تطور الوضع في ليبيا وسوريا واليمن من انتفاضة سلمية تدعو إلى تغيير النظام إلى صراعات دموية مسلّحة، مضى عليها أربع سنوات، ولا ملامح في الأفق القريب تنبئ بحسمها أو على الأقل حسم أحدها، أو تسویة الصراعات الداخلیة المسلحة في المنطقة العربیة بین ممثلي أطراف الصراع، وبعض الجهات السياسية الخارجية المحايدة. وسبب ذلك وفق الخبراء تعدّد الأطراف المتورّطة في ما يجري في هذه الدول.
وأدّى تعدّد الفاعلين في هذه الصراعات، وفي غيرها في مناطق مختلفة من العالم، إلى أهمية صیاغة معادلات جدیدة لخصخصة السلام. وتعرّف دراسة صدرت حديثا عن المركز الإقليمي بالقاهرة، خصخصة السلام، بأنها محاولة لخلق مصالح اقتصادیة ومالیة مباشرة لكافة الأطراف المنخرطة في الصراع والعودة للتفاوض.
وتكوّنت في إطار الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط شبكات واسعة، “مشروعة”، تعيش على استمرار الصراعات الداخلیة، ولم تعد أطراف هذه الشبكات (أطراف متعددة، مثل الجماعات الإرهابية والقوى العشائریة والقبائل الحدودیة، والمیلیشیات المسلحة) قاصرة على تنظیمات الجریمة المنظمة العابرة، للحدود وإنما باتت تشمل بعض الدول المنتفعة من التجارة غیر الشرعیة، حیث تكونت شبكات إقلیمیة للتهریب على غرار شبكات تهریب السلاح والنفط التي تحقق مكاسب طائلة من استمرار الصراع، حيث تقدر قیمة مكاسب تهریب النفط في سوریا بحوالي 50 ملیون دولار يتقاسمها كل من تنظيم داعش وجبهة النصرة والأكراد ونظام الأسد ومصافي النفط في تركیا.
وینطبق الأمر ذاته على التحالف بین عصابات تهریب المخدرات وحركة “طالبان” في أفغانستان، حیث یتلقى التنظیم ما لا یقل عن 5 ملایین دولار مقابل حمایة عملیات نقل محصول الخشخاش، وفق تقریر فریق الأمم المتحدة لمتابعة العقوبات على طالبان، وهو الأمر الذي ینطبق على تنظیم “القاعدة في بلاد المغرب العربي” ونشاطه في حمایة تهریب المخدرات في شمال مالي، كما تشمل الأنشطة الإجرامیة المرتبطة بالصراعات الداخلیة عملیات تهریب الآثار، والسطو المسلح، والاختطاف مقابل فدیة، والاتجار بالبشر، والهجرة غیر الشرعیة، وهو ما یؤدي لعرقلة تسویة الصراعات الأهلية نتیجة تسببها في تحقیق مكاسب ضخمة لشبكات المصالح. وهو ما بات يؤكّد وفق دراسة المركز الإقليمي، على أن تسویة الصراعات الداخلیة في المنطقة رهن بتوافق المصالح الاقتصادیة لعدد كبیر من الفاعلین من غیر الدول لإنهاء الصراع وفق معادلات العرض والطلب الاقتصادیة.
“خصخصة السلام” محاولة لخلق مصالح اقتصادیة ومالیة مباشرة لكافة الأطراف المنخرطة في الصراع
خصخصة السلام
ومع تصاعد الاهتمام الدولي بالأبعاد الاقتصادیة لتسویة الصراعات والتركیز على إرساء “السلام القابل للاستدامة”، الذي أصبح ضرورة ملحّة خاصة بعد أن قدّم الغزو الأميركي في العراق مثلا على العواقب الوخيمة التي تنجرّ عن الفشل في وضع حد نهائي لصراع مندلع في منطقة مثل منطقة الشرق الأوسط.
