لطالما كان “فيلق القدس” الذراع الخارجية الضاربة للحرس الثوري الإيراني، العنوان الأبرز في الخلافات الإقليمية والدولية مع إيران بشأن سياساتها الإقليمية، واليوم بات الموقف من رفعه من قائمة المنظمات الإرهابية الأميركية؛ العقبة الأساسية أمام مفاوضات فيينا النووية الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015. فكما كشفت سابقاً مصادر مطلعة مقربة من المفاوضات الأميركية الإيرانية غير المباشرة لـ”العربي الجديد”، وأكدته وسائل إعلام أميركية لاحقاً؛ هناك توجّه أميركي لرفع الحرس الثوري الإيراني من القائمة، مع إبقاء الفيلق عليها، وهو ما رفضته طهران، مع تصاعد أصوات من البيت الأبيض تؤكد أنه ليس بصدد إخراج الحرس من القائمة.
“فيلق القدس” أو “قوة القدس”، أدرجته الولايات المتحدة على قائمة المنظمات الإرهابية الأميركية عام 2007، مع قائده السابق الجنرال قاسم سليماني، وفي التاريخ نفسه، فرضت عقوبات على أكثر من عشرين شخصاً وشركة ومصرفاً حكومياً بتهمة العلاقة مع الفيلق. ولاحقا وسّعت واشنطن دائرة العقوبات على الفيلق لتشمل خلال السنوات الـ15 الماضية عدداً آخر من قياداته وعشرات الشركات وشركات طيران، مثل مصرفي “صادرات” و”سبه” والصناعات الجوية وشركة “ماهان أير” للطيران.
وبعد التوصّل إلى الاتفاق النووي عام 2015، بقي “فيلق القدس” على قائمة الإرهاب الأميركية، واليوم تقول واشنطن إن مطالبة طهران برفع الحرس الذي أدرج على قائمة عام 2019 وكذلك الفيلق من قائمة الإرهاب؛ تعد مطلباً خارج الاتفاق النووي.
وفي السياق، يؤكد الخبير الإيراني محمد مهدي ملكي، أن “مسألة العقوبات على الحرس الثوري بشكل عام وفيلق القدس بشكل خاص هي مسألة خارج الاتفاق النووي”، قائلاً في حديث مع “العربي الجديد”، إن مفاوضات فيينا معروف أنها مفاوضات لإحياء الاتفاق النووي، مستبعداً إخراج الولايات المتحدة الحرس الثوري والفيلق من قائمة العقوبات.
ويرى ملكي أن الإدارة الأميركية في هذه المسألة “تخضع للوبي الصهيوني ومتنفذين في المنطقة”، قائلاً إن “احتمال قيامها بإلغاء العقوبات ضد الحرس يبقى ضعيفاً”.
ويوضح الخبير الإيراني أن إيران “لن تتنازل عن خطوطها الحمراء، ولن تقبل بما يمس استقلالها ومصالحها وقوتها ونفوذها”، قائلاً إنها لن توقع اتفاقاً من دون رفع الحرس الثوري ومؤسساته من قائمة الإرهاب.
“فيلق القدس” حسب المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، في تصريحات له خلال ديسمبر/كانون الأول 2019، هو مجموعة من “مقاتلين بلا حدود، ينظرون إلى كل مكان بصدر رحب”، مضيفاً في تصريحات أخرى خلال إبريل/نيسان 2020، أن “هذه القوة أهم عنصر للحؤول دون سياسة خارجية انفعالية في المنطقة”.
يشكل الفيلق “جبهة مقاومة قوية في مواجهة الصهيونية وأميركا في المنطقة من البحر المتوسط إلى شرقي آسيا” حسب القيادي السابق في الحرس، حسين كنعاني مقدم، الذي يضيف في مقابلة مع “العربي الجديد”، أن هدف الفيلق هو “حراسة أهداف الثورة الإسلامية خارج حدود إيران”.
