لا تكاد تركيا تنتهي من عملية عسكرية ضد الكُرد داخل كردستان العراق أو كردستان سوريا بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني وفروعه حتى تباشر أو تستعد لأخرى أكثر ضراوة وشراسة. وعملية “المخلب – القفل” التي بدأت في الثامن عشر من أبريل، والتي ما زالت مستمرة إلى الآن، تعتبر أحدث ابتكارات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في هذا الصدد، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة.
وبموازاة ذلك، بدأت تركيا بالتلويح بشن عدوان جديد ضد المناطق الكردية في سوريا بحجة حماية الأمن القومي التركي وإقامة منطقة عازلة أو آمنة تركية بعمق 30 كيلومترا في شمال وشمال شرق سوريا وإبعاد قوات حماية الشعب التي تقود قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود. والغاية من ذلك ليست فقط لجم الطموحات الكردية وإنما ممارسة التهديد الوجودي ضد الكُرد وذلك بتوطين أكثر من مليون لاجئ عربي وتركماني من سوريا موالين لتركيا في مناطقهم بهدف إحداث تغييرات ديمغرافية جذرية لغير صالح الكُرد.
وتفوق أعداد وحجم وطبيعة ونوعية العمليات التركية المتعاقبة، السابقة والحالية، أو تلك التي تنوي تركيا تنفيذها في القريب العاجل قوة وقدرة حزب العمال الكردستاني وفروعه في كردستان العراق وكردستان سوريا بعشرات المرات. وهذا بدوره يزيح القناع عن النوايا التوسعية الكامنة لأنقرة والخطر الحقيقي الذي تشكله على فيدرالية إقليم كردستان العراق المعترف بها عراقيا وإقليميا ودوليا وكذلك على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا غير المعترف بها.
حرب حقيقية
◄ في عام 1992 نعتت تركيا القائد الأفريقي وأيقونة الحرية نيلسون مانديلا بالإرهابي بسبب رفضه استلام جائزة أتاتورك “للسلام” احتجاجا على ما يتعرض له الكُرد في تركيا من اضطهاد وتمييز عنصري
ما يعزز هذا الاستنتاج هو أن تركيا أقامت العشرات من القواعد العسكرية والمراكز الاستخباراتية في المناطق التي تحتلها داخل كردستان العراق وكردستان سوريا. وتم بناء معظم هذه القواعد والمراكز في المناطق التي لم يكن لثوار حزب العمال الكردستاني وجود أو نشاط فيها. وهذا يوضح أن هدف تركيا من وراء هذه الغزوات المكلفة للغاية هو البقاء إلى الأبد، وربما في وقت لاحق لضم تلك المناطق رسميا وبحكم الأمر الواقع وبالاستناد إلى الكذبة التاريخية التركية، التي تقول إن هذه المناطق كانت في الماضي أجزاء من تركيا الحديثة التي قامت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية البائدة وسُلخت منها عنوة بموجب معاهدة لوزان 1923 التي سينتهي مفعولها السنة القادمة وفق الأسطوانة التركية المشروخة، وبالتالي آن الأوان لاستعادتها. وبما أن قدر الكُرد قد وضعهم تاريخيا وحاضرا في الخطوط الأمامية لمجابهة أطماع ومخططات تركيا التوسعية في المنطقة، لهذا فإن العداء التركي الصارخ ضد الكُرد ليس له حدود ولا مثيل، وله ما يبرره من وجهة نظر أنقرة.
والأسباب التي تتذرع بها تركيا لمحاربة الطموحات الكردية المشروعة أينما وكيفما كانت ووجدت كثيرة وهي لا تُعد ولا تحصى وفي تكاثر دائم وملحوظ، خاصة إذا تعلق الأمر بالحراك الذي قد يقف وراءه حزب العمال الكردستاني، سواء من قريب أو بعيد، كما يحصل الآن في كردستان سوريا.
وتعتبر معاداة الحقوق الكردية وفكرة القومية الكردية بحد ذاتها إحدى المواد الساخنة لحالة الاستقطاب السياسي والحزبي والجماهيري الحادة والمزمنة في الحياة الحزبية والسياسية التركية العامة، ولاسيما أثناء حملات الانتخابات البرلمانية والرئاسية وحتى البلدية، وذلك في إطار تصوير واختزال المسألة برمتها على أنها مقتصرة فقط على محاربة حزب العمال الكردستاني “الإرهابي” كما تصنفه أنقرة والميول الانفصالية الكردية، علماً بأن حزب العمال الكردستاني نفسه قد تخلى عن فكرة الانفصال وإنشاء كردستان المستقلة منذ أكثر من عقدين من الزمن وذلك تزامناً مع اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان سنة 1999.
