كان الأولى بفلاديمير بوتين أن يفكر ألف مرة قبل أن يتخذ قراره الغبي بغزو أوكرانيا، لأسباب عديدة ذكرناها في أكثر من مناسبة، ستعود أغلبها وبالاً عليه. لكن هناك سبب مهم جداً ربما غاب عن الكثيرين، سيدفع بوتين وكل من يفكر بنفس طريقته إلى عَض أصابع الندم، وهو ما ستصبح عليه ألمانيا الجديدة التي ستكون صورتها بعد غزو أوكرانيا ليست نفسها ما قبله.
ألمانيا التي تسبب غزوه بتغييرها لمسار سياساتها إلى اتجاه لم يكن يتمناه لا هو ولا غيره. ألمانيا التي كانت حليفة غير مباشرة لبلاده، بدليل صفقة أنبوب الغاز التي أبرمتها معه رغم اعتراض أغلب حلفائها المباشرين وتوجّسهم وتحذيرهم لها من الوثوق به، وقد صَدَقوا، بدليل ما نعيشه اليوم. ألمانيا التي كان مستشاروها وساستها أصدقاء له، يجاملونه ويُرَوّجون بسذاجة لاحتوائه أوروبياً وعالمياً، لكنهم سيصبحون بعد الغزو كتحصيل حاصل أضدادا إن لم يكن أعداء له. ألمانيا التي دفعها الغزو إلى التفكير بمسألتين كان الأولى به أن ينتبه إليها.
الأولى، طبيعة علاقته معها، التي صَدّع الغزو بنيانها كما صَدّع أبنية الأوكرانيين الآمنين وهَدّها على رؤوسهم، والتي لن تعود إلى سابق عهدها حتى وإن انتهت الحرب، لأن المؤمن لا يلدغ من جُحر مرتين.
والثانية، قدراتها الدفاعية والقتالية التي باتت اليوم شُغل ساستها الشاغل لتأمين بلادهم من مغامرات شخص مختل مثله، قد يَظهَر لهم في أية لحظة، ويُهدد وجودهم وأمنهم ومكتسباتهم.
زمن النهج السلمي الذي اتخذته ألمانيا في سياساتها العسكرية قد انتهى، في اليوم الذي حرك فيه بوتين دباباته لغزو أوكرانيا
ألمانيا كانت أشبه بمارد تم وضعه في قمقم لسنوات طويلة، لكن الأحداث الأخيرة أخرجته، وباتت عودته صعبة. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتقييد ألمانيا بقرارات تمنع تغَوّلها عسكرياً، وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً من الأحداث الجسام التي مَرّت على العالم، أبرزها الحرب الباردة التي كانت ألمانيا ساحتها الرئيسية، نتيجة تقسيمها إلى دولتين، غربية ديمقراطية حليفة للغرب الليبرالي وشرقية دكتاتورية خاضعة لسطوة الاتحاد السوفياتي.
لم تتخذ ألمانيا بل ولم تفكر حتى باتخاذ قرار خطير وتاريخي كالذي اتخذته في الأيام الأولى لغزو أوكرانيا، وتمثل بتعهدها على لسان المستشار أولاف شولتز أن تستثمر 100 مليار يورو في قطاع الدفاع، لإعادة تأهيل الجيش الألماني على مدى السنوات القادمة ورفع قدرته الدفاعية وجهوزيته إلى مستوى لن يتوقعه أحد، كما لمّح المستشار الألماني شولتز إلى ذلك بخطابه في البوندستاغ وفي برنامج الإعلامية “آنا فيل” التي استضافته قبل فترة، قائلاً “يتعيّن علينا أن نستثمر أكثر في أمن بلادنا لبناء جيش قوي حديث متطور قادر على حمايتنا بشكل يعتمد عليه”، داعياً إلى ضرورة إدراج بند الاستثمار لتعزيز قدرات الجيش الألماني في دستور البلاد.
بل لقد ذهب بعض السياسيين بعيداً، إلى درجة المطالبة بإعادة إلزامية التجنيد أو الخدمة الاجتماعية في المستشفيات أو الدفاع المدني سنة واحدة، بالنسبة إلى من بلغ الثامنة عشرة.
الخطأ القاتل الذي ارتكبه بوتين بإيقاظ المارد الألماني يبدو واضحاً من لغة وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت السياسية المخضرمة في حزب المستشار شولتز خلال زيارتها الأخيرة إلى واشنطن، حيث تعهدت أن تقوم وزارتها بتحويل كلام زميلها في الحزب إلى أفعال. وقالت “كييف عاصمة أوكرانيا قريبة من برلين مثل شيكاغو من البيت الأبيض”. وأضافت “هذه أيام صادمة بالنسبة إلينا كألمان، وهذا الواقع أصبح الآن واضحاً جداً لألمانيا، من خلال حوالي ربع مليون أوكراني فروا إلى ألمانيا خوفاً على حياتهم”.
