تواجه الحكومة البريطانية متاعب بسبب خطتها لترحيل المهاجرين إلى رواندا ما يسلط الضوء على سياستها تجاه هذا الملف وهي سياسة محل انتقادات واسعة النطاق قبل إلغاء أول رحلة كانت مقررة مساء الثلاثاء، ما سيرغم السلطات على البحث عن خطة أمثل لترحيل اللاجئين.
لندن- تشهد بريطانيا جدلا واسع النطاق حول خطط ترحيل اللاجئين، وذلك بعد انتقادات واجهتها الحكومة بسبب تلك الخطط فيما اكتفت وزيرة الداخلية بريتي باتيل وهي من أصول هندية مهاجرة بالقول إن من ينتقدون الخطط الحكومية “لم يقدموا حلولا أخرى”.
ولم تُصغ باتيل للانتقادات، بما فيها تلك التي قدمها كبير أساقفة كانتربري جاستن ويلبي، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه يتمتع بسلطة أخلاقية في المجتمع البريطاني، حتى وصلت إلى الأمير تشارلز ولي العهد الذي أعرب في محادثات شخصية عن اعتقاده بأن خطط ترحيل اللاجئين إلى رواندا “فظيعة”.
إصرار باتيل
أصدرت الوزيرة البريطانية تمسكا منها بما يُنظر إليه على أنه سلوك غير إنساني، ولا يليق بمزاعم التحضر، ولا يتوافق مع ما يصدر عن بريطانيا في كل ما يخص حقوق الإنسان “توجيها وزاريا” لتنفيذ خطة الترحيل، وهو ما يعني أنها تتحمل مسؤولية شخصية عنها، في مواجهة تحفظات كبار المسؤولين في وزارة الداخلية.
وكانت هذه الوزيرة قد أُتهمت بالتنمر في السابق على موظفي وزارتها. وقدمت اعتذارا، ولكنها استأنفت التنمر لكي تفرض قرارا لا يوافق عليه مسؤولون ونواب من كلا الحزبين وشخصيات اجتماعية ومنظمات أهلية.
وعندما أضرب بعض اللاجئين المهددين بالترحيل عن الطعام، أرسلت باتيل بعض موظفيها المخلصين لكي يدعوا المضربين عن الطعام إلى تناول طعامهم “لكي يكونوا بصحة جيدة عندما يركبون الطائرة التي تتوجه بهم إلى رواندا”.
ولبريطانيا تاريخ، هو في الواقع من أبشع تواريخ الأمم، على الإطلاق، في نقل أشخاص بغير إرادتهم إلى بلدان أخرى.
ونقلت سفنها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان من أفريقيا، كانت فرق البعثات التبشيرية تصطادهم كما تصطاد الغزلان والنمور، لكي يتم ترحيلهم كعبيد إلى الولايات المتحدة، ليخدموا في مستعمرتها هناك.
ومعظم الأميركيين السود الآن هم من ورثة سياسات “الاتجار بالعبيد” التي قادتها الإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس. وهي إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، إنما لتسرق الثروات والبشر في وضح النهار.
ومن هذه الجرأة التاريخية المكتسبة، تحت ضوء الشمس، ورثت بريطانيا القدرة على الجمع بين سياسات هجرة غير أخلاقية، وبين تقديم دفاعات مثيرة للجدل عن حقوق الإنسان.
وتعد خطة باتيل نوعا آخر من العودة إلى تجارة العبيد، تحت ستار “محاربة الاتجار بالبشر”. وقالت في مقال مشترك مع وزير الخارجية الرواندي فنسنت بيروتا، نُشر في صحيفة التايمز، إنهما “اقترحا حلا مبتكرا لمواجهة التجارة القاتلة لمهربي البشر”.
وأضافا “أن الاستثمار البريطاني في رواندا، 120 مليون جنيه إسترليني كمبلغ أولي، سيساعد في معالجة النقص في فرص العمل الذي يدفع إلى الهجرة الاقتصادية”.
وهو ما يعني أن الأشخاص الذين سوف تقوم بريطانيا بترحيلهم سوف يجدون فرصا للعمل في بعض الاستثمارات البريطانية التي تقيمها في رواندا.
وأصبحت رواندا، التي كانت مسرحا لواحدة من أبشع المجازر في الحرب الأهلية بين قبائل التوتسي والهوتو، في نظر باتيل أرضا للأمن والسلام والاستقرار.
ويتناقض ذلك مع ما أثارته الحكومة البريطانية العام الماضي من مخاوف في الأمم المتحدة بشأن مزاعم حول “القتل خارج نطاق القضاء وحالات الوفاة أثناء الاحتجاز وعمليات الاختفاء القسري والتعذيب” في رواندا، بالإضافة إلى القيود على الحقوق المدنية والسياسية.
اقرأ أيضا: حكومة جونسون تتلقى نكسة سياسية بعد فشل ترحيل مهاجرين إلى رواندا
ولكن وزارة باتيل ترى الآن أن رواندا “بلد آمن ومستقر ولديه سجل حافل في دعم طالبي اللجوء” وأنه “سيعالج الطلبات بما يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة للاجئين والقوانين الوطنية والدولية”.
