جاءت نتائج الانتخابات التركية البرلمانية مفاجئةً إلى حدّ ما، وعلى الرغم من التوقعات المسبقة بفوز حزب العدالة والتنمية، إلا أن أحداً لم يتوقع أن يحصل على 50% تقريباً من أصوات الناخبين وزيادة شعبيته 9% تقريباً في غضون خمسة شهور، علماً أنه حاز 41% فقط في انتخابات يونيو/ حزيران الماضي. وبينما حقّق الحزب هذا النجاح المذهل، تراجعت الأحزاب القومية التركية والكردية بشكل كبير، وكما توقعنا سابقاً فقد حسمت الأصوات القومية، من الناحيتين، نتيجة المعركة الانتخابية، وأدت إلى هذا الانتصار الكبير لـ “العدالة والتنمية”.
إذن، حقّق حزب العدالة قفزة نوعية في خمسة شهور فقط، هي الفترة الفاصلة بين انتخابات يونيو/حزيران وانتخابات نوفمبر/تشرين ثاني، كونه استخلص العبر كما ينبغي من الانتخابات الأولى، وفهم جيداً الرسائل التي سعى الناخبون إلى إرسالها آنذاك.
ضمن فهم الحزب الفائز رسائل يونيو، توارى، أو ابتعد، الرئيس رجب طيب أردوغان عن واجهة الحملة الانتخابية، وقاد رئيس الوزراء زعيم الحزب، أحمد داود أوغلو، حملة انتخابية حزبية ناجحة، مع إبعاد بند النظام الرئاسي المثير للجدل عن جدول الأعمال، كون الناس لم يحبّوه، أو لم يتحمّسوا له، كما ينبغي مثلما اتضح جليّاً من انتخابات الصيف الماضي.
في سياق متصل، فهم الحزب نتيجة انتخابات يونيو، رغبة من الناس في تشكيل حكومة ائتلافية جامعة، وقدّم روايته حول أسباب فشل المفاوضات الائتلافية، واستغلّ جيّداً إعلان حزب الحركة القومي اليميني، منذ مساء السابع من يونيو، عن رفضه المشاركة في حكومة ائتلافية مع “العدالة والتنمية”، وهو ما فعله حزب الشعوب الديموقراطي، على الرغم من تحفظ الزعيم الكردي المعتقل، عبدالله أوجلان، وشرح حزب العدالة والتنمية للناس، ببساطة وصراحة، أنه كان جاداً في مفاوضاته الائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري، الذي قدّم مطالب وشروطاً شبه تعجيزية، تنسف كل إنجازات حزب العدالة والتنمية، في العقد الماضي، في الداخل، وتتماهى أكثر مع سياسات الحلف المعادي لتركيا في الخارج وتوجهاته، وواضح طبعاً أن الجمهور صدّق رواية الحزب، وكافأه مكافأة كبيرة، ورفض رواية أو مزاعم المعارضة، وعاقبها عقاباً صارماً وقاسياً في صناديق الاقتراع.
غيّر حزب العدالة والتنمية كذلك تكتيكاته واستراتيجيته الانتخابية بالكامل، حيث أعاد تشكيل لائحة مرشحيه، لتكون أكثر قبولاً، خصوصاً في المناطق الكردية، وأنجز تفاهمات مع زعماء العشائر وقادتها، ولم يتركهم نهباً لاستفراد حزب العمال الكردستاني وتهديداته، كما ركّز أكثر على ما سيفعله، وليس ما فعله؛ ولم يهتم كثيراً ببرامج الأحزاب الأخرى، بل جعل الأحزاب تهتم ببرنامجه هو، كما جرت العادة في الانتخابات طوال العقد الماضي.
لا يقل أهمية عمّا سبق تقديم حزب العدالة والتنمية نفسه بصفته الحزب الوحيد القادر على قيادة تركيا، وإعادة الاستقرار السياسي الاقتصادي الأمني لها، متّهماً أحزاب المعارضة بالمسؤولية عن حالة عدم الاستقرار لرفضها تشكيل ائتلاف مستقر، كما لرفضها الإدانة القاطعة والحاسمة للإرهاب، بل وتساوق بعضها مع الرواية الخبيثة للحشد الشعب الإقليمي، وداعميه الدوليين، عن علاقة الحكومة بتنظيم داعش، في ابتزاز صارخ لها، أي للحكومة للانخراط في الحرب ضد التنظيم، بغض النظر عن مصالحها القومية، ما أثار نقمة الناخبين، وأدّى تصويتهم الجارف لصالح الحزب الفائز.
