علمنا تاريخ الشعوب أنه بالإضافة إلى ما يسميها العلم التحليلات الخطية والتصورات المنطقية المستندة إلى ترتيب النتائج من المقدمات تبزغ بعض الأحداث العابرة أو المفاجئة لتظهر نفسها دون قصد في صورة معايير تاريخية فاصلة قادرة على أن تختبر متانة الأنظمة أو هشاشتها، وكفاءة الحكومات أو عقمها، وإنسانية المشاعر الشعبية أو همجيتها.
وقد علمنا التاريخ كذلك أنه ليس لمثل هذه المعايير الفاصلة موعد ولا أمد ولا وتيرة فلربما تمضي سنوات طويلة من دون أن تظهر وقائع من هذا الطراز الفاصل، لكن ظهورها مهما كان مفاجئا يظل كفيلا بأن تحدث موجات لا تتوقف ودوامات لا يضعف تأثيرها إلا بعد أن تكون قد غيرت من مجمل الواقع السياسي وتراكماته السابقة بعيدا أو قريبا مما تقول به مدرسة علمية مرموقة عرفت باسم مدرسة شيكاغو.
وفي سنواتنا الخمس الأخيرة كانت كثير من أحداث ثورات الربيع العربي كاشفة لحقيقة كثير من “التدليس الاختياري” الذي عاشته كثير من الشعوب العربية والإسلامية مع زعامات صناعية، وبدت معظم التطورات عربية عربية في تداعياتها المباشرة إلا في حالة واحدة وبارزة تعلقت بالثورة السورية التي دفعت جماهيرها المظلومة ثمنا بالغ القسوة من التشرد والمعاناة الإنسانية حتى أنها خلقت حالة قصوى من صور الكوارث البشرية الحادة التي تجاهل الغرب حجمها وقسوتها وإن لم ينكر وجودها واستمرارها.
“كانت أجهزة الرصد والإحصاء والترتيب والتسجيل والمؤشرات تسجل لحكومة العدالة والتنمية نجاحاتها حتى وإن تشوقت إلى يوم تسجل فيه على هذه الحكومة إخفاقاتها أو سقوطها، لكن الأمور في جوهرها الجدي كانت تمضي مع حكومة تركيا قريبا مما جرى في فترات معروفة مع اليابان وألمانيا “
وفي خضم هذا فقد كانت التداعيات السورية كاشفة بكل وضوح عن حقيقة ناصعة كان العالم الغربي يبلعها ويبتلعها على مضض غير مقر بالتفوق الأردوغاني وغير متورط في الوقت نفسه في محاولة إنكاره أو تقزيمه أو تسميته باسم آخر على نحو ما اضطر إليه الأعداء التقليديون للإسلام السياسي في العامين الأخيرين.
ومن الحق أن نقول إن أجهزة الرصد والإحصاء والترتيب والتسجيل والمؤشرات كانت تسجل لحكومة حزب العدالة والتنمية التركي نجاحاتها حتى وإن تشوقت إلى يوم تسجل فيه على هذه الحكومة إخفاقاتها أو سقوطها لكن الأمور في جوهرها الجدي كانت تمضي مع حكومة تركيا قريبا مما جرى في فترات معروفة مع اليابان وألمانيا (الغربية) من قبل.
فلما تفاقمت التداعيات الإنسانية لأزمة سوريا متمثلة في معضلات النزوح والهرب والهجرة واللجوء والحدود طغت روح الحكمة التركية المستندة إلى قيم إسلامية وإنسانية رفيعة على مجمل توجهات الدولة حتى بدا الأمر وكأن الكوارث السورية والعربية قد توالت لتثبت -دون ترتيب مسبق- مدى قوة الحكومة الأردوغانية خلقيا ولوجستيا ومدى كفاءتها الإدارية وملاءتها المالية على مستوى الخيال والتصور، ولسنا هنا بحاجة إلى تعداد مظاهر هذا النجاح الساحق.
