لا يزال هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي، مستشار الأمن القومي الأسبق وعالم السياسة الشهير، الذي يقترب عمره من مئة سنة، يثير كثيراً من الضجة. وفي عالمنا العربي، كانت سمعة الرجل، بخاصة عند الأجيال التي عاشت تفاعلات السبعينيات ومقدمات اتفاقيات السلام المصري – الإسرائيلي، يحيط بها كثير من التساؤلات، ولم يحاول كارهوه وحتى باحثو العلوم السياسية العرب فهم دوافع ومنطلقات رؤى الرجل، الذي أثار اللغط في زمنه، وساعد على هذا ضخامة مؤلفاته وصعوبة قراءتها وعدم صبر كثيرين عليها.
أخيراً عادت الأضواء إلى أفكاره بسبب كتاب مهم نشره السفير الأميركي السابق مارتن إنديك حول هذا الرجل، ومع أهمية هذا الكتاب، فإن ثمة دراسات أسبق مهمة شرحت وحللت رؤى كيسنجر، بخاصة تلك المتعلقة بتحليل سلوكه التفاوضي، وبعضها الآخر اعتمد مقاربة علم النفس السياسي لفهم دينامية ورؤى الرجل التي يُعتبر اتساقها واستمرارها أمراً يدعو إلى التأمل والتعلم، بصرف النظر عن إرث هذا السياسي والأكاديمي البارز، تحديداً في منطقتنا العربية.
صوت مختلف في العالم الغربي
كما نعرف، أثارت تصريحات الرجل الأخيرة حول الحرب الأوكرانية جنون الرئيس الأوكراني، حيث دعا كيسنجر إلى ضرورة قبول أوكرانيا تنازلات إقليمية، والاعتراف بتوسعات روسيا في القرم سابقاً، وحتى تجاوز صيغة للحكم الذاتي في شرق أوكرانيا، التي يجب أن تؤكد حيادها وعدم انضمامها لـ”الناتو”، وأن من الضروري احتواء روسيا وعدم استعدائها تاريخياً. وكان من الطبيعي أن تثير هذه التصريحات جنون زيلينسكي وبعض الأطراف الغربية، لكنها أيضاً تركت ارتباكاً في مصادر غربية أخرى. ومنذ فترة، أثارت تصريحات أخرى له ضجة أقل عندما تحفظ ضد التصعيد الذي تبنّاه ترمب ثم بايدن ضد الصين، وركز فيها على ضرورة عدم الاستهانة بقوة بكين، وأنها ليست كالاتحاد السوفياتي السابق، فهي تملك ما لم يملكه الأخير سواء اقتصادياً أو من حيث قدرات الذكاء الاصطناعي، وحذر من مغبة المواجهة ضدها، ودعا إلى ضرورة احتوائها والتعايش معها، ولم يفهم كثيرون مدى ترابط هذه الأفكار، واستنادها إلى الأسس الفكرية والنظرية لكيسنجر، وتوهم البعض أنه يدافع عن سياسته التاريخية تجاه استقطاب الصين.
رؤية كيسنجر في فلسفة العلاقات الدولية
في الحقيقة، فإن رؤى الرجل تبلورت بعد اشتغاله بالعمل السياسي والدبلوماسي، إذ تحرك من منظور أكاديمي ينتمي لمدرسة العلاقات الدولية الواقعية التي بلورتها سياسات القرن التاسع عشر، وتأثره العميق برؤى مترنيخ حول مفاهيم الاستقرار والتوازن كمحور للعمل الدولي، وعمّق هذا بمقتضيات الممارسة العملية. وفي جميع الأحوال نقطة الانطلاق عند كيسنجر هي رفض القوة الثورية، أو أي تغيير راديكالي، واعتبارها مصدر عدم استقرار وتهديداً للاستقرار الدولي، وقد يتوقف أحد هنا عند عدائه الحاد للاتحاد السوفياتي السابق قبل ممارسته العمل الحكومي، لكن بعد توليه العمل، بلور أفكاره في اتجاه آخر، هو ضرورة خلق المصالح المشتركة والاعتماد المتبادل، فالعدو قد تحول عنده من الاتحاد السوفياتي والشيوعية والصين إلى البعد الثوري وعدم الاستقرار اللذين يؤديان إلى الاضطراب والفوضى والحرب.
