للمرة الثالثة خلال أربع سنوات، بعد عمليتي “غصن الزيتون” (شنّتها تركيا في عفرين في يناير/ كانون الثاني 2018) و”نبع السلام” (في أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، تجد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على مساحات واسعة في الشمال الشرقي من سورية، نفسها أمام الخيارات الصعبة، مع تصاعد التهديد التركي بشن ّعملية واسعة النطاق ضد هذه القوات. وتعوّل “قسد”، لتجنب هذه العملية، على موقفين إقليمي ودولي رافضين لأي مسّ بخريطة السيطرة في الشمال السوري.
“قسد” تعول على رفض دولي للعملية التركية
وأعلن القائد العام لـ”قسد” مظلوم عبدي، في حديث لوكالة “رويترز”، أمس الأحد، أن قواته ستنسق مع قوات النظام السوري لصد أي هجوم تركي شمال البلاد، مضيفاً أن “المهمة الأساسية للجيش السوري للدفاع عن الأراضي السورية هي استخدام الدفاعات الجوية ضد الطيران التركي”. وقال عبدي إن زيادة التنسيق العسكري مع النظام لن يهدد حكم القوات الكردية في مناطقها. وأضاف “الأولوية هي الدفاع عن الأراضي السورية، ولا أحد يجب أن يفكر باستغلال الوضع لتحقيق مكاسب على الأرض”.
وقضت الاتفاقية الموقّعة بين واشنطن وأنقرة والمتعلقة بوقف إطلاق النار بانسحاب قوات “قسد” من الحدود السورية ـ التركية لمسافة 32 كيلومتراً، مقابل وقف تركيا عمليتها العسكرية آنذاك، أعقبها اتفاق مشابه بين أنقرة وموسكو. وتعتبر أنقرة قوات “قسد” امتداداً سورياً لحزب العمال الكردستاني، وتتهمها بعدم الالتزام باتفاق عام 2019، واستهداف ضباط وجنود أتراك في ريف حلب الشمالي مرات عدة.
وتعوّل “قسد”، التي تشكل “وحدات حماية الشعب” الكردية ثقلها الرئيسي، على رفض إقليمي ودولي لأي تغيير في توازنات الصراع في الشمال السوري لتجنب عملية عسكرية تركية جديدة، تشير كل الدلائل إلى أنها ربما لن تتأخر وهدفها الأول مناطق سيطرة “قسد” في غربي نهر الفرات في تل رفعتومنبج الواقعتين في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي.
وتخشى “قسد” من السيناريو الأسوأ، وهو تقدّم الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية الموالية له من أكثر من محور في ظل تفوق عسكري تركي لا يمكن لهذه القوات مواجهته، على الرغم من الدعم العسكري الذي تتلقاه من الولايات المتحدة.
وتسود الشارع السوري الكردي مخاوف من سيطرة الأتراك على منطقة عين العرب (كوباني) شرقي الفرات، والتي يشكّل الأكراد غالبية سكانها، وبذلك تكون قوات “قسد” قد خسرت أهم معقلين لها، وهما عفرين التي طُردت منها مطلع عام 2019، وعين العرب التي تبدو أنها من ضمن الأهداف التركية الحالية.
خيارات مؤلمة ما قبل العملية التركية
وتبدو كل الخيارات صعبة أمام “قسد” في حال شرع الجيش التركي في العملية التي يلوّح بها منذ العام الماضي، إذ ستكون مضطرة إلى تقديم تنازلات جديدة للروس والنظام السوري في منطقة شرقي الفرات، ربما تصل إلى تسليم مناطق، أو تعزيز وجودهما فيها.
وكانت “قسد” قد اضطرت إلى توقيع اتفاق “عسكري” أواخر عام 2019 مع الروس لإيقاف العملية التركية آنذاك، سمح لموسكو بإنشاء قواعد لها في شرقي الفرات بحيث باتت لاعباً مهماً إلى جانب أنقرة وواشنطن، في المنطقة الغنية بالثروات.