ويوضح كنعاني مقدم، أن السياسة الخارجية الإيرانية تعتمد مبدأ “وقف العدو خارج الحدود” الإيرانية، وهذا ما أثبتته تجربة الحرب مع العراق خلال ثماني سنوات، لافتاً إلى أن تأسيس الفيلق جاء انطلاقاً من القناعة بأن ممارسة الدبلوماسية في المنطقة من دون حضور ميداني عملياتي “غير ممكنة”، ليشير إلى اتساع رقعة ما يعرف بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران في اليمن ولبنان والعراق وسورية ومناطق وساحات اشتباك أخرى.
غير أن الموقع الكبير الذي يحظى به “فيلق القدس” في السياسة الخارجية الإيرانية، وبالذات السياسة الإقليمية الشرق أوسطية؛ يصطدم أحياناً بمعارضة الجناح الآخر في هذه السياسة، وهو جناح الدبلوماسية الإيرانية، وهذا ما يحصل غالباً في عهد الحكومات الإصلاحية في إيران. ولعل تصريحات وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، المسربة إلى وسائل الإعلام في إبريل/نيسان 2021، تكشف عن جانب من هذا الخلاف بين الدبلوماسية والميدان في السياسة الخارجية الإيرانية، حيث قال ظريف إن “الكثير من التكاليف الدبلوماسية التي تحملناها كانت بسبب أن الميدان كان له الأولوية لدى النظام، وفي هذا المستوى تمت التضحية بالدبلوماسية لأجل الميدان، وهذا نتيجة أن يكون القرار بيد الميدان”. والمقصود بالميدان هنا هو “فيلق القدس” وحلفاؤه.
جذور تشكيل “فيلق القدس” تعود إلى عام 1980، عندما تشكلت نواة الحرس الثوري بعد عام من انتصار الثورة الإسلامية على النظام الملكي البهلوي في إيران. فعلى أساس البند السابع لميثاق الحرس؛ تشكّلت وحدة دعم الحركات التحررية، وترأسها حينها محمد منتظري، نجل الرجل الثاني في الثورة، الراحل حسين علي منتظري، الذي عزله مؤسسها آية الله روح الله الخميني، من منصب نائب المرشد بعد اختلافهما بشأن إدارة البلاد. ولاحقاً تم اغتيال نجله محمد منتظري قائد وحدة دعم “المستضعفين والحركات التحررية” بالحرس الثوري، في تفجير مقر حزب “الجمهورية الإسلامية” الحاكم عام 1981. وكان محمد منتظري على علاقة جيدة بالفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان، وخاض دورات عسكرية على أيديهم.
ثم تولى مهدي هاشمي، شقيق صهر نائب قائد الثورة، حسين علي منتظري، إدارة الوحدة، لكنه عُزل بعد عام وتم إعدامه عام 1987، بتهمة “التخريب والإفساد في الأرض وإثارة الفتنة والرعب”. بعد ذلك تم حلّ الوحدة الخارجية بالحرس، وأحيلت أعمالها إلى وحدة استخبارات الحرس الثوري، غير أن الحرس قرر توسيع نشاطه خارج الحدود الإيرانية خلال الحرب العراقية الإيرانية، فتشكل مقرّا “بلال” بقيادة فريدون وردي نجاد، و”رمضان” بقيادة مرتضى رضائي، لتنظيم أنشطة الحرس الخارجية في المنطقة. وهكذا ظهرت فرقة “البدر التاسعة” ولواء “أبو ذر” ولواء “66” للقوات الجوية الخاصة من الوحدات العسكرية التابعة للمقرين.
وكان الهدف من تشكيل المقرين في شمال غربي إيران وجنوبيها هو العمل في المناطق الكردية والجنوبية العراقية، وتنفيذ مهمات استخبارية وعملياتية داخل العراق. وشكّل مقاتلون شيعة العصبة الأساسية لفرقة “البدر”، فضلاً عن وجود مقاتلين أكراد في مقر “رمضان”.
