كما صنع الفوز الكبير لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الآمال في الاستقرار السياسي أولاً، وهزيمة الإرهابيين ثانياً، وكما صنع الفوز الارتياح الاقتصادي، وأخذت الليرة التركية بالارتفاع، وقد جاء في تقرير اقتصادي مختص أن قيمة الليرة التركية زادت خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بنسبة 4.4% مقابل الدولار واليورو، وحققت زيادة شهرية تعتبر الكبرى خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، وأخذ عدد من المسؤولين في المؤسسات الاقتصادية التركية يستبشرون ويؤكدون أن فوز العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية ستكون له آثار إيجابية على الاقتصاد التركي.
هذه النتائج أوجدتها الطمأنينة والاستقرار لدى الشعب التركي، ولدى كافة القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لدى الشعب التركي، لأن من يقود تركيا اليوم هو الرئيس الذي اختاره الشعب التركي بإرادته الانتخابية يوم 2014/8/10 الرئيس رجب طيب أردوغان، ومن سيقود الحكومة التركية في الأيام القادمة حكومة العدالة والتنمية برئاسة أحمد داود أوغلو رئيس حزب العدالة والتنمية، بعد أن انتخبه الشعب التركي في الانتخابات البرلمانية 2015/11/1، فالدولة التي يحكمها رئيس جمهورية منتخب شعبياً، ورئيس حكومة منتخب شعبياً، كفيلة أن تحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأن تحقق الوحدة الوطنية، وفق الأسس الأربعة التي حددها الرئيس أردوغان بعد صدور نتائج الانتخابات البرلمانية بقوله: “إن الإرادة الوطنية أظهرت تأييدها للاستقرار، واتخذت هذا القرار بعد أن كشفت التطورات السريعة أنه لا بديل عنه”، وأكد العناوين الأربعة التي لا غنى عنها، وهي: “شعب واحد”، و”علم واحد”، و”وطن واحد”، و”دولة واحدة”، مطالباً أن يتم إثراء هذه العناوين وتعزيزها للرد على المكائد الموجهة إلى تركيا، وقال أردوغان: “إن لم نحمِ بلادنا فإن مؤامرات كبيرة تُحاك لنا”.
هذا التشخيص لأسس بناء تركيا الحديثة، وما يتهددها من مؤامرات خارجية، وما يوجبه من إجراءات وقائية يحتاج إلى ضمانات قانونية ودستورية، يرى الرئيس أردوغان ورئاسة حزب العدالة والتنمية أن يكون بتجديد الدستور التركي، أو بوضع دستور جديد، يخرج تركيا من حالة عدم الاستقرار التي قد تنتج عن ثغرات النظام الجمهوري البرلماني المعمول به الآن، والتي كان من آخرها عجز أحزاب البرلمان التركي عن تشكيل حكومة ائتلافية بعد انتخابات 7 يونيو/ حزيران، بل لو تشكلت حكومة ائتلافية حينها فإنها ستكون حكومة عرجاء لا تستطيع القيام بواجباتها، ولا تنفيذ برامجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلا بشق الأنفس، وبعد منكافات برلمانية كبيرة، وقد تسقط الحكومة في أي لحظة، أو لأقل الأسباب الشخصية بين قادة الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة الائتلافية، والشعب التركي وأحزابه السياسية لديهم الخبرة والمعرفة التاريخية بضعف الحكومات الائتلافية منذ عقد السبعينات من القرن الماضي، ولعل من أهم العبر التي يستخلصها الشعب التركي من نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة والفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية بعد خمسة أشهر، هو أن عدم الاستقرار السياسي يؤدي إلى عدم الاستقرار في كل شيء في تركيا، وهو ما ينبغي معالجته قانونياً ودستورياً، والفوز الأخير لحزب العدالة والتنمية يؤكد رغبة الشعب التركي بالاستقرار السياسي حتى لو أدى ذلك إلى حكومة الحزب الواحد، ولكن بشرط أن يكون حزب حكومة منتخبة ديمقراطياً، ولا تتجاوز إرادة الشعب ولا تلغي حقوقه السياسية.
في هذا السياق تأتي دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له أمام البرلمان التركي بتاريخ 2015/11/4، فقد دعا في تلك الكلمة البرلمان التركي الجديد إلى أن يعمل على وضع دستور جديد للبلاد، وطالب الرئيس التركي جميع القوى في البرلمان الجديد بالتفاهم لإعداد دستور جديد للبلاد، كما توعد بعدم “المهادنة” مع المتمردين الأكراد، وقال أردوغان في أول كلمة له بعد الانتخابات التشريعية التي فاز بها حزب العدالة والتنمية بالأغلبية: “إن الأحزاب التي تتهرب من إعداد الدستور سيحاسبها الشعب بالانتخابات بعد أربع سنوات”، وحذرهم بقوله: “إنه في حال فشلت المفاوضات بين الأحزاب لإعداد الدستور الجديد فسيتم اللجوء إلى استفتاء شعبي لأخذ رأي المواطنين في المسألة”.