وأعرب محمد موسى، وهو سكرتير حزب “اليسار” المنضوي ضمن “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سورية، عن أمله في ألا تحدث عملية عسكرية تركية ضد المناطق التي تقع تحت سيطرة هذه الإدارة، لكنه رأى أن المؤشرات تدل على أن هناك عملية مقبلة.
وأشار موسى، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى وجود تحرك سياسي من قبل “الإدارة الذاتية” التابعة لقوات “قسد” بهدف “ردع الجانب التركي عن الهجوم على الشمال الشرقي من سورية”. وأكد أن “قوات قسد لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي اجتياح تركي للشمال السوري”. كذلك أعرب موسى عن اعتقاده بأن الجانبين الروسي والأميركي لن يسمحا للجانب التركي باجتياح مناطق جديدة في شمال سورية، “لكن إذا حدث هذا الاجتياح لن نتردد في مواجهته بأقصى ما نملك من طاقات وإمكانات”.
قد تحدد زيارة لافروف إلى أنقرة مصير أي عملية عسكرية تركية في الشمال السوري
ومن المنتظر قيام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارة إلى أنقرة في 8 يونيو/حزيران الحالي (الأربعاء المقبل) ربما يُحدد خلالها مصير أي عملية عسكرية تركية في الشمال السوري. ومن المرجح أن تستغل موسكو مخاوف “قسد” والأكراد السوريين من الجانب التركي للحصول على مكاسب واسعة للنظام السوري الذي يتطلع لاستعادة شرقي الفرات لإنقاذ اقتصاده من الانهيار تحت وطأة العقوبات الدولية.
ويبدو أن الإدارة الأميركية ترفض أي تحرك عسكري ضد “قسد” التي تُعتبر الذراع البرية لمواجهة أي عودة محتملة لتنظيم “داعش” إلى الشمال الشرقي من سورية. ولكن تبدّل الكثير من المعادلات السياسية في المشهد الدولي نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، ربما يفضي إلى تغيير في الموقف الأميركي إزاء الشمال السوري، وهو ما تخشاه “قسد”.
ويحتفظ الأميركيون بوجود عسكري واسع شرقي الفرات، ولكن هذا الوجود بعيد عن الأهداف التركية المحتملة والتي تقع ضمن النفوذ الروسي، خصوصاً منطقة تل رفعت، ومدينة عين العرب وريفها.
تسود الشارع السوري الكردي مخاوف من سيطرة الأتراك على منطقة عين العرب شرقي الفرات
ويبدو خيار المقاومة المسلحة من قبل “قسد” غير مجدٍ في ظل التفوق التركي، إذ لم ينجح هذا الخيار في عملية “غصن الزيتون” التركية تجاه عفرين في عام 2018، وفي عملية “نبع السلام” في أكتوبر من عام 2019 حيث اضطرت هذه القوات في النهاية إلى الانسحاب.
ورأى المحلل السياسي فريد سعدون، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “في حال قيام الجانب التركي بأي عمل عسكري واسع النطاق في شمالي سورية، فأمام قوات قسد خياران لا ثالث لهما، إما المقاومة أو تسليم المنطقة المستهدفة لقوات النظام السوري”.
واستدرك سعدون بالقول: “هناك خيارات متاحة قبل الغزو التركي، من قبيل الاتفاق مع النظام السوري برعاية روسية، أو الاتفاق مع الروس والانضواء ضمن الفيلق الخامس (مدعوم من موسكو)، أو عقد صفقة مع الأميركيين للدفاع عن المنطقة”. وأشار إلى أن أمام قوات “قسد” خياراً آخر “وهو الاتفاق مع المجلس الوطني وتشكيل إدارة جديدة للمنطقة ترضى عنها تركيا”. وقال: “هذه خيارات قبل الاجتياح، أما إذا وقع فلا خيارات”.
العربي الجديد