خلال هذه الفترة، ساهمت إيران عبر شخصيات مثل رجل الدين الراحل علي أكبر محتمشي بور في تأسيس “حزب الله” اللبناني بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، قبل أن يقع تفجير بيروت عام 1983، الذي أسفر عن مقتل 307 أشخاص، بينهم 241 أميركياً و58 عسكرياً فرنسياً، وهو ما اتهمت واشنطن لاحقاً الحرس الثوري الإيراني بالضلوع فيه، لكن طهران نفت ذلك.
قتل 241 جندياً أميركياً في هجوم انتحاري على مقر القوات الأميركية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983 في بيروت (فرانس برس)
قتل 241 جندياً أميركياً في هجوم انتحاري على مقر القوات الأميركية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983 في بيروت (فرانس برس)
تأسيس الفيلق
بعد عامين من انتهاء الحرب مع العراق في عام 1988، قرر الحرس الثوري الإيراني تعزيز أنشطته الخارجية وتنظيمها، من خلال تشكيل جسم جديد، فأصدر المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي عام 1990، بعد عام من توليه القيادة الإيرانية، قراراً بتشكيل قوة جديدة في الحرس باسم “قوة القدس” أو ما عرف بـ”فيلق القدس”، ليصبح الفيلق القوة الخامسة في الحرس الثوري الإيرانية، بعد القوات البرية والجوية والبحرية والباسيج والاستخبارات. ولا تعلن إيران عدد أعضاء هذا الفيلق، لكن تقارير استخبارية غربية تقدر العدد بنحو عشرين ألف مقاتل.
وعيّن المرشد الإيراني، عام 1988، العميد أحمد وحيدي، وزير الداخلية الحالي، أول قائد لهذه القوة، وظل وحيدي في منصبه حتى عام 1997. ولم تشهد فترة قيادة وحيدي توسعاً لافتاً في أنشطة الحرس الخارجية، لكنها سجلت مشاركة “قوة القدس” في حرب البوسنة والهرسك التي اندلعت في تسعينيات القرن الماضي، إذ كشف القيادي السابق في الحرس الثوري، سعيد قاسمي، خلال إبريل/نيسان 2019 عن توجه “قوات القدس” إلى البوسنة، تحت غطاء الهلال الأحمر الإيراني، حيث قام عناصر هذه القوة بتدريب المقاتلين البوسنيين، وشاركوا في الحرب التي أسست موطئ قدم لـ”فيلق القدس” في أوروبا، وهو حضور مستمر حتى اليوم، لكنه يواجه تحديات ولم يتسع كثيراً.
وقد تزامن تشكيل الفيلق في تسعينيات القرن الماضي مع وصول القوات الأميركية إلى المنطقة بعد حرب الخليج الثانية، وتأسيس قواعد جديدة فيها. الأمر الذي أثار مخاوف إيران، حيث يقول مصدر عسكري إيراني، رفض الكشف عن هويته، لـ”العربي الجديد”، إن هذا التطور كان له مفعوله في تبلور مقاربة إيرانية جديدة للتطورات في المنطقة بعد الحرب مع العراق، ما عزز التوجه لـ”بناء شبكة ردع إقليمية” في مواجهة مخاطر الوجود العسكري الأميركي المتزايد. ويضيف المصدر، أنه “كلما مر الوقت زادت أهمية وجود قوة القدس” لإيران، التي عملت من خلالها على نسج نفوذها في المنطقة ودولها وتوسيعه بالتدريج.
وخلال تسعينيات القرن الماضي، بعد تشكيل “فيلق القدس” وبدء تعاظم دوره الإقليمي، وقع تفجير مجمّع “آميا” اليهودي في بوينس آيرس الأرجنتينية، في 18 يوليو/تموز 1994، والذي أسفر عن مقتل 85 شخصاً. واتهمت الأرجنتين ودول غربية إيران بالوقوف وراء الحادث، وأصدرت محكمة أرجنتينية أحكاما قضائية ضد شخصيات إيرانية. كما شهد عام 1996 تفجير الأبراج السكنية للقوات الجوية الأميركية في الظهران السعودية، حيث وجّهت أيضاً اتهامات لطهران بتدبير الهجوم، ولكنها نفت ضلوعها فيه.
