على الرغم من مرور أشهر على تنظيم انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2021 في العراق، لم يتم تشكيل حكومة جديدة، في ظل مأزق داخلي ومطبات خارجية. وما تزال القوى السياسية متخندقة في أماكنها. فأين العراق من الديمقراطية؟
* * *
بعد بضعة أيام سيحطم العراق رقما قياسيا، ولكن ليس في مجال يمكن لساسة البلد التفاخر به، وإنما في أن العراق سيدخل 200 يوم من دون تشكيل حكومة جديدة بعد إجراء الانتخابات في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وبعد التصديق على نتائجها في شهر كانون الأول (ديسمبر). ومن الصعب تحطيم الرقم القياسي العالمي، فهو مسجل باسم بلجيكا التي بقيت ذات مرة من دون حكومة جديدة بعد إجراء انتخابات تشريعية لمدة بلغت أكثر من 500 يوم، إلا أن الرقم القياسي العراقي سجل في العام 2010، عدما مرت 208 أيام إلى أن تشكلت حكومة جديدة.
لماذا التأخير؟
كان الفائز في الانتخابات هو تحالف “سائرون” بقيادة مقتدى الصدر، الذي أثار جدلا مؤخرا باقتراحه قانونا يجرم التطبيع والتواصل مع إسرائيل، والذي تم إقراره بسرعة في البرلمان. ويحاول مقتدى الصدر منذ أشهر بناء حكومة من خلال التحالف مع قوى كردية وسنية، هي “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بقيادة البرزاني، وتحالف “تقدم” بقيادة رئيس البرلمان العراقي الذي جددت ولايته محمد الحلبوسي.
كما أن التقسيم السياسي في العراق موزع جغرافيا أيضا؛ فهناك في الوسط والجنوب أغلبية شيعية، وفي الغرب سنية وفي شمال الشرق كردية. ومنذ العام 2003 مع سقوط نظام صدام حسين، توزعت المناصب السيادية على حسب التقسيمات الإثنية والمذهبية. للشيعة الذين يمثلون الأغلبية منصب رئاسة الوزراء، وللسنة منصب رئاسة البرلمان، وللكرد رئاسة الجمهورية. وكان هذه التوزيعات محاولة لتجنب الصراعات والقتال بين القوى السياسية.
يدور الصراع القائم بين القوى السياسية العراقية اليوم حول مطلب مقتدى الصدر المتمثل في تشكيل حكومة أغلبية، وحيث تعود الأحزاب التي لم تفز في الانتخابات إلى صفوف المعارضة. ولا يستثني الصدر في ذلك أي قوى سياسية، سواء كانت شيعية أم كردية أم سنية، طالما أنها لم تحصد أغلبية في البرلمان. ويرى الصدر في هذه المنهجية ديمقراطية تتجاوز ما كان سائدا في الحكومات السابقة منذ العام 2003، حيث تشكلت الحكومات على أساس توافقي ضم كل القوى السياسية بداخلها.
تقدم ديمقراطي
هل يمكن اعتبار هذا الصراع على تشكيل حكومة أغلبية تقدما ملموسا في العملية الديمقراطية في العراق؟
على الرغم من المأزق السياسي بين الأطراف المتصارعة، كان العنف قليلا نسبيا. ففي كانون الثاني (يناير) 2022، بدا أن تحالف “الفتح” والقوى السياسية المسلحة تحاول اللجوء إلى القوة من أجل السلطة، على الرغم من خسارتها الانتخابات. ويعتقد أن عناصر منها كانت وراء شن هجمات طالت مقار أحزاب سياسية، أو محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته الكاظمي. لكن الوضع ظل هادئا منذ ذلك الحين.
ومن جانب آخر، أصدرت المحكمة الدستورية العليا قرارات بشأن اعتراضات قدمت على نتائج الانتخابات، وقبل بقراراتها الساسة المعترضون. وأوضح خبراء تحدثت إليهم “دويتشه فيله” أن هناك جوانب إيجابية وأخرى سلبية لمأزق تشكيل الحكومة. وقال فنار حداد، وهو أستاذ مساعد في جامعة كوبنهاغن متخصص في الشؤون العراقية، إن الصراع على تشكيل حكومة أغلبية يمكن اعتباره قطيعة إيجابية مع الماضي.
لكن الوضع الأساسي لم يتغير، كما يقول لـ”دويتشه فيله”. ويرى حداد أن الأحزاب السياسية التي لديها ميليشيات مدعومة بالسلاح ما تزال تتمتع بالقوة. وقال: “أحد أسباب عدم تمكنهم من تشكيل حكومة حتى الآن هو على وجه التحديد السلطة التي يمارسها الجانب الآخر”. وأضاف: “لا أرى تغييراً جوهرياً في الاقتصاد السياسي للعراق”.