ويعتبر التعامل الإنساني مع اللاجئين ثقافة وليس مجرد خطط حكومية أو قرارات. فمن دون ثقافة اجتماعية ونظام سياسي وقانوني راسخ، فإن الأمن وتلك القوانين يمكن أن تُشطب بين ليلة وضحاها كما شطبت حياة أكثر من 800 ألف إنسان في غضون أقل من 100 يوم في العام 1994 في الهجمات بين التوتسي والهوتو. وعندما يتم ترحيل اللاجئين إلى هذا البلد، فلا يمكن معرفة من سوف يستقبلهم أو ما هي الضمانات بأنهم سوف يتلقون معاملة لائقة.
واتهم كبير أساقفة كانتربيري الحكومة “بالتعاقد من الباطن للوفاء بمسؤولياتنا”، قائلا إن الخطة لا يمكن “أن تصمد أمام حُكم الرب”.
وبريطانيا ليست الوحيدة التي تتبنى هذه السياسة، على أي حال. فأستراليا، المستعمرة البريطانية، تفعل الشيء نفسه منذ العام 2001. حيث تقوم بترحيل اللاجئين الذين يصلون إليها بالقوارب أو بغيرها إلى مراكز احتجاز أنشئ في دولة ناورو في المحيط الهادئ، وجزيرة مانوس في بابوا غينيا الجديدة.
ولا تسمح قوات البحرية الأسترالية للاجئين حتى بالوصول إلى سواحلها، فتقوم باصطياد قواربهم وهي في عرض البحر وتتكفل بنقلهم إلى مراكز احتجاز تطلق عليها السلطات الأسترالية اسم “مخيم أو مركز دراسة طلبات اللجوء” في جزيرة مانوس وكريسماس ومن هناك يتم ترحيل معظم اللاجئين منها إلى البلاد التي أتوا منها.
وكثيرا ما انشغلت بريطانيا وأستراليا بالدفاع عن حقوق الإنسان في الصين وبعض بلدان الشرق الأوسط، بقصد الظهور بمظهر “المتحضر” غير أن سياسة الهجرة المتبعة من قبل البلدين تظهر أن التحضر، الذي لا تغيب عنه الشمس، انتقائي بدرجة تثير الذعر حتى بالنسبة إلى ورثة العرش.
والأمر لا يقتصر على معاملة اللاجئين في بريطانيا، بقسوة وإهمال متعمد، ولكنه يمتد إلى احتجازهم في ظروف غير إنسانية حتى عندما كان وباء كورونا في أوج تفشيه.
وكانت الداخلية البريطانية قد خسرت دعوى قضائية رفعها مهاجرون لم يتلقوا أدنى أشكال الرعاية الطبية، في مواجهة خطر جسيم من هذا النوع.
لقد وجدت ألمانيا نفسها قبل عدة سنوات أمام موجات للهجرة، ولكن تم استيعابها، ليس من دون اعتراضات أو سجالات سياسية، ولكن بمستوى أفضل بكثير من الاعتبارات
الإنسانية. وبات عشرات الآلاف من أولئك المهاجرين يحملون الجنسية الألمانية، بعد أن استوفوا شروطها، بتعلم اللغة والعيش من عائدات عملهم.
ولقد تم استيعاب نحو مليوني لاجئ في ألمانيا بين العامين 2014 و2017 من سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها. ولم يكن الدافع إنسانيا فقط، ولكنه كان حسابيا أيضا.
ففي بلدان تتناقص أعداد سكانها وترتفع معدلات الأعمار، وتزداد الضغوط على صناديق التقاعد، التي تمولها الأيدي العاملة الجديدة، فإن استقبال اللاجئين يوفر حلا اقتصاديا لأزمة سكانية عميقة.
وتستقبل الولايات المتحدة لاجئين على نحو منتظم. وأعلنت حديثا أنها تعتزم استقبال 20 ألف لاجئ من أميركا اللاتينية خلال العامين المقبلين.
كما أعلنت العزم على استقبال المزيد من اللاجئين الهايتيين، فضلا عن إصدار 11500 تأشيرة عمل موسمية لرعايا من هايتي وأميركا الوسطى لمواجهة نقص العمالة على الأراضي الأميركية. كما وعدت باستقبال 100 ألف أوكراني.
بريطانيا لم تقتصر على معاملة اللاجئين بإهمال لكنه امتد لاحتجازهم في ظروف غير إنسانية حتى في أوج تفشي الوباء
ولا تعلق المسألة فقط بالاعتبارات الإنسانية، ولا حتى بالاعتبارات الاقتصادية، بل تتعلق باعتراف بواقع أن موجات الهجرة لم تتوقف عبر كل مراحل التاريخ. وكانت هي التي صنعت هذا التاريخ أيضا.
والظروف المناخية ليست جديدة أيضا. فمنذ عدة آلاف من السنوات، رسمت موجات الهجرة في الشرق الأوسط والجزيرة العربية تاريخ هذه المنطقة، وبنت شعوبها وحضاراتها المختلفة.
ويكون التحضر حقيقيا فقط عندما يفهم أولئك الذين ينهبون البلدان، تحت شمس لا تغيب، أن إمبراطورياتهم، بما صنعت في مقومات الفشل في آسيا وأفريقيا، مسؤولة أيضا عن موجات الهجرة الحديثة.
وأسرة باتيل لجأت إلى بريطانيا كجزء من إرث الروابط بين شركة الهند الشرقية وبين بريطانيا. وكان النهب، والتنمر شديد الوقاحة، هما معظم تلك الروابط. وتقول باتيل إن منتقدي سياستها لم يقدموا حلولا أخرى.
العرب