أسفر تفجير أبراج الخبر في الظهران في 25 يونيو/حزيران 1996 عن مقتل 19 أميركياً وإصابة 498 (Getty)
أسفر تفجير أبراج الخبر في الظهران في 25 يونيو/حزيران 1996 عن مقتل 19 أميركياً وإصابة 498 (Getty)
عهد سليماني
تولى قاسم سليماني المعروف عند حلفاء إيران في المنطقة بـ”الحاج قاسم”، قيادة “فيلق القدس” عام 1997، بتعيين من المرشد الأعلى علي خامنئي، وبقي في المنصب 22 عاماً قبل أن تغتاله الولايات المتحدة الأميركية بأمر من رئيسها السابق دونالد ترامب مطلع عام 2020 في ضربة جوية في بغداد أثناء قيامه بزيارة سرية إليها.
كان سليماني أقرب الشخصيات الإيرانية إلى المرشد الأعلى، وعلى الرغم من أن “فيلق القدس” الذي كان يترأسه كان من الناحية التنظيمية والإدارية العسكرية، جسماً من مؤسسات الحرس الثوري؛ فإن سليماني كان يتبع مباشرة لقيادة المرشد، ويتلقى منه الأوامر والتعليمات. وقد أثّر غياب سليماني على خامنئي كثيراً، وهذا ما يبدو واضحاً في تصريحاته وعند ذكر اسمه في مناسبات مختلفة، حيث أجهش المرشد بالبكاء في أول كلمة له بعد اغتيال سليماني.
قرب سليماني من المرشد الإيراني جعله الرجل الثاني الأكثر نفوذاً في أركان السلطة في إيران، كما أنه حظي باحترام جميع الأحزاب والتيارات السياسية المتصارعة داخل إيران بالنظر إلى طبيعة شخصيته التي فضلت الابتعاد عن الاستقطابات السياسية الداخلية، ووقوفه على مسافة واحدة من الأطراف السياسية على الرغم من ولائه الشديد للولي الفقيه وفكره السياسي المحافظ.
يُعرف عهد قيادة سليماني لـ”فيلق القدس” بـ”العهد الذهبي”، حسب مراقبين إيرانيين، ففي هذه الفترة توسعت نشاطات هذه القوة الإيرانية في المنطقة بشكل كبير، وشهدت حوادث ووقائع كبيرة أفرزت معطيات جديدة، كانت هذه القوة طرفاً أساسياً فيها.
وقد طغت شهرة سليماني على “فيلق القدس” نفسه، لدرجة بات الفيلق يعرف باسمه وليس العكس، وبنى نفوذاً واسعاً لإيران في بعض دول المنطقة، سواء كان نفوذاً صلباً عبر تأسيس مليشيات تابعة له، أو نفوذاً ناعماً عبر المجتمعات الشيعية في الدول العربية والإسلامية.
عصر قاآني
عيّن خامنئي الجنرال إسماعيل قاآني، قائداً جديداً للفيلق، خلفاً للجنرال قاسم سليماني، في اليوم نفسه الذي اغتيل فيه سليماني، أي في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020.
وقاآني البالغ من العمر 63 عاماً، من أبرز قادة الحرس خلال الحرب العراقية الإيرانية، وعمل لسنوات طويلة في “قوات القدس” إلى جانب سليماني في المنطقة.
ويمكن اعتبار عهد قاآني “عهد التحديات” التي يواجهها الفيلق للحفاظ على ما بناه سلفه من نفوذ وقوة لإيران في ساحات نشاطه الخارجية.
وتجمع الآراء على أن قاآني ليس كسليماني، ولن يكون بديلاً حقيقيا له، كما يقول محللان مقربان من الحرس الثوري الإيراني لـ”العربي الجديد”، فضلا عدم ذكر اسميهما، مشيران إلى أن “الحاج سليماني أتعب بعمله وذكائه مَنْ خَلِفَه، لأنه لن يكون بالمستوى الذي كان يحظى به سليماني لمواصلة مسيرته المعقّدة وبالوتيرة نفسها”.
العربي الجديد