وأمام العجز السياسي الذي بات واضحا ومؤكّدا، بدأت الجهات المعنية بإرساء السلام في العالم البحث عن سبل جديدة لإنهاء الصراعات، ومن هنا جاء الحديث عن اللجوء إلى قوة اقتصادیة دافعة تؤدي إلى تهيئة المناخ للاستمرار في نهج التسویة. وعادة ما یتم التركیز على عدة آلیات، مثل توفیر ضمانات ومحفزات اقتصادیة ومالیة لأطراف الصراع لعدم الارتداد للصراع مرة أخرى.
ويطرح مفهوم خصخصة السلام، باعتباره أحد أهم تحولات مراحل تسویة الصراعات الداخلیة، جدلا حول الأطراف التي يمكن أن تساهم في إرسائه، وفي هذا السياق تتحدّث دراسة المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، عن اتجاهين رئیسیین:
* اتجاه يرى ضرورة في اضطلاع الشركات التجاریة الخاصة بأدوار مركزیة لتحقیق الأمن والاستقرار في بؤر الصراعات، وذلك من خلال علاقات تعاقدیة مع الحكومات.
* الاتجاه الثاني یؤكد أن خصخصة السلام تعني أن التسویة السیاسیة للصراعات باتت مرهونة بمعادلات العرض والطلب. وهي معادلات تتحكم فیها مصالح فاعلین اقتصادیین ومجتمعیین لدیهم رغبة مباشرة في استمرار الصراع لزیادة مكاسبهم المالیة منه، وهو ما یرتبط بمدى كفایة الموارد المالیة التي تخصصها المنظمات الدولیة والقوى الإقلیمیة للتغلب على اقتصادات الصراع، ودعم استدامة اقتصادیة وتهيئة السیاقات لاستدامة السلام.
صعود اقتصاد السلام
|
بالعودة إلى سجل الصراعات الإقليمية القائمة اليوم نشهد تصاعدا كبيرا لتركيز الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراعات على الجانب الاقتصادي كلاعب محوري في تحقيق المصالحة أو التسوية أو السلام في نهاية المطاف، وتقف دراسة المركز الإقليمي عند جملة من المحطات التي كرست هذا المفهوم الجديد المطروح في الصراعات.
وشهدت سوریا نشاطا مكثفا لطرح مشروعات إعادة البناء الاقتصادي، حیث تم عقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار سوریا في مایو 2015 بهدف جذب المستثمرین والشركات للمشاركة في إعادة الإعمار. وأكد الرئیس الروسي فلادیمیر بوتین في تصریحاته في 23 أكتوبر 2015 أهمية وضع خطط تفصیلیة لإعادة الإعمار وبناء الاقتصاد السوري بعد القضاء على تهديدات الإرهاب. في المقابل نشطت مجموعة عمل اقتصاد سوریا في وضع خطط لإعادة بناء الاقتصاد السوري بالتوازي مع طرح بعض القوى الغربیة إمكانیة قیام البنك الدولي بتمویل عملیات إعادة الإعمار بعد تسویة الصراع الأهلي في البلد.
على مستوى آخر، استغلت إیران إعادة الإعمار للسیطرة على الاقتصاد السوري من خلال قیام المستثمرین الإیرانیین بالاستحواذ على العقارات والفنادق في العاصمة دمشق ومناطق تمركز العلویین لتعزیز امتلاكها للأصول في سوریا، وضمان بقائها في الترتیبات الاقتصادیة التي تتبع التوصل إلى تسویة سیاسیة للصراع في سوریا.
وفي اليمن عقدت اللجنة العلیا لإعادة الإعمار والتنمیة اجتماعا في 21 أكتوبر 2015 لتخطیط مشروعات إعادة الإعمار في المناطق المحررة في ظل تأكیدات بوجود “مشروع مارشال” لتمویل إعادة إعمار الیمن تقوده المملكة العربیة السعودیة وعدد من دول مجلس التعاون الخلیجي، بینما أكد السفیر التركي لدى الیمن فضلي شورمان في 14 أكتوبر 2015 استعداد تركیا للوقوف إلى جانب الیمن، والإسهام في عملیات إعادة الإعمار.
