السعودية والولايات المتحدة.. من يجرؤ على إعادة تأسيس علاقات تبدّدت

السعودية والولايات المتحدة.. من يجرؤ على إعادة تأسيس علاقات تبدّدت

جو بايدن في الطريق إلى السعودية، ومن الأفضل ألا يأتي. ولو أن هناك سبيلا لمنعه من المجيء، فيحسن الأخذ به.

العلاقات السعودية – الأميركية في حاجة إلى إعادة تأسيس. والرئيس بايدن ليس مؤهلا، ولا راغبا، ولا حتى يخطر الأمر على باله أصلا. فهذان بلدان لم يعودا كما كانا عليه؛ لا السعودية هي نفسها السعودية التي تركها الملك عبدالعزيز آل سعود، ولا الولايات المتحدة هي التي تركها الرئيس فرانكلين روزفلت.

هذان البلدان، صحيح أنهما بقيا على ترابط لأكثر من سبعة عقود، إلا أن أحدهما بالكاد يعرف الآخر الآن. حتى ليجوز القول إنهما في حاجة إلى “لقاء تعارف”، لا يحمل أي شيء من أحمال الماضي؛ لا أفكاره، ولا انطباعاته، ولا سياساته.

لقد مرت من تحت جسر هذه العلاقات مياه كثيرة منذ العام 1945. ولم يعد من المنطقي ولا من الملائم لمصالح الطرفين أن تستند علاقاتهما إلى تلك الانطباعات والتصورات القديمة التي يحملها كل منهما عن الآخر.

الرئيس بايدن ما زال يتحدث عن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على أنه “منبوذ”. المنبوذ يجب أن يكون بايدن نفسه. سجلات بلاده المخزية، حيث كان هو المسؤول عن ملف الاحتلال في العراق في عهد الرئيس باراك أوباما، تكفي لجعله متهما بسلسلة طويلة من جرائم الحرب. تسليم العراق لعصابات رعاع إيرانية، هو وحده دليل كاف على أن الولايات المتحدة آخر من يحق له توجيه الإدانات للآخرين.

هذا كله في كفة وحقيقة أن السعودية بلد مختلف في كفة أخرى، إنها بلد لم يعد يشعر بالضعف ولا تنقصه العزيمة على أن يمسك بزمام المبادرة ويتحرك ضمن خارطة علاقات دولية عريضة.

في جميع الأحوال، فإن ملك نصف القرن المقبل لا يوضع في خانة كهذه، ولا حتى بعشرين جمال خاشقجي آخر.

المسألة الأهم لا تكمن هنا. كما أنها لا تكمن في ما يأتي بايدن من أجله. كل ما يريده هو أن ترفع السعودية إنتاج النفط لكي تنحسر الأسعار، لأنها -بحسب اعتقاده- سبب من أسباب التضخم.

حتى هذا الاعتقاد يخالطه الكثير من الأوهام. أسباب التضخم في العالم لا تتوقف على ارتفاع أسعار النفط. لا يوجد اقتصادي واحد يستطيع الزعم أن أسعار النفط هي السبب الأهم. فإذا نظرت إلى الـ15 تريليون دولار التي أنفقت على مكافحة وباء كورونا ولحزم الإنعاش الوهمي، ستعرف ما هو السبب الأهم. لقد ألقيت كل تلك الأموال في محرقة وكان لا بد أن يؤدي دخانها إلى ارتفاع الأسعار.

الكل يلاحظ أن التضخم يترافق مع انخفاض ملموس في معدلات البطالة. هذا سبب آخر لانتعاش الإنفاق ولتوفر المقدرة على الدفع.

ما يمكن الوصول إليه، من هذه الزاوية، هو أن الدول المنتجة للنفط يجب ألا تكون هي من يدفع الثمن. كل ما تجنيه الآن من عائدات النفط لا يساوي عشر معشار تلك التريليونات.

بايدن يعتبر أن مجيئه إلى السعودية تنازل كاف لكي تعود تدفقات النفط إلى مجاريها. وهو يعتقد أن صفحة الأزمة في العلاقات بين البلدين يمكن أن تطوى على هذا الأساس.

وهذا وهم. وتحملُه مُكلف. ولسوف يزيد أعباء العلاقات المضطربة سوءا، حتى ولو حاول الطرفان أن يُظهرا شيئا غير ذلك.

معاداة السعودية عالم قائم بذاته في الولايات المتحدة. والاتهامات تلاحقها، في الكونغرس والصحافة، فعلت أو لم تفعل. وهناك من يريد أن يلصق بها المسؤولية عن أي شيء. وليس في نية الرئيس بايدن أن يُصلح شيئا في بيئة ثقافة معادية هو تلميذ من تلامذتها أصلا.

ولقد اختارت واشنطن، منذ عهد الرئيس أوباما، أن تتواطأ مع إيران، وتتيح لها كل ما أتاحت من نفوذ في العراق، ومن صمت على نشاطات ميليشياتها الإرهابية في لبنان، حتى عندما كان الأميركيون هم ضحيتها المباشرة، من قبل أن توقع معها الاتفاق النووي في العام 2015. هذا الاتفاق نفسه تم إعداده سرا، من دون استشارة ما كان يُعرف بـ”الحليف الأقرب” للولايات المتحدة في المنطقة.

