جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الاثنين، تلويحه بشن عملية عسكرية خامسة على طول الحدود الشمالية في سوريا، ورغم أن هذا الموقف ليس جديدا، إلا أنه يختلف عن السابق، من زاوية الظروف السائدة في المنطقة هناك من جهة، والظرف الدولي المعقّد من جهة أخرى.
وقال إردوغان في تصريحات صحفية إن بلاده “ستبدأ خطوات تتعلق بالجزء المتبقي من الأعمال التي بدأتها، لإنشاء مناطق آمنة في عمق 30 كيلومترا على طول الحدود الجنوبية مع سوريا”، مضيفا أن القرار النهائي سيتم اتخاذه في اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، الخميس المقبل.
وفي وقت توقع فيه مراقبون أتراك أن تتجه تركيا لهكذا عملية في المرحلة المقبلة، اعتبرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) أن التصريحات التركية عن عمل عسكري تهدف إلى “تسخين الأجواء”.
وجاء في بيان لها، نشر الثلاثاء، أن “قسد” تدرس مستوى التهديدات التركية الفعلية والمتوقعة لمناطق شمال وشرق سوريا، وأنها تتبادل المعلومات مع “القوى الدولية الضامنة”.
“مشروع قديم جديد”
و”المنطقة الآمنة” هو مشروع “قديم – جديد”، وكان إردوغان قد تحدث عنه لأول مرة في عام 2013.
وبينما جدد مطالبه في تنفيذه على أرض الواقع على طول الحدود الشمالية مع سوريا، لم يلق أي تأييد من قبل الدول الفاعلة بالملف السوري، وخاصة أميركا والأوروبيين، منذ ذلك التوقيت.
وتهدف تركيا من خلال هذا المشروع إنشاء “منطقة آمنة” على طول الحدود الشمالية لسوريا، بعمق 30 كيلومترا، وقبل أسابيع كانت قد كشفت نيتها إعادة مليون لاجئ سوري إليها “بصورة طوعية”.
وتستهدف أيضا من خلاله إبعاد “وحدات حماية الشعب” الكردية (العماد العسكري لقوات سوريا الديمقراطية”) من على حدودها، والتي تعتبرها تهديدا لأمنها القومي، متهمة إياها بالارتباط بـ”حزب العمال الكردستاني” المصنف على قوائم الإرهاب الدولية.
ولطالما ظهر الرئيس التركي خلال السنوات الماضية، وهو يحمل خريطة تظهر حدود هذه المنطقة، وكان أشهرها في أثناء الخطاب الذي ألقاه في الدورة الـ 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك الأميركية، أغسطس عام 2019.
وقال، حينها إنه “ومع مد عمق المنطقة الآمنة إلى خط دير الزور- الرقة، بوسعنا رفع عدد السوريين الذي سيعودون من بلادنا وأوروبا وبقية أرجاء العالم إلى ثلاثة ملايين”، مضيفا: “بالتعاون مع أميركا وقوات التحالف وروسيا وإيران، يمكننا نقل اللاجئين من المخيمات إلى المنطقة الآمنة”.
“من 2016 إلى 2022”
وفي حال أقدمت تركيا بالفعل على تنفيذ تهديدات العملية العسكرية الحالية في شمال سوريا، فإنها ستكون الخامسة من نوعها للجيش التركي.
وكانت أولى العمليات في عام 2016، حيث حملت اسم “درع الفرات”، وسيطر من خلالها الجيش التركي على مناطق واسعة في ريف حلب الشمالي والشرقي، بعد معارك خاضها مع فصائل “الجيش السوري الحر” ضد تنظيم “داعش”.
ومع مطلع عام 2018 نفذ الجيش التركي وتحالف “الجيش الوطني السوري” الذي يدعمه عملية عسكرية ثانية حملت اسم “غصن الزيتون”، وسيطروا من خلالها على منطقة عفرين التي كانت خاضعة لسيطرة “وحدات حماية الشعب”.
وبعدها في عام 2019 أطلقا عملية عسكرية حملت اسم “نبع السلام”، وسيطروا من خلالها على شريط حدودي يمتد من مدينة رأس العين في ريف محافظة الحسكة، وصولا إلى تل أبيض في ريف محافظة الرقة.