في مقابل هذا التقدم الكبير لـ “العدالة والتنمية”، حصل تراجع كبير في مكانة الأحزاب القومية، حزب الحركة القومية ذي التوجهات القومية التركية، وحزب الشعوب الديموقراطية ذي التوجهات القومية الكردية. فقد الأول في انتخابات نوفمبر ربع قوّته الشعبية، نال 12% بدلاً من 16% في انتخابات يونيو، ونصف مقاعده البرلمانية، فقد حصل على 40 مقعداً مقابل 80 في يونيو، 38 مقعداً من الـ40 التي فقدها ذهبت لحزب العدالة والتنمية، في عقاب واضح من الناخبين له، كما تفضيلهم لحزب يميني أو يميني وسطي قوي، بدلاً من حزب يميني ضعيف، لا يستطيع التأثير أو المشاركة الجدّية في صنع الأحداث وتوجيهها. أما حزب الشعوب الكردي ففقدان2.5 % من شعبيته تعادل مليون صوت تقريباً (نال 10.8 مقابل 13.3 في يونيو)، وربع قوته البرلمانية، فقد نال 59 مقعداً بدلاً من 80 يونيو، ذهبت 17 مقعداً من المقاعد الـ21 التي فقدها إلى حزب العدالة والتنمية، في ابتعاد واضح من الناخب الكردي، أو شريحة مهمة منهم عن الحزب الذي أعطوه ثقتهم في انتخابات يونيو، من أجل الانخراط في عملية السلام، ضمن مؤسسات الدولة، فإذا به ينحاز إلى عسكر جبال قنديل ويتماهى مع السياسات الانفصالية للحشد الشعبي الكردي في سورية، ما ارتد سلباً على أوضاع الجمهور الكردي، بعد عقد تقريباً من الاستقرار السياسي الاقتصادي والاجتماعي، علماً أن شريحة مهمة جداً أبقته تحت قبة البرلمان، لإعطائه فرصة أخرى في مزاولة العمل السياسي، ولعب دور في العملية السلمية والديمقراطية، بعيداً عن العنف والعمليات المسلحة.
زاد حزب المعارضة الرئيس، أي حزب الشعب الجمهوري، قوّته بنصف في المائة فقط، رافعاً عدد مقاعده إلى 134 مقعداً، بدلاً من 132 في يونيو. وبشكل عام، نحن أمام هزيمة كبرى لحزب معارضة، يفترض أن يسعى إلى استبدال الحزب الحاكم، أو على الأقل منعه من تشكيل الحكومة منفرداً، وهو ما فشل فيه للمرة الثالثة، علماً أنه تحت قيادة زعيمه الحالي، كلت
شدار أوغلو، خسر خمسة سباقات انتخابية في مواجهة حزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من ذلك، لم يبادر زعيمه إلى الاستقالة، غير أن هذه المرة قد تكون مختلفة، وحتماً ستزداد الضغوط عليه، من أجل المغادرة طوعاً أو كرهاً.
عموماً، حصل حزب العدالة تقريباً على النسبة نفسها التي نالها في عام 2011، وكأن الناخبين يعبرون عن رغبتهم في العودة إلى سنوات الاسقرار والنهوض الأربع السابقة على انتخابات يونيو، وهو ما فهمه زعيم الحزب وقادته الآخرون، عبر التأكيد على المضي في الخطط والمشاريع الاقتصادية والتنموية العملاقة، كما في التوزيع العادل للثروة بين المحافظات، وإعادة الاستقرار السياسي الاقتصادي الأمني للبلد في الداخل، والدفاع عن مصالحها، كما ينبغي تصويت في الخارج أيضاً.
ضمن فهمه رسائل تصويت نوفمبر ودلالاته، دعا حزب العدالة والتنمية قادة المعارضة والأحزاب الأخرى إلى الحوار من أجل التفاهم حول صياغة دستور مدني ديمقراطي جديد، من دون التطرّق مباشرة إلى قضية النظام الرئاسي، مع التصميم على المضي في عملية التسوية والسلام الداخلي، ما يستلزم، بالضرورة، توافقاً حول دستور جديد، لكن الأمر لا يبدو مستعجلاً، ولن يتم استئناف عملية التسوية، أو الخوض في الحوارات حول الدستور الجديد، قبل إعادة الهدوء والأمن إلى البلاد، وإلقاء حزب العمال السلاح، والإقلاع تماماً عن ذهنية العسكرة والعنف أو المراهنة على التغييرات الإقليمية لابتزاز الحكومة، أو إعادة فكرة الانفصال إلى جدول الأعمال المحلي والإقليمي.
ماجد عزام
صحيفة العربي الجديد