دق الطبول ليس إشارة مؤكدة إلى اقتراب الحرب. ولا هو أحياناً مجرد ضجيج فارغ بلا أهداف تحت سماء صافية. حرب أوكرانيا دقت طبولها واشنطن ولندن على أمل كبحها، وسط نفي موسكو نيتها في الغزو حتى لحظة اجتياح قواتها للحدود والحديث عن “عملية عسكرية خاصة”. غزوا الولايات المتحدة الأميركية لـأفغانستان والعراق سبقهما تحضير علني وقرع طبول. الحروب العربية – الإسرائيلية منذ 1948 ومعها حروب إسرائيل على منظمة التحرير الفلسطينية ثم “حزب الله” في لبنان وحروبها على “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في غزة كان ضجيج طبولها أعلى صوتاً منها. والحرب التي لم تقع، على الرغم من الحديث المستمر عنها بين إيران وإسرائيل مباشرة، تبدو الطبول كأنها البديل منها.
ولا حدود للسيناريوهات. جمهورية الملالي التي حصلت على أسلحة من إسرائيل خلال حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي تتحدث دائماً عن إزالة إسرائيل وأحياناً عن قدرتها على ذلك خلال “سبع دقائق ونصف” بحسب مسؤول كبير في الحرس الثوري الإيراني. وهي تعمل على الأرض بشكل منهجي: أقامت “جبهة المقاومة” في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة، المشكلة من فصائل مرتبطة بطهران سواء ضمن الإيمان بولاية الفقيه أو من خلال الحصول على الأسلحة والتمويل أو الأمرين معاً. لا بل تعلن أن أي اعتداء إسرائيلي على أي طرف في الجبهة يعني الرد الجماعي عليها من غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن. وفي المقابل، فإن إسرائيل تتصرف على أساس الاستعداد لمواجهة الحرب عليها من الشمال والجنوب. وما فعلته في المناورات العسكرية الأخيرة هو محاكاة حرب شاملة بما فيها ضرب “القلب” في إيران لا الأطراف المرتبطة بها فحسب.
لكن ما حدث حتى الآن هو الصدام العسكري بالمفرّق. في العام 2021، خلال اقتحامات المتطرفين الإسرائيليين المسجد الأقصى المبارك واعتداءاتهم على بقية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، أعلنت حركة “حماس” معركة “سيف القدس” نصرة للمدينة المقدسة وأهلها، وقصفت مع “الجهاد الإسلامي” إسرائيل بآلاف الصواريخ. غير أن الجبهات الأخرى لم تتحرك إلا إعلامياً. وما كان من المفاجآت أن تبالغ “حماس” و”الجهاد” والفصائل المرتبطة بإيران في تصور ما حققته معركة “سيف القدس” من “متغيرات استراتيجية”. ولا أن تمتنع “حماس” هذه المرة عن القصف بالصواريخ التي حددتها سلفاً بـ1111 صاروخاً للرد على “مسيرة الأعلام” التي سار خلالها سبعون ألف متطرف إسرائيلي حاملين أعلام الدولة العبرية في شوارع القدس القديمة وصولاً إلى “حائط المبكى” وباحة المسجد الأقصى من باب المغاربة احتفالاً باحتلال القدس في حرب 1967.
ذلك أن كلفة الحرب بدت بالنسبة إلى الطرفين أكبر من أهدافها، سواء في غزة أو الجنوب اللبناني وبقية الجبهات أو في العمق الإيراني. فالحصيلة هي تبادل الدمار من دون تحقيق أي هدف استراتيجي. لا إيران وميليشياتها تستطيع، على افتراض أنها تريد، تحرير فلسطين. ولا إسرائيل تستطيع، ولو أرادت، إلغاء الشعب الفلسطيني وحتى توحيد القدس. والبديل هو “حرب عصابات” محدودة. حرب اغتيالات تديرها إسرائيل في إيران، وتهدد طهران بالرد عليها كما في اغتيال العقيد حسن صياد خدائي والهجوم بمسيّرة على منشأة بارشين النووية ومصرع شخصين بعد الهجوم بالمسيرات على مصنع للمسيّرات الإيرانية في كرمنشاه. ضرب أهداف لإيران وميليشياتها في سوريا. وإرسال إيران و”حزب الله” مسيّرات فوق إسرائيل، مع التهديد المستمر بالانتقام في التوقيت المناسب.
والمفارقة أن الحروب في الشرق الأوسط هي القاعدة والسلام هو الاستثناء. حرب اليمن مستمرة بشكل أو بآخر منذ انقلاب السلال على الإمام البدر في أوائل الستينيات ودخول مصر الحرب إلى جانب الجمهوريين ضد الملكيين. حرب سوريا مستمرة منذ العام 2011. كذلك حرب ليبيا وحرب السودان والعراق وحرب “داعش” و”القاعدة” وبقية المنظمات المتشددة. ولا نهاية حتى الآن بالمعنى السياسي أو بمعنى قيام دولة عادلة قوية لهذه الحروب. وحرب لبنان مستمرة بوسائل أخرى.
والحرب لتحرير فلسطين، بعدما فشل المسار السياسي وتعطلت عملية السلام بعد اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، هي عملياً حرب مرغوب فيها ومطلوبة، لكنها في الوقت ذاته مرهوبة. وليس عن عبث أطلق العرب في الجاهلية على الحرب تعبير “الكريهة” كما في معلقة الشاعر زهير بن أبي سلمى.
اندبندت عربي