یرتبط ذلك بإعلان البنك الدولي في 7 أكتوبر 2015 عن رؤیة استراتيجية جدیدة لمساعدة دول منطقة الشرق الأوسط لتحقیق الاستقرار عقب فترات الحروب، حیث أكد حافظ غانم، نائب رئیس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفریقیا، أن البنك الدولي قد خصص 3.5 ملیار دولار لدعم المشروعات التنمویة في الشرق الأوسط العام الماضي، وأن حجم التمویل الموجه لمشروعات المنطقة في العام القادم 2016 سیزداد إلى أربعة ملیارات دولار.
وعقب التوصل إلى اتفاق الصخیرات في لیبیا في 11 یولیو 2015 تصاعدت أطروحات متعددة حول الترتیبات الاقتصادیة التي تؤدي لاستدامة السلام ودعم عملیات الانتقال السیاسي، حیث أعلن صندوق النقد الدولي عقب الاتفاق عن تعهده بدعم الاقتصاد اللیبي وتمویل عملیات إعادة الإعمار. وفي السیاق ذاته، أكد وزیر الخارجیة الإیطالي باولو جینتیلوني في سبتمبر 2015، استعداد بلاده للقیام بدور حاسم في عملیة إعادة إعمار لیبیا.
أمام العجز السياسي الذي بات واضحا ومؤكّدا، بدأت الجهات المعنية بإرساء السلام في العالم البحث عن سبل جديدة لإنهاء الصراعات
في المقابل، باتت بعض المنظمات الدولیة غیر الحكومیة تقوم بأدوار الوساطة المجتمعیة لتهيئة السیاقات للتسویة السیاسیة بالنیابة عن المنظمات الدولیة الحكومیة كنموذج على الإسناد للغیر في صنع السلام. حیث قامت “مبادرة إدارة الأزمات” وهي منظمة دولیة غیر حكومیة معنیة بإدارة وتحویل الصراعات الدولیة، بدور رئیسي في إدارة الحوار بین الفرقاء المتصارعین في لیبیا، بهدف تثبیت الاتفاق السیاسي، وتعزیز التوافقات حول ترتیبات ما بعد التسویة. كما قامت “منظمة الحوار الإنساني” بإدارة حوار بین قبائل الجنوب في لیبیا للتوصل إلى الاتفاق ینهي الخلافات القبلیة، وتأسیس مجلس للقبائل لتعزیز التواصل الداعم للتسویة بین التكوینات القبلیة في لیبیا.
لكن، كل هذه الجهود، لم تصل إلى حد حسم الصراع، أو حتى تقريب وجهات النظر والتقليل من خطورة تفاقمه، حيث تشير الدراسة إلى أن تتبع الصراعات الأهلية في منطقة الشرق الأوسط يكشف عن الافتقاد للقوى الدافعة باتجاه بناء أسس اقتصادیة لتحقیق السلام نتیجة تلاقي مصالح عدد كبیر من الفاعلین في استمرار الصراع، وتضخم حجم وكثافة اقتصادات الصراع، وتصاعد التشبیك بین الفاعلین والجماعات الإجرامیة والإرهابية، إلى درجة تأسیس دورة اقتصادیة كاملة ینخرط فیها مختلف الفاعلین.
وتخلص دراسة المركز الإقليمي إلى أن أغلب التفاعلات الاقتصادیة في المنطقة العربية اليوم تتجه نحو مزيد الصراع وإرجاء التسوية إما على المدى المتوسط وإما حتى على المدى البعيد. وسيكون على الشعوب المحاصرة أن تنتظر أن يتم التنسیق الدولي بین الأطراف الدولیة والإقلیمیة وجملة الأطراف المنخرطة في الصراعات من أجل الاتفاق في ما بينها حول آليات تحقیق مصالحها من خلال تسوية يتم فيها تقاسم السلطة والثروة.
صحيفة العرب اللندنية