ومن الشمال والشمال الشرقي إلى محافظة إدلب أطلق الجيش التركي، عقب ذلك، في عام 2020 عملية عسكرية كانت الأولى من نوعها ضد قوات النظام السوري، وحملت اسم “درع الربيع”. وجاء ذلك بعد ضربة جوية أسفرت عن مقتل أكثر من 30 عنصرا تركيا في منطقة جبل الزاوية.
“عوامل تعيد التهديد للواجهة”
في غضون ذلك وبينما كان لكل عملية عسكرية تركية في السابق ظرفها الخاص، يأتي التلويح بالخامسة في ظل مستجدات إقليمية ودولية.
وجاءت تهديدات إردوغان بالتزامن مع قضية الطلب الذي قدمته فنلندا والسويد من أجل الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وهو الأمر الذي تصر أنقرة على رفضه، وتشترط “ضمانات” تتعلق بالمنظمات التي تعتبرها إرهابية على طول حدودها.
كما تأتي التهديدات في وقت تتحول فيه أنظار العالم إلى أوكرانيا والغزو الذي بدأته روسيا ضدها، منذ الرابع والعشرين من فبراير الماضي.
في المقابل اعتبر مراقبون أن الحديث المتعلق بــ”توسيع المنطقة الآمنة” يرتبط بعوامل داخلية، تتعلق بشكل أساسي بالانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها بعد عام من الآن، وما يرافق ذلك من ضغوطات تمارسها أحزاب المعارضة التركية، بشأن ملف اللاجئين السوريين، وضرورة إعادتهم إلى بلادهم.
ويشير الباحث السياسي المختص بالشأن التركي، محمود علوش إلى أن “الرغبة التركية بتوسيع حدود المنطقة الآمنة ليست جديدة”، لكنه يقول إن “الظروف المناسبة اليوم لمثل هذه العملية لم تكن متوفرة في السابق”.
وعندما أطلقت أنقرة عملية “نبع السلام”، لم تستطيع توسيع حدود هذه المنطقة أكثر من المساحة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، بسبب الضغوط الأميركية والغربية والروسية الكبيرة التي مورست عليها في تلك الفترة.
أما اليوم فيضيف علوش لموقع “الحرة”: “يبدو الوضع مختلفا على أكثر من صعيد”.
ويعتقد إردوغان أن “الظروف الآن تبدو مثالية لشن هجوم جديد ضد الوحدات الكردية”، بحسب الباحث.
ومن جانب، “تبدو روسيا مشغولة بأزمتها في أوكرانيا ويتعرض وجودها العسكري في سوريا لضغوط شديدة من جانب تركيا بعد تقييد حركة الأجواء وإغلاق البحر الأسود”.
ومن جانب آخر، يتابع الباحث، أن “الغرب يحتاج إلى ضمان عدم توتر العلاقات مجددا مع أنقرة، والاستفادة من مزايا أنقرة في استراتيجية احتواء روسيا وتوسيع حلف الناتو”.
وتعتبر واشنطن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التي تشكّل الوحدات عمادها العسكري، حليفا في الحرب ضد تنظيم “داعش” في شمال شرق سوريا، بينما ترى تركيا “قسد”، امتداد لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي صنفته واشنطن وأنقرة على أنه منظمة إرهابية.
وحتى الآن لم تبد الولايات المتحدة الأميركية أي موقف بخصوص الشروط التي تضعها أنقرة أمام قبول عملية توسيع الناتو، كما لم تعلّق على التهديدات التي أطلقها إردوغان، الاثنين.
ومن المقرر أن تشهد العاصمة التركية أنقرة، الأربعاء زيارة سيجريها وفد فنلندي وسويدي، من أجل بحث طلب الانضمام لـ”الناتو”، في ظل إصرار المسؤولين الأتراك على مطالبهم بخصوص “المنظمات الإرهابية” التي تدعمها الدولتين، بحسب تعبيرهم، وخاصة في سوريا.
هل تترجم التهديدات؟
ولا توجد مؤشرات عسكرية على الأرض حتى الآن تتعلق بتهديدات العملية العسكرية الخامسة.
لكن وعلى مدى الأشهر الماضية تصاعدت حدة الاشتباكات والضربات على خط الجبهة الممتدة على طول مناطق سيطرة الجيش التركي، في منطقة عمليات “نبع السلام”.
وكان إردوغان قد تحدث أن “العمليات ستبدأ بمجرد انتهاء تحضيرات الجيش والاستخبارات والأمن”، مشيرا إلى أن “الهدف الرئيسي سيكون مناطق تمثل مراكز للهجمات على بلادنا وإقامة مناطق آمنة”.
