من العسير بمكان أن يجد من يتابع سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منطقاً شاملاً لانعطافاته وتقلباته، غير نزواته الشخصية التي تحدّدها حسابات بقائه في الحكم بغياب أي اعتبارات استراتيجية راسخة. فحتى الاعتبار الذي قد يعتقد الناس أنه يأتي في طليعة هواجس الدولة التركية ويفرض نفسه بالتالي على رئيسها كاعتبار ثابت في تحديد سياسته، قصدنا بالطبع الاعتبار الكردي، حتى هذا الاعتبار عرف انعطافاً حاداً في ظل حكم أردوغان بين سنواته الأولى التي حقق خلالها سلاماً ديمقراطياً مع الحركة الكردية، وكانت سنوات ازدهار لتركيا شكّلت أساس شعبية أردوغان التي سمحت له بالاستمرار بمسك زمام السياسة التركية، ومنعطف عام 2015 عندما مُني حزب أردوغان بتراجع انتخابي حدا زعيمه على الانعطاف نحو التعصّب القومي التركي وإعادة إشعال الحرب مع الحركة الكردية والدخول في تحالف مع أقصى اليمين القومي التركي، ما زال قائماً إلى اليوم.
ومن بين مواضع التقلّب في سياسة أردوغان، وهي عديدة تشمل بين ما تشمله الموقف من الدولة الصهيونية ومن محور التطبيع العربي ومن المملكة السعودية وكذلك الموقف من جماعة الإخوان المسلمين ومن النازحين السوريين في تركيا، إلخ، تأتي في الصدارة تقلبات موقفه إزاء روسيا، والكل يتذكّر كيف انتقل من التبجّح بإسقاط طائرة روسية فوق الأراضي التركية عند بداية القصف الروسي لسوريا في خريف عام 2015 إلى تقديم الاعتذار لفلاديمير بوتين بعد أشهر من ذلك تمهيداً للمقايضة بين فسح روسيا المجال أمام اجتياح الجيش التركي لمنطقة عفرين، التي كانت تحت سيطرة الحركة الكردية حتى ذلك الحين، وفسح تركيا المجال أمام قوات نظام آل الأسد مدعومة بالقصف الروسي كي تجتاح شرقي حلب وتحكم السيطرة على كبرى المدن السورية وجوارها.
ومن عجائب السياسة الدولية أن تركيا، وهي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي وتستقبل على أرضها إحدى أهم قواعد الحلف المذكور، قاعدة إنجرليك الجوية، تركيا ذاتها قرّرت أن تشتري من روسيا، خصم الناتو بامتياز، منظومة صواريخ أرض ـ جو س ـ 400. واستمراراً على نهج علاقة الحب ـ البغض تلك، فإن روسيا وتركيا تساندان معسكرين متخاصمين يتحاربان على أرض سوريا بينما تتظاهر الدولتان بالتوافق في أستانة وسواها، وكأن الثلاثي المؤلف من روسيا وإيران وتركيا متفقٌ على إبقاء سوريا إلى الأبد على حالتها الراهنة التي يُرثى لها.
إن كان من درس يُستفاد منه أمام هذا المشهد العالمي فهو أخطار تركّز السلطات بيد حاكم منفرد، إذ يفسح ذاك التركزّ المجال أمام التقلّبات والمواقف المتناقضة
كما تتخاصم روسيا وتركيا في القوقاز من خلال دعم الأولى لأرمينيا مقابل دعم الثانية لأذربيجان وتتنافسان كذلك في النفوذ على آسيا الوسطى.
هذا السلوك المتناقض يؤدي في نهاية المطاف إلى أن يصبح من يسلكه «لا مع ستّي بخير ولا مع سيدي بخير»، أي أن تركيا باتت لا مع روسيا بخير ولا مع الولايات المتحدة وحلف الناتو بخير. وقد بلغ سلوكها الملتبس أوجّه إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا. والحال أن دعم تركيا للقوات الأوكرانية في حربها ضد الانفصاليين في شرقي بلادها، لاسيما بتزويد تلك القوات بالطائرات المسيّرة من طراز «بيرقدار تي بي 2»، كان من العوامل التي دفعت بوتين إلى قراره الأرعن باجتياح الأراضي الأوكرانية في محاولة فاشلة لقلب نظام الحكم فيها.
وبينما تفتخر تركيا بمفعول طائراتها في تمكين مقاومة القوات الأوكرانية للغزو الروسي، وتمنع عبور السفن الحربية لمضيقي البوسفور والدردنيل، وهو قرار موجّه ضد روسيا بوضوح، كما تحظر عبور الطائرات الحربية الروسية فضاءها الجوي، ترفض المشاركة في فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وتقوم بوساطة بين روسيا وأوكرانيا وكأنها محايدة إزاء النزاع الدائر بينهما. وها أن تركيا تعترض على انتساب السويد وفنلندا إلى حلف الناتو بحجة علاقتهما بالحركة الكردية السورية، في حين أن للولايات المتحدة، زعيمة الناتو، علاقة بالحركة ذاتها أقوى من علاقة الدولتين بكثير. ويشكل الاعتراض التركي تأخيراً في تحقيق إحدى أهم النتائج العكسية التي جناها بوتين بغزو أوكرانيا، الذي دشّنه متذرّعاً بالتصدّي لتمدّد الحلف على تخوم روسيا، فانتهى به الأمر إلى إقناع جارتين تفوق قوتهما العسكرية قوة أوكرانيا بالخروج عن حيادهما التاريخي وطلب الانضمام إلى الناتو بدورهما، وهو أمر ما كان ليحصل لولا الغزو.
هذا وتلتقي تركيا في الموقف الملتبس من روسيا مع دولة أخرى عضو في حلف الناتو هي المجر، التي يشترك رئيسها فكتور أوربان مع أردوغان بالنزعة السلطوية الأوتوقراطية، مع تودّدهما لبوتين الذي يمثّل ذروة تلك النزعة، عندما تنتفي الديمقراطية تماماً بمنع قيام معارضة ديمقراطية، وذلك بطرق متعددة من السجن إلى الاغتيال، بحيث تستحيل السلطوية دكتاتورية مكتملة المعالم. وإن كان من درس يُستفاد منه أمام هذا المشهد العالمي فهو أخطار تركّز السلطات بيد حاكم منفرد، إذ يفسح ذاك التركزّ المجال أمام المواقف المتناقضة على طريقة الرئيس التركي (ناهيكم هنا عن تقلبات سياسته الاقتصادية)، وصولاً إلى المغامرات الكارثية الرعناء على غرار قرار الرئيس الروسي غزو أوكرانيا.
القدس العربي