في ذكرى الانتخابات الأولى في “كردستان العراق”، يقوم ثلاثة خبراء بتقييم العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والأكراد في العراق، والتحديات السياسية والاقتصادية الداخلية.
في 17 أيار (مايو)، عقد معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ندوة سياسية افتراضية مع بلال وهاب، وأمبرين زمان، وفانس سيرشوك. ووهاب هو “زميل فاغنر” في المعهد ومؤسس “مركز التنمية والموارد الطبيعية” في “الجامعة الأميركية في العراق- السليمانية”. وزمان هي كبيرة المراسلين في “المونيتور”، حيث تركز على السياسة وحقوق الأقليات في العراق وسورية وتركيا. وسيرشوك هو المدير التنفيذي لـ”معهد كي كي آر العالمي” (KKR Global Institute)، وزميل أقدم مساعد في “مركز الأمن الأميركي” الجديد، وعضو مهني سابق في “لجنة الأمن الداخلي والشؤون الحكومية” بـ”مجلس الشيوخ الأميركي”. وفيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم.
بلال وهاب
بعد أن أبصرت “حكومة إقليم كردستان” النور في العام 1992 كنتيجة ثانوية لأحداث أخرى في العراق، أصبحت هذه الحكومة تدريجياً تجربة بناء دولة في الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة. وعلى الرغم من السردية الشائعة التي تعتبر أن الأكراد هم ضحايا، إلّا أن الطريقة التي مارس بها الأكراد السلطة خلال العقود الثلاثة الماضية تُظهر نفوذاً حقيقياً. ويروي الحكم الذاتي الكردي في العراق قصة القدرة على الصمود -ولكن أيضاً انتهاز الفرص وإضاعتها.
كان الحدث الذي حث على الاستقلال الكردي هو غزو العراق للكويت، ومن ثم إخراجه منها على يد التحالف بقيادة الولايات المتحدة. فبعد أن رأى أكراد العراق أن نظام صدام حسين أصبح ضعيفاً، انتفضوا ضده. وبعد ذلك، دفعت المخاوف من انتقامه إلى هرب 1.5 مليون كردي إلى الجبال، مما أدى إلى ظهور أزمة إنسانية أرغمت واشنطن و”الأمم المتحدة” على إنشاء ملاذ آمن للأكراد في شمال العراق.
وفي 19 أيار (مايو) 1992، أدلى الأكراد بأصواتهم في أول عملية انتخابية لهم. ولكن، في غضون عامين، بدأت الأحزاب الحاكمة في “حكومة إقليم كردستان” حرباً أهلية كردية لم تنته إلا بعد تدخل واشنطن في العام 1998.
وعندما غزت الولايات المتحدة العراق في آذار (مارس) 2003، أصبحت “حكومة إقليم كردستان” الجبهة الشمالية بعد هبوط جنود المظلات بالقرب من أربيل. وأدى سقوط صدام إلى زيادة سلطات الأكراد وصلاحياتهم وحقوقهم، التي رسخ الدستور العراقي الجديد الكثير منها. وفي وقت لاحق، أجرت “حكومة إقليم كردستان” انتخاباتها الثانية في العام 2005، وصدّرت أول برميل للنفط من أراضيها عبر تركيا في العام 2009.
اختُبرت قدرة إقليم كردستان على الاستمرار والصمود مراراً وتكراراً في العقد الثالث من قيامه. ففي العام 2011، نزل المحتجون إلى الشوارع للاعتراض على الفساد واحتكارات الأحزاب في “حكومة إقليم كردستان”. وبين العامين 2014 و2017، هددت الهجمات العسكرية التي شنها تنظيم “داعش” وأنشطته الأخرى أراضي “إقليم كردستان”. وما يزال “كردستان العراق” يواجه اليوم تحديات أبرزها انخفاض الميزانية، والانقسامات السياسية الداخلية، والتهديدات التي تطرحها هجمات إيران ووكلائها.
- * *
إمبرين زمان
في بداية هذا النقاش، لا بد من الإقرار بأن مصطلح “الأكراد” مضلل. فمنذ عقود ينتشر الأكراد في دول قومية مختلفة. وفي حين تجمع بينهم هوية “كردية” مشتركة، إلا أن ذلك أكثر صلة بالواقع على الصعيد الفكري منه على الصعيد العملي.