وعنده أن التوجه الثوري هو العدو الرئيس وليس مضمون التوجه في ذاته، بمعنى أوضح، ليست الشيوعية – التي يرفضها بقوة – هي العدو الاستراتيجي له، ولا توجهات بوتين القومية، وإنما الطابع الثوري الراديكالي هو الإشكال، ومن ثم بلور كيسنجر موقفه في مفاوضات الحد من الأسلحة الاستراتيجية في سبعينيات القرن الماضي على خلق الاعتماد المتبادل والمصالح المشتركة مع موسكو، ما أدى إلى ما سُمّي بـ”الوفاق الدولي” آنذاك، والتوصل إلى سلسلة اتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، واختصارها “سولت 1” و”سولت 2″، كما قام كيسنجر بالاختراق الأكبر، وهو تطوير العلاقات مع بكين، خصم موسكو داخل المعسكر الشيوعي، ولم يكتفِ بوضع بذرة المصالح المشتركة بين بلاده والصين، لكن الأهم استخدامها كورقة ضغط مهمة في دفع موسكو إلى القلق والتجاوب في كثير من إجراءات بناء الثقة بين العملاقين آنذاك.
عقيدة “احتواء الراديكالية”
أي أن الحل عند هذا الرجل هو احتواء الراديكالية والعودة إلى الاستقرار، ولأن الهدف هو هذا الاستقرار، فيجب قبول مفهوم التوازن والاعتماد المتبادل كهدف في ذاته كفيل بانتزاع هذه الطبيعة الثورية في حال الاتحاد السوفياتي أو الصين سابقاً، فالتيار الذي دفع به كيسنجر في السبعينيات مع بكين هو الذي أسفر في نهاية الأمر عن دخولها في قلب العولمة والترابط مع العالم والاعتماد المتبادل الذي تتعالى أصوات أميركية اليوم بالضجيج الراغب بالتخلص منه، بصرف النظر عن مدى استغلال الصين لهذا الاعتماد المتبادل وإمكانية تهذيبه لتقليل مكاسبها بهذا الصدد.
من ثم، عندما عاد تهديد السلم والاستقرار الدوليين بهذه الحرب، لم يصف كيسنجر مطالب بوتين في أوكرانيا بأنها عادلة أو مستحقة، على الرغم من أنه قد يكون متفهماً لها بعض الشيء بحكم ولعه بالتاريخ، وإنما لأنه يرى الأولوية لفكرة الاستقرار والتوازن وضرورة استيعاب موسكو في مفهوم الاعتماد المتبادل، وليس عزلها فتواصل مساعيها الراديكالية لتغيير النظام والترتيبات القائمة بالقوة. ومن ثم، التنازلات عنده بغرض العودة إلى حال التوازن والاستقرار، مفتاح مفاهيم السياسة الأوروبية في القرن التاسع عشر ومصدر الهام وإعجاب الرجل، وهي السياسة التي عندما توقفت شهد العالم الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لماذا لا يجب إذلال الخصم؟
من هنا، نفهم موقفه أيضاً من الصين، التي انتقد كما ذكرنا سابقاً مسألة التصعيد ضدها سواء في عهد ترمب أو الإدارة الأميركية الحالية، وبرر ذلك كما سبق بأن الصين تتمتع بقدرات وقوة ضخمة تفوق الاتحاد السوفياتي الذي نجحت استراتيجية استنزافه سابقاً. وخلف كل هذا، مسألة مهمة يعيرها كيسنجر كثيراً من الاهتمام، وهي عدم عقلانية إذلال الخصم، أو محاولة القضاء عليه تماماً، لأن الشعوب تبقى وتعود إلى الانتقام وهي أكثر شراسة، وهو ما يريد الرجل تجنّبه.
ولو عدنا إلى الماضي الذي حرص كتاب مارتن إنديك على دراسته وإبرازه، فلم يكُن هدف كيسنجر في مفاوضات فض الاشتباك بين الطرفين العربي والإسرائيلي بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) تسوية الصراع، وإنما كان الهدف إدارته، ليس فقط لأنه لا يريد ذلك من منطلق مواقفه الشخصية تجاه إسرائيل – وأظن هذا أمراً واضحاً – ولكن أيضاً والأهم عنده لأن الوصول إلى حال التوازن والاستقرار هي هدفه الرئيس، فعندئذ قد يتهيأ المناخ لتسويات أو تنازلات مستقبلية تلائم الغرب أو إسرائيل أكثر.
وفي جميع الأحوال، فإن تمسك الرجل بفكرة التوازن والاستقرار، التي يؤكدها خروجه بموقفه القوي في المرحلة الراهنة وسط مناخ غربي قوي داعم لأوكرانيا، أمر يؤكد وفاء هنري كيسنجر لمنطلقاته النظرية التي تمسّك بغالبيتها لمدة توشك أن تصل إلى قرن من الزمان. وهنا، وبصرف النظر عن مشاعر زيلينسكي واستراتيجية استنزاف موسكو التي تقودها واشنطن ولندن، فإن أفكار كيسنجر حول أفضلية التوازن والاستقرار وعدم حكمة إذلال الخصم تجد سنداً ضخماً من التاريخ، الذي يعتبر كيسنجر من أكثر الذين نظروا إليه كمعمل لاستنتاج دروس السياسة العملية والنظرية.
اندبندت عربي