يكفينا أن نتأمل في محتوى ومستوى الحوارات العابرة التي تُجرى في محيط العائلات الأوروبية بطريقة تلقائية متحررة من الرسميات لنكتشف بسهولة أن نجاحات أردوغان وحكومته أصبحت مضرب المثل في التفوق الساحق في معالجة أكثر من أزمة حالة وحادة من خلال تخطيط فوري ومتميز لسياسات الإيواء واسع النطاق، والمخيمات الجاهزة للسكن الآدمي والمزودة بالمرافق العمومية، ودمج جماعات كبيرة العدد من اللاجئين وإتاحة برامج التعليم وتوفير مقومات التأهيل والحياة الاجتماعية السوية.
برز هذا الإعجاب بالتفوق التركي حاضرا بقوة وإن لم يتطور في مستويات البروباغندا إلى تصفيق حاد أو تشجيع مفتعل أو دعم مستتر، ومع أن هذا الموقف التركي صب بالنهاية في مصلحة أوروبا دولا وأرضا وسكانا وصب كذلك في تحسين صورة أوروبا خلقيا وسياسيا فإنه بطريقة أخرى استنفر واستفز أحقادا تاريخية كانت مبيتة ضد ما يمثله البديل الإنساني الذي يقدمه الإسلام بتلقائية وأريحية، ومن ثم رأى بعض الإستراتيجيين الغربيين من طراز كيسنجر أن أوان بعث هذه الإحن والأحقاد ضد ما يمثله الإسلام قد حان.
“مع تفاقم أزمة سوريا بدا الأمر وكأن الكوارث السورية والعربية قد توالت لتثبت -دون ترتيب مسبق- مدى قوة الحكومة الأردوغانية خلقيا ولوجستيا، ومدى كفاءتها الإدارية وملاءتها المالية على مستوى الخيال والتصور، ولا داعي لتعداد مظاهر هذا النجاح الساحق”
ومما يؤسف له أن هذه الرؤية الإستراتيجية العتيقة والضيقة والمضيقة والمصابة بنوع مزمن من “عفونة التخزين السيئ” قد تواكبت مع ازدهار مصنوع ومشجع عليه لحالة الرعب الانفعالية مما تمثله تجليات التجربة من صواب وخطأ كان لا بد أن يمر على أي ممارسات نزقة أو ناضجة لتيارات الإسلام السياسي على نحو ما تسميها أدبيات معبرة بالباطل عن تيار الرعب كمقدمة مبررة لتشجيع الاجتهاد المحموم في تمويل كل مخطط يسعى إلى اجتثاث أي نجاحات إسلامية من جذورها بكل ما هو متاح -لسوء الحظ- من قسوة وافتراء على الحقيقة.
هكذا وجدت تركيا نفسها في صراع مفروض عليها كي تدفع ثمن “الأنسنة” في نجاحها في الوقت الذي لم تكن هي نفسها في السنوات المنتهية لتوها قد طولبت فيه بدفع ثمن مقارب أو مواز للنجاح نفسه.
وبدا الأمر بوضوح شديد شبيها بحالة دولية سابقة شخصتها منذ أكثر من عقد من الزمان في مقال لي بعنوان “هل النمو الإسلامي هو المستهدف في ماليزيا؟” ويومها حزت إعجابا لا حدود له بشجاعة هذا التشخيص وذلك التعبير، ولست في حاجة الآن إلى أن أعدد للقارئ دلائل وشواهد متناثرة أو متآزرة على الطابع العنصري الذي أقحم في مسلسل تلك الحرب الكونية السريعة والمريعة على نجاحات أردوغان.
وهي حرب حضارية متقدمة ومعقدة أحرز فيها أردوغان نصرا رابعا -بعد انتصارات ثلاثة متعاقبة- وساحقا في انتخابات الأحد الأول من نوفمبر/تشرين الثاني لكنه شأن كل نجاح سياسي يمثل مرحلة من الحرب المستعرة بأكثر من كونه نجاحا نهائيا طالما بقيت قوى الشر تتربص بالأنسنة التي تحاربها بقسوة على الرغم من التشدق بها بتلذذ وادعاء.