“الحزب الديمقراطي الكردستاني” هو أحد الأحزاب الأكثر نفوذاً من بين الجماعات الكردية كافة، ولكنه يواجه المنافسة من الكيان الكردي في شمال شرق سورية. وبهدف قياس نجاح “حكومة إقليم كردستان” فعلياً، لا بد من تقييم ما يجري مع الجماعات الكردية الأخرى. ويميل الصحفيون إلى التساهل مع الأكراد و”حكومة إقليم كردستان”، إذا جاز التعبير، في انحياز واضح يعزى إلى المصاعب التي شهدتها الجماعات الكردية على مر السنين. ومع ذلك، فقد حان الوقت لتخطي هذه السردية. لم يعد الأكراد ضحايا ولا يجوز أن يصوّروا أنفسهم على هذا النحو. فالأكراد هم شعب يتسم بالعزم والقدرة على الصمود، وقدموا تضحيات هائلة وكانوا من بين القوى التي دفعت إلى الإطاحة بصدام، من بين الإنجازات الأخرى التي حققوها.
علاوة على ذلك، من غير الدقيق اعتبار العام 1991 تاريخ بداية العلاقات بين الولايات المتحدة والشعب الكردي في العراق. فهذه العلاقة سبقت التشكيل الرسمي لـ”حكومة إقليم كردستان”، وشملت التعامل الوثيق بين الزعيم الكردي مصطفى بارزاني و”وكالة الاستخبارات المركزية” الأميركية.
وشهدت العلاقة بين “حكومة إقليم كردستان” وتركيا تقلباً على مر السنين. وقد اشتد غيظ أنقرة عندما ساعدت الولايات المتحدة على تمكين أكراد العراق في العام 1991، ووقفت في وجه التداعيات المحتملة على الأكراد في تركيا. ومع ذلك، ساعدت الحكومة التركية “حكومة إقليم كردستان” على الاعتماد على نفسها اقتصادياً من خلال السماح لها بتصدير النفط عبر الحدود.
وتكمن المشكلة الأساسية التي تعاني منها “حكومة إقليم كردستان” اليوم في انشقاق الأكراد. وهذه الانقسامات ليست جديدة؛ إذ تتعلق في الواقع بالطبيعة القبلية للأكراد والكيفية التي تتحكم بها غالباً شخصيات الزعماء بالحياة السياسية. وأكد استفتاء الاستقلال الذي جرى في العام 2017 غياب التجانس في الهوية الكردية، ومنيت “حكومة إقليم كردستان” بخسائر كبيرة نتيجة ذلك الاستفتاء الحاسم. وتظهر الانقسامات الداخلية الطويلة الأمد أيضاً في صفوف الجيل الجديد من الزعماء السياسيين الأكراد الطموحين. وفي الوقت الذي تهدف فيه “حكومة إقليم كردستان” إلى بلوغ النضج السياسي، فإن أحزابها تُدار أكثر فأكثر بالوراثة، مما يؤدي إلى نفور السكان ودفع الكثير من الأكراد إلى المغادرة للعيش في بلدان أخرى بسبب شعورهم بالعجز عن التقدم في حياتهم. وسيستمر الأكراد في البقاء كمجموعة بفضل قدرتهم على الصمود، لكن مستقبل “حكومة إقليم كردستان” يعتمد على إزالة الطابع الشخصي عن العلاقات السياسية لكي تستطيع هذه الحكومة الاستمرار خارج نطاق الزعماء الحاليين.