منذ تلك اللحظة سقط التحالف. و”الأقرب” لم يعد بوسعه أن يكون أقرب، لأن الطرف الآخر هو الذي اختار أن يبتعد.

ومنذ الساعات الأولى لتوليه الرئاسة، كان الموضوع الأول والأثير للرئيس بايدن هو “العودة إلى الاتفاق النووي”. كان مستعدا لفعل كل شيء من أجل “منع إيران من حيازة أسلحة نووية”، بما في ذلك تمويل سلطة الإرهاب والميليشيات فيها بمئات الملايين من الدولارات. كان مستعدا لتحمل الإهانة أيضا. فوفد بلاده إلى مفاوضات فيينا ظل منبوذا من جانب إيران حتى هذه الساعة، وظل يتفاوض معها من وراء حجاب.

بايدن يعتبر أن مجيئه إلى السعودية تنازل كاف لكي تعود تدفقات النفط إلى مجاريها. وهو يعتقد أن صفحة الأزمة في العلاقات بين البلدين يمكن أن تطوى على هذا الأساس

إيران في النهاية هي التي أحاطت المفاوضات بالفشل. ظلت تطلب المزيد، حتى بلغ السيل الزبى بالكونغرس. الصراخ هناك حمل أغلبية عريضة من الحزبين معا على منع بايدن من تقديم المزيد من التنازلات. ولو تُرك الأمر لحكمته الغارقة بالجهل لكان الاتفاق قد تم توقيعه بشروط إيران وخداعها غير المنقطع مجددا.

ومنذ الساعات الأولى لتوليه الرئاسة أيضا، اتخذ بايدن موقفا مشجعا لميليشيات الحوثي عندما رفع اسمها من قوائم الإرهاب. وبالرغم من كل ما ارتكبته إيران من اعتداءات وتهديدات لخطوط الملاحة في مياه الخليج، فقد آثر الرئيس بايدن وقادته العسكريون ممارسة “التخاذل الاستراتيجي” وليس “الصبر الاستراتيجي” على أعمال إيران. وزاد الطين بلة، بأن سحب بطاريات باتريوت وغيرها من السعودية، ليبقيها مكشوفة أمام الهجمات الحوثية والإيرانية.

هل هذا حليف؟

مجرد استقباله شيء مزعج. مجرد الإصغاء إليه، شيء يبعث على النفور. ويكاد المرء يدرك كيف أن الملايين من السعوديين سوف يشعرون بالقرف لمجرد أن تطأ قدماه أرض بلادهم. فما بالك بما يمكن أن يُدلي به من سخافات.

ولكن هذا كله في كفة وحقيقة أن السعودية بلد مختلف في كفة أخرى؛ إنها بلد لم يعد يشعر بالضعف، ولا تنقصه العزيمة على أن يمسك بزمام المبادرة في الحرب أو السلم، ويتحرك ضمن خارطة علاقات دولية عريضة، شرقا وغربا، وتحظى تعاملاته مع كل دول العالم بالثقة والاحترام. وهو يمتلك ناصية المستقبل بفضل الأمير محمد بن سلمان نفسه الذي شرع في تنفيذ خطط تكفل أن تعيد بناء المملكة اقتصاديا واجتماعيا بما يعادل ثورة من أعظم ثورات التنمية والسعي إلى التقدم.

هذا الرجل يقود قطار تغيير يترك بصمات هائلة على مجريات الحياة في كل أرجاء المنطقة، وليس في السعودية وحدها.

من وجهة نظر النزعة المعادية للسعودية وللإسلام وللعرب في الولايات المتحدة، تلك التي تخرّج بايدن من مدرستها، يستحق هذا الرجل أن يكون منبوذا. أي ذريعة ستكون كافية لسيل لا يتوقف من الأحقاد المنهجية ضد السعودية وقادتها.

الولايات المتحدة لم تعد هي نفسها أيضا. وهي بما تركته من إرث، ذلك الذي حمل خمسة ملايين عراقي على الهرب من بلادهم، وذلك الذي مهد الطريق لكي تستولي إيران على العراق، وتمد نفوذها إلى سوريا ولبنان واليمن، فتهدم وتهجّر وتغذي كل دوافع التخريب والفساد والإرهاب، فإن الولايات المتحدة تستحق أن تثير مشاعر القرف في كل أرجاء المنطقة، وليس في السعودية وحدها.

العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة في حاجة إلى إعادة تأسيس. بل إنها في حاجة إلى إعادة تعريف أيضا، من أول حروف الدبلوماسية والسياسة والتجارة إلى آخر حروف الروابط الاستراتيجية.

بالمعنى العملي القائم، فإن الولايات المتحدة ليست أكثر من حليف خائن، ومنافق، وطمّاع. وكلما تُرك له المزيد من الفرص، فإنه يظل يخون وينافق ويطمع.

العرب