ومن الحق أن التاريخ يسجل في وضوح أن الدوافع العدائية ضد النجاح السياسي الإسلامي في تركيا والخوف المتضخم والمنفزع من توقعات ومعقبات امتداده إلى “سوريا القادمة ” قد تدحرجت في مفارقة ومخاصمة شقها الإنساني المعلن على نحو مكثف ومتمركز ومتدافع كان بمثابة أقوى دليل على حقيقة ما وصلت إليه حكومة تركيا من قوة وإمساك بمفاتيح النصر الحقيقية في صراع مغر تجنبت الخوض المباشر بمستنقعه.
وقد تأكد هذا المعنى بوضوح ساطع منذ الأسبوع الأخير في سبتمبر/أيلول 2015 حين بدت أزمة سوريا وكأنها قد أصبحت دورا من أدوار مباراة فاصلة في الشطرنج بين طرفين، العالم كله فريق، والإنسان السوري بمفرده فريق، لكن كل النتائج والاحتمالات كانت تشير إلى ترجيح انتصار سوريا.
“من حسن الحظ أن أدرك صفوة المثقفين من الأكراد ومن الأتراك والقوميات الأخرى بل ومن الملحدين والمسيحيين والمتعصبين التقليديين ضد الإسلام السياسي حقيقة ما يراد ببلادهم من شر مستطير ومبيت تحت زعم إنهاء حقبة الأردوغانية فكان قرارهم واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار”
فحين بدأ التضييق على اللاجئين السوريين من أمامهم لعبوا كحصان وتحركوا بحركتي نقل الحصانين في اليمين والشمال (في كرواتيا والمجر ومقدونيا واليونان) فكسبوا الاحترام وانكشف المنافقون انكشافا تعجب له العالم!
وحين بدأت ملامح التضييق بالقوات الروسية المحتشدة بالكراهية غير المبررة بدأ السوريون يلعبون على الوتر بينما الجنود الروس كعادتهم لا يعرفون إلا محورين، ولما تكثف الحصار على السوريين بأسلوب حماية ظهور المعتدين بالطابية أو القلاع هددوا الوزير والطابية معا فاضطر المنافقون إلى التضحية بالطابية.
ليس سرا أن السوريين البسطاء الذين اندفعوا في موجات مختلفة من النزوح إلى أوروبا في الشهرين الأخيرين كانوا يلجؤون إلى هذه المخاطرة القاسية بعدما استقر في يقينهم ما رأوا ملامحه تتشكل من أن الغرب مصمم على إسقاط أردوغان الصاعد تباعا بدلا من إسقاط بشار الساقط تماما، وأن اليوم التالي لإسقاط أردوغان سيشهد -وبلا رحمة- إبادة مخططة لمليونين من السوريين اللاجئين الآن في تركيا على الرحب والسعة، وأن هذه الإبادة المخططة ستتم في ظل حمى مصنوعة ترفع شعار محاربة “الإرهاب” (أي الإسلام).
وعلى نحو ما رأينا في مصر فإن قائمة الدوافع الصهيونية جاهزة، وكشوف المبررات مقولبة كي تتكرر مذابح رابعة المصرية وأخواتها على نطاق مليوني بدلا من نطاقها الألفي الذي حدث في مصر، وأن سعيد الحظ من السوريين والأتراك كذلك هو من سوف تساعده قواه البدنية على النجاة من الإبادة اكتفاء بالهرب مصحوبا أو غير مصحوب بالتنصير أو الانتماء لسرب ما من أسراب المافيا الجديدة.
ومن حسن الحظ أن أدرك صفوة المثقفين من الأكراد ومن الأتراك والقوميات الأخرى بل ومن الملحدين والمسيحيين والمتعصبين التقليديين ضد الإسلام السياسي حقيقة ما يراد ببلادهم من شر مستطير ومبيت تحت زعم إنهاء حقبة الأردوغانية فكان قرارهم واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار، ولم يتجل هذا في النسبة التي فاز بها حزب الحرية والعدالة فحسب لكنه تجلى بصورة أبدع في معدلات التصويت غير المسبوقة على مدى التاريخ.
لقد كانوا يريدون أن يحاربوا في تركيا إنسانيتها لكنها انتصرت على من أرادوا أن ينزعوا منها إنسانيتها.
محمد الجوادي
المصدر : الجزيرة