وفي الوقت الذي حاولت ألمانيا بعد توحيد جزأيها الشرقي والغربي، منذ حوالي ثلاثة عقود، لعب دور الوسيط والتقريب بين أقطاب شرق أوروبا وغربها ومُحاولة مَسك العصي من الوسط مستغلة خبرة سياسييها في التعامل مع الجانبين، إلى درجة الذهاب بعيداً في توثيق علاقاتها مع روسيا دبلوماسياً واقتصاديا، رغم تحفظ شركائها الغربيين والشرقيين من جيران روسيا على ذلك، جاءت تصريحات لامبرخت لتؤكد أن هذه السياسة التي أثبتت سذاجتها لم تعد قائمة وحلت محلها سياسة جديدة تتّسِم بالحزم والتقرب أكثر إلى حلفائها الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، مؤكدة ذلك بقولها “نحن ندعم بعضنا البعض ونقف قريباً من بعضنا أكثر مِن أي وقت مضى، ولن تنجح المساعي التي تسعى لتقسيمنا، لا في الاتحاد الأوروبي، ولا في الناتو، نحن نقف معاً وسنبقى شركاء موثوقين”.
برلين باتت تنتهج سياسة جديدة تتّسِم بالحزم والتقرب أكثر إلى حلفائها الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة
من جانبه قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إن قرار الحكومة الألمانية زيادة قواتها المسلحة وتحديثها هو قرار تاريخي وشجاع، في إشارة إلى قرار شراء طائرات مقاتلة من طراز “إف – 35” لتحل محل أسطول طائرات التورنيدو المتقادم في ألمانيا، والتي ستكون قادرة على حمل أسلحة نووية، وإلى قرار تشكيل فرقة جديدة للجيش الألماني مطلع 2025، وتوقيت اتخاذه من قبل حكومة مستشارها ووزيرة دفاعها (اشتراكي ديمقراطي) ووزيرة خارجيتها (خضر) من أحزاب تنتمي إلى يسار الوسط كانت ترفض تسليح الجيش الألماني، ولطالما احتفظ ساستها بعلاقات وثيقة مع روسيا ودافعوا عن التقارب معها.
ما كان لهذا الأمر أن يحدث في زمن المستشار السابق غيرهارد شرودر، عراب لوبي بوتين في ألمانيا، الذي وقع معه صفقة غاز نورد ستريم 1 المشبوهة حينما كان في السلطة. وما كان ليحدث قبل ستة أشهر في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، التي تنتمي إلى يمين الوسط، الذي يفترض بأنه أقرب إلى الولايات المتحدة والغرب منه إلى روسيا، وربما ما كان ليحدث اليوم لو كانت قد استمرت في السلطة، بدليل مواقفها السابقة الخجولة من احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية ومدينة أوسيتيا الجورجية، وتمريرها لخط غاز نورد ستريم 2 الذي جعل ألمانيا رهينة للغاز الروسي، ولقرارات حاكم نزق كبوتين، رغم تحذيرات الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين وتحفظهم على ذلك. ولو أن البعض يرى أنها لو كانت لا تزال في سدة الحكم كمستشارة، لما تجرأ بوتين على القيام بفعلته هذه، أو لكان قد تراجع عنها خلال الأيام الأولى لو كانت طلبت منه ذلك، لما يكنّه لها من احترام ورهبة كانت تبدو واضحة من خلال طريقة تعامله الخاصة جداً معها خلال زياراتها إلى روسيا، حيث كان يستقبلها بباقة ورد عملاقة، ويفرش لها مَمَر الكرملين بباقات من الورود التي تحبها. وهذا أمر إن كان يَدُل على شيء فعلى أن لألمانيا ثقلها الذي لا يعتمد بالضرورة على قدراتها العسكرية، لكن تعزيزها سيعززه، حتى لا يتجرأ أحد على اللعب بذيله معها، أو تهديدها ولو تلميحاً، كما فعل بعض زبانية بوتين في التلفزيون الروسي.
كل ذلك يؤكد أن زمن النهج السلمي الذي اتخذته ألمانيا في سياساتها العسكرية قد انتهى، في اليوم الذي حرك فيه بوتين دباباته لغزو أوكرانيا ووطئت مجنزراتها أرضها معلنة غزوه لها، لأنه نهج بات مثالياً أقرب إلى السذاجة، في زمن لا مكان فيه للمثاليات، ولا بقاء فيه للسذج. بالتأكيد لن يبدأ الألمان حرباً مع أحد، لكن رَدّهم سيكون موجعاً، وربما مدمراً، في حال تعرضوا لخَدش وليس لجُرح، وهو ما لا يريد أحد أن يجازف بتجربته، لأن عواقبه معروفة، والتاريخ الحديث خير دليل على ذلك.
العرب