وبهذه الدعوة من الرئيس التركي يمكن توقع أن ينشغل البرلمان التركي الجديد بالاتفاق على وضع دستور جديد، وقد كان لدى هذه الأحزاب السياسية الأربعة تجربة سابقة بوضع دستور جديد، لم يتم الاتفاق عليه ولا إنجازه، على الرغم من مشاركة حزب العدالة والتنمية وحكومته السابقة التي كانت تنفرد في الحكم بإدخال ممثلين للجنة التي كلفت بوضع الدستور الجديد بأعداد مساوية تقريباً لأعداد نواب حزب العدالة والتنمية، وقد أشار لذلك قبل أيام نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، المتحدث باسم الحزب، عمر جليك، قائلاً: “إن صياغة دستور جديد في البلاد على رأس أولويات الحزب”، وذلك في مؤتمر صحفي أثناء انعقاد اجتماع اللجنة المركزية في مقر الحزب بالعاصمة أنقرة يوم الاثنين 2015/11/2 برئاسة رئيس الوزراء، أحمد داود أوغلو، رئيس الحزب، حيث دعا جليك الأحزاب السياسية في البلاد إلى صياغة دستور جديد يحمل تركيا إلى مستقبل معاصر، ويركز على الإنسان المدني، قائلاً: “تعالوا لنصيغ دستوراً مدنياً يحمل تركيا إلى عام 2023”.
وقد أعرب جليك عن الحاجة الشديدة إلى دستور جديد في البلاد من أجل الاستجابة لنمو الاقتصاد والديمقراطية التركية من الناحية الإيجابية، ومقارعة بعض التحديات في العالم المعاصر من الناحية السلبية، مشيراً إلى أن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق حزب العدالة والتنمية فقط، وإنما على كافة النواب الذين أوصلهم الشعب إلى البرلمان، لأن موقف الشعب التركي من حالة الاستقرار واضحة، فهي الأولوية الكبرى لديه، ولذلك يمكن جعل مشروع الدستور الجديد معالجاً لأكثر القضايا الخلافية في تركيا منذ عقود ماضية، ومنها حقوق القوميات التركية جميعها، ومن ضمنها، وفي مقدمتها القومية الكردية، فبدل أن يكون الدستور عامل خلاف بين الأحزاب التركية، يمكن أن يتحول إلى عامل جمع لجميع الفرقاء، ومن ضمنهم حزب الشعوب الديمقراطي، ففرصته الحقيقية لتحقيق عملية السلام هي مع هذا البرلمان الذي ضعفت فيه شوكة حزب الحركة القومية بزعامة دولت باهشلي، وهو من أكبر الأحزاب المعارضة للمصالحة الداخلية ولعملية السلام مع الأكراد.
إن الدستور الجديد هو الضمانة الحقيقية لترجمة كل الخطابات الإيجابية التي تقدم بها رئيس الحزب الفائز، أحمد داود أوغلو، في خطابات الفوز في قونيا وأنقرة، وفي المؤتمرات الصحفية التي عقدها بعد الفوز، وفيها تأكيد داود أوغلو على العمل من أجل تركيا جديدة وقوية، وأنهم “عازمون على العمل خلال الفترة المقبلة من أجل “تأسيس دولة تركيا جديدة تتمتع بالقوة والتقدم، وخالية من كافة أشكال الإقصاء والاستقطاب والعنف والفوضى والإرهاب”، كما تعهد داود أوغلو في خطابه “بمواصلة التقدم بشكل يتناسب مع الآمال والتطلعات التي علقها علينا من انتخبوا حزبنا، وغيرهم ممن لمن ينتخبونا، وسنواصل الرقي والاستقرار من أجل رفعة البلاد”، وختم بقوله: “لقد رأيتم بأعينكم الحيل والألاعيب التي حيكت ضد تركيا، وها أنتم قد أفسدتم مفعولها، وبتصويتكم للعدالة والتنمية تكونون قد أسدلتم ستاراً على العقلية التركية القديمة والفوضى والعنف والإرهاب وعدم الاستقرار”.
وبهذه الخاتمة فقد شخص أمراض تركيا بأنها:
1 ـ “العقلية التركية القديمة”، التي يمثلها حزب الشعب الجمهوري.
2 ـ “الفوضى”، التي يمثلها الكيان الموازي وأتباعه من الذين يعملون لحساب قوى خارجية.
3 ـ “العنف”، الذي يمثله حزب جبهة التحرير اليساري وأتباعه من الأحزاب اليسارية.
4 ـ “الإرهاب”، الذي يمثله حزب العمال الكردستاني، وكل توابعه الحزبية والجمعيات العمالية التي تدعم الإرهاب ولا تستنكره ولا تتبرأ منه.
5 ـ “عدم الاستقرار”، الذي تمثله كل الأحزاب التي لم تتعاون في تشكيل حكومة ائتلافية في المرحلة السابقة على صعوبتها، ومن ضمنهم حزب الحركة القومية وزعيمه دولت باهشلي، الذي رفع لاءات التعاون مع الأحزاب الأخرى لتشكيل حكومة ائتلافية بحسب ما أفرزته انتخبات 7 يونيو/ حزيران.
هذا النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية ينبغي أن يكون رسالة لكل من عارض استقرار تركيا وسعى لضرب وحدتها الوطنية، سواء كان حزباً سياسياً أو إعلامياً كبيراً، سواء كان رئيس دائرة إعلامية أو رئيس تحرير صحيفة معارضة أو غيرها، فالشعب التركي أعطاهم جوابه الواضح، بأن الاستقرار مقدم على المناكفات التي يستثمرها أعداء تركيا في الداخل والخارج، ودور الدستور المنشود أن يجعل العمل الجماعي مركزاً على بناء تركيا القوية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وأن يحميها من رعاة الرجعية والفوضى والإرهاب الداخليين والخارجيين أيضاً، والخطة المثلى في تنفيذ ذلك هي أن يكون الانتقال بالبلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي من خلال الصياغة الجديدة للدستور التركي الجديد، وإلا فإن الاحتكام إلى الإرادة الشعبية خارج البرلمان الطريق البديل عن توافق الأحزاب السياسية داخل البرلمان.
محمد زاهد جول
موقع خليج أونلاين