إنّ نطق أو قراءة أو سماع أو كتابة كلمة كردستان بحد ذاتها تخلق حالة من الامتعاض والتجهم والاكفهرار والحنق لدى أغلبية الأتراك تجاه قائلها أو مدونها سواء أكان شخصا أو قناة تلفزيونية أو إذاعة أو صحيفة. وكانت الأدبيات التركية الرسمية، السياسية منها والتاريخية، تصف الكُرد في شمال كردستان (كردستان تركيا) حتى وقت قريب بأتراك الجبال. وعندما “تحضرت” الدولة التركية قليلاً مع مرور الزمن نتيجة قانون التطور، وكذلك تحت وطأة الانتقادات والملاحظات القوية التي تعرضت لها أنقرة من قبل المنظمات الدولية والغرب، عندئذ تخلت تركيا شكلياً عن ذلك المصطلح العنصري المقيت وتبنت تصنيفاً ووصفاً جديدا – قديماً للكُرد أكثر إشكالية من ذي قبل وينطوي على غرائز ونوايا مبيتة وخطيرة ومروعة تهدف إلى إحداث المزيد من الشروخات والتصدعات في البيت الكردي السياسي والمجتمعي المتخم أصلا بالشقاق. هذا التصنيف الجديد – القديم يعتمد ببساطة على تقسيم أو تقديم الكردي كنموذجين: جيد وسيء.
كل كردي يطالب بكل أو جزء من حقوقه التاريخية المشروعة والمسلوبة، هو كردي سيء من وجهة نظر أنقرة
◄ كل كردي يطالب بكل أو جزء من حقوقه التاريخية المشروعة والمسلوبة، هو كردي سيء من وجهة نظر أنقرة
الكردي السيء والكردي الجيد
كل كردي يطالب بكل أو جزء من حقوقه التاريخية المشروعة والمسلوبة، سواء في كردستان تركيا أو في بقية أجزاء كردستان هو كردي سيء من وجهة نظر أنقرة. ليس مهماً ما إذا كان ذلك الكردي منتسبا إلى حزب العمال الكردستاني في تركيا أو إلى بقية الأحزاب الكردستانية في بقية أجزاء كردستان. وليس مهماً ما إذا طالب ذلك الكردي ببعض الحقوق أو جُلها وبصرف النظر عن أشكال وصيغ الحقوق التي يسعى لها، فإن ذلك الكردي سيء وخائن وعميل بالنسبة إلى الحكام والحكومات في أنقرة. وبالتالي وجب القصاص منه وتقع عليه أقصى وأشد أنواع العقوبات وتتم محاربته حتى في قوته اليومي.
بالمقابل، كل كردي لا يطالب بحقوقه ولا ينتسب إلى أي من الأحزاب الكردستانية أو يؤيدها، ولا يعارض الحكومات المركزية في الدول التي تقمع وتضطهد الأكراد ولا يسبب لها أي إزعاج، لا بل يناصرها ويصوت لصالح مرشحيها في الانتخابات كما هو حال الكثير من الكُرد في تركيا الذين يصوتون لصالح مرشحي حزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات المختلفة بسبب الخطاب الديني الذي يستميلهم، فهو كردي جيد وصالح يجب أن تُقدم له الامتيازات والتسهيلات. وفي هذا الإطار، يقول المفكر وعالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشكجي “يستطيع الكردي في تركيا أن يتمتع بالحريات العامة وبالمساواة شريطة إنكاره لهويته القومية (…) إنه سلوك عنصري عندما يكون تطبيق العدالة وحقوق الإنسان والحرية مرتبط بإكراه المرء على التنكر لهويته القومية، وهو سلوك رجعي يهدف إلى إبادة الجنس البشري، ومثل هذا الإكراه هو الذي يجعل من كردستان في وضع أدنى حتى من وضع المستعمرة”.
لذلك لا يمل أردوغان من ترديد مقولة إن الكُرد إخوة لنا ومشكلتنا هي فقط مع حزب العمال الكردستاني في تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب في شمال وشمال شرقي سوريا. وكان الخميني ومن بعده خامنئي في طهران يقولان أيضاً إن الكُرد في إيران إخوة لنا، لكن خلافنا ينحصر مع الحزب الديمقراطي الكردستاني – إيران. بدوره، كان صدام حسين يردد أيضا نفس النغمة عندما كان يقول إنه لا خلاف مع الكُرد في العراق وكل الخلاف هو مع مسعود بارزاني وجلال طالباني ومقاتليهما.
◄ الأسباب التي تتذرع بها تركيا لمحاربة الطموحات الكردية المشروعة أينما وكيفما كانت ووجدت كثيرة وهي لا تُعد ولا تحصى وفي تكاثر دائم وملحوظ
ولم يشذ عنهم في هذا السياق لا حافظ الأسد ولا ابنه بشار، حيث يكرر بين الفينة والأخرى ما معناه أن الكُرد في سوريا لهم كافة حقوق المواطنة وهم مكون أساسي من مكونات الشعب السوري، لكن خلافنا يكمن مع الأحزاب الكردية في سوريا التي تعمل على تسييس الحالة ووصف وتذييل القصة بالقضية والحقوق وما إلى ذلك، علما بأنه حتى سنة 2011 كان هناك أكثر من نصف مليون كردي مجردين من الجنسية السورية حيث عمد النظام بعد ذلك إلى منحهم إيّاها تحت وطأة المظاهرات في الداخل السوري وفي محاولة يائسة وبائسة منه لمخاتلة المجتمع الدولي. لكن تاريخيا ما يميز السياسات التركية عن بقية الدول المشتركة بالهمّ الكردي هو كمية وكيفية إرهاب وترهيب الدولة المنظم ضد تطلعات وحقوق شعب يناهز الأربعين مليون نسمة داخل وخارج تركيا، بالإضافة إلى لعب دور شرطي المنطقة الذي قام ويقوم بإجهاض محاولات الكُرد في انتزاع الحقوق نيابة عن دول الجوار الأخرى التي تقتسم مع أنقرة العقدة الكردية، وهذا ما يشي بمعايشة تركيا لحالة حرب حقيقية ضد الكُرد منذ الأزل.
وتشير كافة التقارير واستطلاعات الرأي في تركيا إلى أن الغالبية الساحقة من الأتراك وعلى مختلف مشاربهم الفكرية والسياسية والحزبية كانوا وما زالوا يؤيدون بشكل منقطع النظير الحملات العسكرية التي قام ويقوم بها الجيش التركي والتي يعتزم القيام بها ضد الكُرد سواء في كردستان العراق أو كردستان سوريا. والكُرد في الذاكرة السياسية والتاريخية التركية وكذلك في العقل الجمعي التركي انفصاليون ووحدات حماية الشعب الكردية التي هزمت داعش في سوريا هي منظمة إرهابية وتابعة لحزب العمال الكردستاني وملاحدة وماركسيون، وفق الرواية التركية الرسمية والشعبية.
وكانت أصوات المؤذنين تصدح من مآذن المساجد التركية لتبارك غزو الجيش التركي وتدعو له بالنصر المبين أثناء معركة عفرين في بداية 2019. وكان الأئمة في خطب الجمعة يباركون الاجتياح التركي لمدن عفرين وسري كانيه (رأس العين) وكَري سبي (تل أبيض) وفتكهم بالأطفال والنساء والشيوخ الذين باتت صورهم تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي، وكانوا يدعون للجنود الأتراك والمرتزقة من المعارضة السورية بالفتح المبين وكأنهم ذاهبون لتحرير القدس. وكانت المجاميع المسلحة التابعة للمعارضة السورية الموالية لأنقرة تتلو آيات من القرآن قبل توجهها إلى أرض المعارك لترهيب وتهجير وقتل المدنيين من مختلف مكونات المنطقة، كيف لا وتلك المجاميع كانت جزءا من “الجيش المحمدي” الأردوغاني كما لُقّبوا من قبل الآلة الإعلامية التركية. وداخلياً، معظم قادة حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للكُرد تم الزج بهم في غياهب السجون بالإضافة إلى العديد من ممثليهم في البرلمان ورؤساء البلديات بعد عزلهم ورفع الحصانة عنهم بجرة قلم.
تاريخيا، استمالت تركيا الكمالية الكُرد إلى جانبها أثناء وعقب الحرب العالمية الأولى بعد خداعهم كالعادة بوعود وهمية بالشراكة في تركيا الجديدة التي انبثقت عن اتفاقية لوزان 1923 التي ولدت فيها دولة تركيا الحديثة ومات فيها مشروع دولة كردستان. وبعد الصحوة الكردية المتأخرة كالعادة، قام الكُرد بعدة انتفاضات على أمل إصلاح ما تم إفساده من قبلهم أولا ومن قبل الآخرين ثانيا، لكن تركيا الحديثة كانت أقوى منهم بكثير وكانت لهم بالمرصاد دائما وأبدا بسبب محدودية تلك الانتفاضات وتشتت الكُرد والعداوات الداخلية التي كانت وما تزال تفتك بهم وسهولة إيهام قادتهم ورموزهم. ولذلك كان من السهل جدا بالنسبة إلى تركيا أن تقوم بإخماد تلك الانتفاضات بالحديد والنار.