في المقابل اعتبر بيان “قوات سوريا الديمقراطية” أن التهديدات تأتي “في سياق محاولات ضرب الاستقرار، وإعادة تنشيط فلول داعش”.
ويقول كورشاد زورلو الكاتب التركي في موقع “خبر تورك”: “سواء كانت هذه العملية ستتقدم بأسرع وقت ممكن أم بشكل تدريجي خلال شهور، فهذا سيحدد التوازنات التي يمكن أن تحققها تركيا في الداخل والخارج، وكذلك المخاوف الأمنية”.
ويضيف: “لذلك، فإن دعم تركيا المحتمل لعضوية الناتو في هاتين الدولتين (فنلندا والسويد) سيكون فعالا أيضا في مقاربتهما للعملية القادمة”.
وبحسب الكاتب: “سيكون الأهم هو موقف روسيا، التي حولت انتباهها إلى حد كبير إلى أوكرانيا. والآخر هو مسار العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا ومسار المناقشات الجديدة التي تتمحور حول تركيا في الناتو”.
بدوره تحدث الباحث السياسي، محمود علوش عن “عوامل عديدة تضغط على أنقرة لتوسيع مناطق سيطرتها في شمال سوريا”.
وأولى هذه العوامل تتعلق بالمستوى الأمني، حيث “سيُساعد توسيع حدود المنطقة الآمنة في شرق الفرات على تقليص المخاطر التي تُشكلها الوحدات الكردية على هذه المنطقة، وتقييد قدرة الإدارة الذاتية الانفصالية”، بحسب تعبيره.
ويضيف الباحث أن “ملف إعادة اللاجئين السوريين يضغط كذلك على تركيا لتوسيع المنطقة الآمنة، حيث أن مثل هذا المشروع يتطلب أولا تأمين المناطق الآمنة المقامة بالفعل، وثانيا توسيع نطاقها لاستيعاب أكبر عدد من اللاجئين”.
وفي الداخل التركي لا يختلف المشهد كثيرا، ووفق علوش فإن “أي عملية عسكرية جديدة في سوريا ستعود بالفائدة على شعبية إردوغان مع اقتراب الانتخابات”، موضحا: “هو بحاجة بالفعل لدفعة انتخابية في ظل استطلاعات الرأي التي تتحدث عن تراجع في شعبيته”.
“فرصة واختبار”
وكانت تركيا قد واجهت على خلفية عمليتها العسكرية الأخيرة (نبع السلام) عقوبات أميركية وأوروبية، شملت حظر تصدير معدات صناعة الدفاع إليها.
وفي الوقت الحالي تطرح تساؤلات عما إذا كانت ستمضي بالعملية العسكرية بالفعل، خاصة مع ترقب الداخل التركي للاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، والحديث المتكرر بشأن الوضع الاقتصادي والآخر الذي تشهده العملة التركية.
وصرح الصحفي والكاتب التركي، مراد يتكين أن “العملية العسكرية التي من المرجح أن تبدأ في سوريا ستكون فرصة لأنقرة، لاختبار موقف ستوكهولم وهلسنكي تجاه نشاط حزب العمال الكردستاني. وبالطبع الولايات المتحدة الأميركية”.
ويقول الكاتب: “في حين أن الاهتمام في السياسة الدولية ينصب على الأزمة الروسية الأوكرانية، يتجه الآن إلى ما إذا كانت تركيا ستوافق على عضوية فنلندا والسويد”، متسائلا: “كيف سيكون رد فعل الغرب على عملية جديدة في سوريا؟ كيف سيكون رد فعل السويد وفنلندا على وجه الخصوص؟”.
أما الباحث علوش فاعتبر أن “تركيا تبدو جادة بالفعل هذه المرّة في إطلاق عملية عسكرية جديدة وتتطلع إلى تحقيق مكاسب فيها على أكثر من صعيد”.
ويوضح الباحث أن “التوقيت الذي اختاره إردوغان لإطلاق العملية بالتزامن مع النقاش الدائر بشأن توسيع الناتو يُشير إلى محاولة أنقرة فرض مقاربة جديدة على الغرب إزاء مسألة مكافحة الإرهاب. الأتراك يُريدون ترجمة الموقف السياسي الغربي الداعم لكفاح تركيا ضد الإرهاب على الأرض”.
الحرة