وأخيراً، لا ينبغي تجاهل الدور الذي تؤديه روسيا في العراق، حيث استثمرت أكثر من عشرة مليارات دولار. وسيتغير الوضع عندما يتم تطبيق عقوبات ثانوية بسبب أزمة أوكرانيا، وسيخلف ذلك بعض التداعيات على الأكراد. ومع ذلك، تمنح الأزمة أيضاً فرصة لـ”حكومة إقليم كردستان” لكي تساعد على سد ثغرة الطاقة التي تركتها روسيا. وقد يقدم ذلك فرصةً لجميع فصائل الأكراد العراقيين لكي تتكاتف معاً وتعزز المكانة الاقتصادية والسياسية لـ”حكومة إقليم كردستان”. - * *
فانس سيرشوك
يواصل الشعب الكردي التمتع بقاعدة دعم وتعاطف واسعة من الحزبين في الولايات المتحدة، على الرغم من أن السياسيين والمواطنين الأميركيين لا يلاحظون بالضرورة بعض الفروق الدقيقة التي توجد داخل “كردستان العراق” أو لدى الجماعات الكردية في أماكن أخرى من الشرق الأوسط. وعلى الصعيد النفسي، يميل الأميركيون إلى استساغة المستضعفين، ويصبح هذا الشعور أكثر قوة بسبب المصاعب التي عانى منها الأكراد على مر العقود.
بدأ هذا التعاطف ينمو جدياً في أعقاب “حرب الخليج” في العام 1991، عندما تم استخدام القوة الأميركية في العراق، وضعف جيش صدام، ورأى الأكراد فرصة لكسب بعض النفوذ. وبفضل دعم الولايات المتحدة، تم دحر صدام من الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقاً، وأتيحت الفرصة لمجموعة أقلية لحكم نفسها. وكان ما أعقب ذلك سلسلة طويلة من الحالات التي وجدت فيها الولايات المتحدة نفسها منخرطة في المنطقة، ونصب فيها الأكراد أنفسهم كحلفاء أساسيين.
ومع ذلك، تنسحب الولايات المتحدة اليوم على نطاق واسع من الشرق الأوسط، وسيكون دورها هناك مختلفاً، وسيخلف ذلك تداعيات شديدة على “كردستان العراق”. ففي السنوات الثلاثين الأولى لـ”حكومة إقليم كردستان”، كانت المساعدة الأميركية مهمة جداً لنجاحها وحمايتها، لكن بقاءها في المستقبل سيعتمد على كيفية حكم الأكراد.
ومع ذلك، من المهم الاعتراف بالتقدم الهائل الذي أحرزته “كردستان العراق” منذ تأسيس “حكومة إقليم كردستان”. فإنشاء مطار دولي في أربيل هو أمر هائل. ولا ينبغي أن يعد هذا الإنجاز وغيره من الإنجازات أموراً مسلّماً بها، ويتضح هذا الواقع أكثر فأكثر ما إن يبتعد المرء لبضع مئات من الكيلومترات فقط عن أراضي “حكومة إقليم كردستان”.
ولكن في الوقت نفسه، غادر آلاف السكان المنطقة الكردية باتجاه أوروبا، مما يشير إلى استمرار المشاكل الأساسية. وعلى الرغم من أن بعض الأشخاص يجادلون بأن هذه القضايا ناجمة عن الانشقاق الداخلي أو عدم الاستقلال، إلا أن العديد من المشاكل الرئيسية تنبع من واقع كون “حكومة إقليم كردستان” قائمة على المحسوبية وينتشر فيها الفساد. وقد فشل هذا النوع من الحوكمة مراراً وتكراراً في توفير فرص العمل للشباب أو تعزيز السياسة التنافسية. وإضافة إلى ذلك، تقلصت المساحة المخصصة للإعلام الحر بسبب ازدياد الضغط السياسي. وتشكل هذه البيئة صيغة مثبَتة تؤدي إلى فقدان أفضل وألمع ما لدى الأكراد من عقول لصالح البلدان الأخرى.
في الواقع، لم تعد الإشادة بالإنجازات التي حققتها الشراكة بين الولايات المتحدة والأكراد كافية، ومن الضروري أيضاً الاستعداد لإجراء محادثات صارمة حول السياسة والاقتصاد اللذين لا يسلكان الطريق الصحيح في “كردستان العراق”. وكان العقد الماضي مقلقاً بشكل خاص. فقد أصبحت “حكومة إقليم كردستان” أكثر فساداً وأقل حرية وأقل دينامية من الناحية الاقتصادية مما كانت عليه قبل عشرة إلى خمسة عشر عاماً. ونحن بحاجة إلى مناقشة سبب ذلك. أما الدينامية الراهنة، فلا يمكن سوى لشعب “كردستان العراق” تغييرها. - الغد