ولم تكتف تركيا بذلك القدر الهائل من القمع والتنكيل ضد الانتفاضات الكردية التي قامت داخل كردستان تركيا والتي أُجهضت الواحدة تلو الأخرى، وإنما قادت وشاركت في حراك ونشاط دبلوماسي واستخباراتي إقليمي ودولي محموم لاستهداف ووأد المحاولات الكردية للانعتاق داخل وخارج تركيا. وفي سنة 1927 وقعت تركيا اتفاقية أنقرة مع بريطانيا وفرنسا والتي نصت على ضم مدينة الموصل الكردستانية إلى دولة العراق وذلك لضمان وضع المزيد من العراقيل أمام المساعي الكردية في الاستقلال.
الفوبيا الكردية التي تعاني منها تركيا الكمالية – الأردوغانية موغلة في القدم ولا مؤشرات توحي بأن أنقرة قد تتعافى منها
وفي يوليو 1937 وقعت تركيا وإيران والعراق وأفغانستان على اتفاقية سعد آبادي. ونص أحد بنود تلك الاتفاقية على أن تساعد هذه الدول بعضها البعض في حال تعرضت إلى مخاطر أمنية في الداخل أو على الحدود المشتركة بينها. وكان الهدف من اتفاقية 1983 التي أُبرمت بين تركيا والعراق إجهاض الحالة الثورية التي تنامت في كردستان تركيا إثر ظهور حزب العمال الكردستاني. وفي نوفمبر 1998 وقعت تركيا وسوريا على اتفاقية أضنة الأمنية التي أفضت إلى طرد زعيم “بي.كا.كا” من سوريا وتسليم العشرات من كوادره الذين كانوا في سوريا إلى المخابرات التركية.
وبلغ حقد وكره الدولة التركية للكُرد حدود العالمية عندما لاحقت لعنتها النشطاء الكُرد في أوروبا والشتات حيث قامت الاستخبارات التركية بتصفية النشطاء الكُرد أكثر من مرة وفي أكثر من مكان. وطالبت تركيا عدة دول أوروبية بعدم إيواء اللاجئين “الإرهابيين” في إشارة منها إلى المعارضين الكُرد. وفي عام 1992 نعتت تركيا القائد الأفريقي وأيقونة الحرية نيلسون مانديلا بالإرهابي بسبب رفضه استلام جائزة أتاتورك “للسلام” احتجاجا على ما يتعرض له الكُرد في تركيا من اضطهاد وتمييز عنصري. وفي 2019 طلبت أنقرة من اليابان إلغاء قرارها القاضي بتدريس اللغة الكردية في جامعة طوكيو. والآن تساوم مع السويد وفنلندا حول طلبهما للانضمام إلى الناتو مقابل تخليهما عن دعم ما تصفهم أنقرة بالإرهابيين الكُرد.
ووصلت صفاقة النظام التركي إلى حد مطالبته السويد بتسليم نائبة سويدية من أصول كردية لمجرد وقوفها بصلابة في وجه الابتزازات التركية في ما يتعلق بملف انضمام السويد إلى الناتو. كما أن أنقرة تسعى هذه الأيام لمقايضة روسيا في سوريا لمنحها الضوء الأخضر للبدء في هجوم جديد ضد الكُرد ومساعيهم للحصول على بعض الحقوق في سوريا الموعودة أو كما يتخيلها ويتمناها الكُرد.
والفوبيا الكردية التي تعاني منها تركيا الكمالية – الأردوغانية موغلة في القدم ولا مؤشرات توحي بأن أنقرة قد تتعافى منها على المديين القريب أو البعيد. وهذه الفوبيا تعتبر القاسم المشترك وربما الوحيد بين العسكريين والعلمانيين والقوميين والإسلاميين في تركيا، وبين هؤلاء جميعا من ناحية وبين نظرائهم من الغلاة في طهران ودمشق وبدرجة أقل في بغداد من ناحية ثانية. وحتى الكُرد أنفسهم يساهمون عن عمد أو عن غير عمد وفي كثير من الأحيان في تقديم العون لأنقرة للانتقام منهم وهزيمتهم. وكيف لا يُهزم الكُرد والجميع ضدهم وهم ضد أنفسهم حسب المثل الكردي الشهير والأليم “الكل أعداء الحجل، والحجل عدو نفسه”.
العرب