ويرى حداد أن هناك شيئاً إيجابيا على المدى الطويل، هو غياب التدخل الأجنبي. في الماضي لعب طرفان خارجيان رئيسيان -الولايات المتحدة وإيران– دورا حاسما في تشكيل الحكومة. وهذه المرة “لا يوجد وسيط خارجي الآن يفرض صفقة”، بحسب وصفه. ويضيف موضحا: “من الصعب الجزم بذلك، لكن من المحتمل أن يكون لهذا أثرا إيجابيا. من الناحية المثالية، سوف يدفع الأطراف المعنية للتوصل إلى حل وسط”.
أما سجاد جياد، المحلل المقيم في العراق، فيرى أن هذا الجمود السياسي علامة سيئة. ويقول: “عندما يتعلق الأمر بتعزيز السلطة السياسية لطائفة أو عرقية، فإن الأحزاب تتحد ضد خصومها”. لكنه أشار إلى أن “المعارك السياسية الآن تدور داخل الطائفة، وكل طرف يتنافس مع خصومه الداخليين. وهذا يجعله صراعا من أجل البقاء. وبالتالي يصبح الأمر أكثر حدة وخطورة ويجعل السياسة أكثر صعوبة”. ويرى أن تفسير الغياب النسبي للعنف ربما يعود ربما أن الجمود السياسي وفر نقطة استقرار، مؤكدا أنه ليس لدى أي من الجماعات “أي حافز للتخلي عن أي شيء أو لزيادة الضغط”، وأن احتمالات تصاعد العنف تظل مرتفعة إذا تغير الوضع مرة أخرى.
أين نهاية الجمود السياسي؟
يعتقد حمزة حداد، المحلل السياسي في بغداد والزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بأن الميزانية الفيدرالية وإقرارها ربما ستكون سببا لتحرك المفاوضات بين الأطراف. ففي منتصف أيار (مايو) 2022، أوضحت المحكمة العليا في العراق ما يمكن لحكومة مؤقتة، مثل الحكومة التي تدير البلاد حاليًا، فعله وما لا تستطيع فعله. أحد هذه الأشياء هو تمرير الميزانية الأكبر التي يقول السياسيون إنها ضرورية للمساعدة على حل المشاكل المستمرة مثل البطالة، وكذلك المخاوف الجديدة مثل أزمة الغذاء وارتفاع الأسعار.
ويشرح حداد أن بإمكان الحكومة الحالية الالتفاف على كثير من الأمور وتمرير قرارات، لكنه يوضح: “إذا ما واجهوا مشاكل حقيقية وبدأنا نشاهد الحكومة كبطة عرجاء، ربما حينها ستقرر الأطراف المتصارعة الدخول في مفاوضات حقيقية”.
يتفق كل الخبراء الثلاثة الذين تحدثت معهم “دويتشه فيله” على أن المأزق أو الجمود السياسي العراقي الراهن سينتهي على الأرجح بتسوية من نوع ما. وحول الدعوات إلى إعادة الانتخابات بسبب الجمود السياسي، قال جياد إن هذا يثير المزيد من حالة عدم اليقين. أما التوصل إلى حل وسط فربما “ستستمر كل الأطراف بادعاء فوزها وتمسكها بمبادئها وإعلان نصرها في جوانب معينة”.
أين العراق من الديمقراطية؟
ما يزال النقاش حول ما إذا كان العراق ديمقراطيا أم مستمراً. يصنف كثير من الباحثين السياسيين حول العالم، وكذلك المواقع التي تدرس النظم الديمقراطية، ومن بينها “بوليتي”، تصنف العراق على أنه ديمقراطي. وترى منظمات أخرى مثل “فريدوم هاوس” أن العراق “ليس حرًا”. فيما يذهب “مؤشر مجلة الإيكونومست للديمقراطية” إلى أن العراق “سلطوي”. ويقول فنار حداد من جامعة كوبنهاغن: “لن أتردد في قول إن العراق لا يمتلك ديمقراطية كاملة”، موضحا أن هناك العديد من العوامل التي تحول دون ازدهار الديمقراطية في البلد، بما في ذلك “ضعف سيادة القانون والإفلات من العقاب الذي تمارسه الطبقات السياسية والعناصر المسلحة”.
أما الشيء الديمقراطي الوحيد القائم في العراق فهو إجراء انتخابات ديمقراطية. واختتم حداد بقوله إن الجمود السياسي الحالي يظهر أن “التصويت يلعب دورا محدودا للغاية في إملاء سياسة الحكومة أو تشكيل الحكومة، وأعتقد أن هذا يقلل من أهلية العراق لأن يُطلق عليه وصف ديمقراطي”.
الغد