ويتقدم، عبر عمليات تفاعل مستمر بين التراكم المؤدى إليه والطفرات التى يُسميها بعض دارسى فلسفة العلوم ثورات علمية كما سبقت الإشارة فى منهجية الدراسة. وهذا حديثٌ آخر يتطلبُ دراسةً قائمةً بذاتِها عن التقدم العلمى والنظريات المختلفة بشأنه.

مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية