لا حرب شغلت العالم خلال 77 سنة بعد الحرب العالمية الثانية مثل حرب أوكرانيا. ليس فقط لأنها في أوروبا، التي كانت مركز الكون والحروب العالمية الكبيرة، بل أيضاً لأن انعكاساتها وصلت إلى أقصى بقعة على الكرة الأرضية. أولاً لجهة الوقوع في أزمة غذاء وارتفاع أسعار وحرب نفط وغاز، وموجة لجوء هرباً من تدمير المدن والقرى الأوكرانية على أيدي جنرالات روس تجاوزوا ما فعله جنرالات هتلر في أوروبا.
وثانياً، والأهم، لجهة ما فرضه الاجتياح العسكري الروسي على الجميع من مراجعات للتحالفات والخصومات واستراتيجيات الأمن القومي في ظل الصراع الجيوسياسي الخطير المتجدد. فالمسرح في أوروبا، لكن بلدان الشرق الأوسط والشرق الأقصى ليست في موقع المتفرج.
أوروبا التي تصورت أن الحاجة إلى الحلف الأطلسي لم تعد ملحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عاودت التمسك بمظلة “الناتو” تحت القيادة الأميركية.
الصين المخيفة لجيرانها في الشرق الأقصى تعيد حساباتها في استعادة تايوان، وتمد يدها للجيران عبر مبادرة “الحزام والطريق” من دون أن تتوقف عن البناء العسكري براً وبحراً وجواً. والجيران الخائفون منها يعتمدون على أميركا، مع الشكوك في التزاماتها، عبر ثلاثة تحالفات أو اتفاقات: “أوكوس” بين أميركا وبريطانيا وأستراليا. “كواد” بين أميركا والهند واليابان وأستراليا. و”العيون الخمس” بين أميركا وكندا وأستراليا وبريطانيا ونيوزيلاندا.
أما في الشرق الأوسط، فإن الحسابات لم تكتمل بعد، مع أن التهديد كبير. تركيا تلعب بين روسيا وأوكرانيا، وأميركا تعود إلى الانفتاح على السعودية والإمارات ومصر، لكنها تهدد الأمن في سوريا والعراق وليبيا.
إسرائيل، التي ترفض التسوية مع السلطة الفلسطينية، تراهن على “اتفاقات أبراهام”، وتتحدث بلسان وزير الدفاع الجنرال بيني غانتس عن “تحالف للدفاع الجوي في الشرق الأوسط بقيادة أميركا”.
إيران تتصرف على أساس أن الفرصة للهيمنة الكاملة على العالم العربي صارت مفتوحة أمامها بأقل قدر من العوائق بعد حرب أوكرانيا، وتخفيف الوجود العسكري الروسي في سوريا، وضعف الالتزام الأميركي.
الدول العربية، بقيادة مصر والسعودية، تعمل على صيغة لحماية الأمن القومي العربي، بصرف النظر عما سيأتي به الرئيس جو بايدن خلال زيارته إلى الرياض وحضوره قمة لدول الخليج ومصر والأردن والعراق، وما إن كانت هناك فرصة لإقامة “ناتو شرق أوسطي” لمح إليه الملك عبدالله الثاني.
أميركا، التي راهنت مع إسرائيل، على صفقة مع موسكو لإخراج إيران من سوريا، وصلت حالياً إلى استحالة الصفقة بعد انهيار علاقاتها مع موسكو، وليست متحمسة لرعاية حرب شاملة بين إسرائيل وإيران، التي تعمل على إخراج أميركا من المنطقة، لكن إدارة بايدن توحي بلسان وزير الدفاع الجنرال لويد أوستن أنها “تعمل مع الشركاء لمواجهة إيران ووكلائها”.
ويعترف القائد الجديد للقيادة الوسطى، الجنرال مايكل كوريلا، بأن “خصومنا يبحثون عن أي مؤشر إلى تذبذب التزام أميركا الأمن الجماعي في المنطقة، وهم مستعدون للاستفادة من أي فرص تظهر، ويجب ألا نمنحهم أياً منها”.
حرب أوكرانيا مرشحة لأن تدوم سنوات، حسب الأمين العام للحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، والناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف. ومن الصعب تصور سيناريو واضح لتطوراتها. وهذا ما يزيد من التحديات أمام المسؤولين في الشرق الأوسط. فالحاجة في العالم إلى الغاز والنفط تتزايد. ودول الخليج تعمل على حماية أمنها، وتلعب دوراً كبيراً في المنطقة وتفرض على العواصم التسليم بأنها “ليست نفطاً وغازاً فقط”.
ومن هنا إصرار الدول العربية على مواقف متوازنة بين أطراف الحرب في أوكرانيا، كما على إبقاء القنوات مفتوحة مع أميركا وروسيا والصين. فاللعبة في حرب أوكرانيا أكبر مما تبدو. وانعكاساتها متحركة، بحيث تتطلب مراقبة يومية وعملاً مستمراً لحماية الأمن والمصالح والمواقع.
والحد الأدنى هو تطبيق المبدأ القائل، “عند تغيير الدول احفظ رأسك”. وحفظ الرأس لا يكون بالهرب من التحديات.
اندبندت عربي