“المصلحة” أساس للتعامل الثنائي: هكذا تُفكر دول الخليج في زيارة بايدن

“المصلحة” أساس للتعامل الثنائي: هكذا تُفكر دول الخليج في زيارة بايدن

أبوظبي – بمجرد أن أعلن البيت الأبيض في شهر مايو الماضي عن نية الرئيس الأميركي جو بايدن القيام بزيارة إلى منطقة الشرق الأوسط بين الثالث عشر والسادس عشر من يوليو 2022، وأنه سيلتقي في الرياض قادة دول مجلس التعاون الخليجي؛ سرعان ما أصبحت الزيارة هي الشغل الشاغل للمراقبين ولوسائل الإعلام في العالم. وتوالت التساؤلات حول أجندة هذه الزيارة وقضاياها والمخرجات المُتوقعة منها.

ومن أهم الأسئلة المطروحة بشأن زيارة الرئيس بايدن؛ ماذا ينتظر الخليجيون من مواقف أميركية تجاه منطقتهم؟ أو بمعنى آخر ما الذي سيطلبه الخليجيون من الرئيس الأميركي؟

وهذا التساؤل بالرغم من موضوعيته؛ كون الزيارة تأتي في لحظة تاريخية مهمة، فإن مجرد طرحه يعطي انطباعا قويا بأن العلاقات الخليجية – الأميركية لم تعد كما كانت؛ ثابتة وأُحادية الاتجاه ومطمئنة تماما بالنسبة إلى الأميركيين. وبالتالي فإن طرح السؤال يعكس على الأقل ضمنيا أن الطرف الخليجي استطاع أن يخلق لنفسه مساحة تُمكنه من المناورة خدمة لمصالحه. وبعبارة أوضح، بات الخليجيون أكثر مرونة في تعديل “بوصلتهم السياسية” وفق مصالحهم واحتياجاتهم من العلاقات مع الولايات المتحدة؛ الحليف التقليدي والاستراتيجي على مدى أكثر من نصف قرن، وأن العلاقة بدأت تشهد نوعا من “التوازن المصلحي”، مع الاعتراف الخليجي بمكانة واشنطن العالمية.

وثمة وجه آخر لدوافع التساؤل في ظل زيارة بايدن، وهي حالة “الشك” و”البلبلة” التي رافقت العلاقات بين الجانبين الخليجي والأميركي منذ عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما. وهذه الحالة تجددت في إدارة الرئيس الحالي منذ توليه الرئاسة في يناير 2021، حيث ردد مثلا تصريحات ضد السعودية. لذا فإن ما يطرحه البعض من مخاوف بشأن العلاقات الخليجية – الأميركية، بسبب اتجاه بعض دول الخليج إلى إقامة شراكات جديدة ومتنوعة مع قوى كبرى في العالم، لا يرتبط بالتوجه الخليجي في حد ذاته، وإنما يعود بالأساس إلى “التذبذب الأميركي” في إدارة نمط العلاقات مع دول الخليج.

ويُحسب للخليجيين في إدارتهم للأزمة مع واشنطن، أن توجههم للبحث عن حلفاء دوليين إلى جانب الحليف التقليدي، كان من منطلق رغبتهم في الحفاظ على أمن دولهم واستقرارها، وليس كإجراء ضد واشنطن، وأيضا من منطلق “الواقعية السياسية”، بعدما تأكدت نية الولايات المتحدة تجاهل عوامل استقرار المنطقة في أكثر من موقف، وذلك سواء بدعم “فوضى” ما يُسمى بـ”الربيع العربي” أو الاتفاق النووي مع إيران، وكان بايدن حينها نائبا للرئيس الأسبق أوباما. وهنا يجب التأكيد أن دول الخليج أثبتت قدرتها على مواجهة التحديات، بل والقيام بترتيبات إقليمية ودولية جديدة تؤكد للحليف الأميركي أنها قادرة على السير لوحدها وبعيدا عن واشنطن.

وعليه، عندما يأتي الرئيس الأميركي بنفسه إلى المنطقة ويطلب عقد لقاء مع قادتها ويُغيّر تصريحاته وقراراته التي كانت تقف حاجزا أمام التفاهم مع دول الخليج، فإن ذلك يعكس قوة الأسباب والدوافع التي دفعته إلى تغيير مواقفه، حيث تتطلب مصلحة بلاده هذا التحول الراهن. ولأن السياسة الأميركية لا تزال سياسة مؤسسات أكثر من أشخاص، فإن ذلك التراجع من بايدن يعني أن ثمة خطوات قد تمت، وجهودا بُذلت على مستويات أدنى في مراكز صناعة القرار الأميركي لوضع العلاقات بين الطرفين في مسارها السليم والمتوازن.

وهناك موقفان بارزان يمكن رصدهما في سياق دوافع زيارة بايدن للمنطقة، ويمكن توضيحهما في ما يلي:

الموقف الخليجي من الحرب الروسية – الأوكرانية، والذي فُسر بأنه أقرب لموسكو. إذ فُهم رفض دول الخليج تعويض غياب النفط الروسي في الأسواق العالمية، على أنه رسالة واضحة تؤكد تغريد دول الخليج “خارج السرب” الأميركي، وذلك بالرغم من إدراكها تأثير ذلك الموقف على السعر العالمي للنفط وتضرّر دول أوروبية وآسيوية حليفة للولايات المتحدة. وكان المغزى العميق من هذا الموقف الخليجي هو ضرورة أن تراجع واشنطن مواقفها السياسية تجاه الخليج، وإلا ربما يؤدي الأمر إلى تقليص قدراتها في الضغط على روسيا.

أما الموقف الثاني فهو الاستياء الخليجي من هشاشة ردة الفعل الأميركية تجاه الفوضى التي تقوم بها الميليشيات المدعومة من إيران في المنطقة، والتي تمادت إلى درجة تهديد الاستقرار الداخلي لدولها، خصوصا الاعتداءات الإرهابية الحوثية على المنشآت النفطية في السعودية ودولة الإمارات.

وظهر الاستياء الخليجي في عدة أشكال، من أهمها التطور في طبيعة العلاقات الخليجية مع خصوم الولايات المتحدة؛ وتحديدا الصين وروسيا، حيث توسعت العلاقات وتوطدت لتشمل مجالات كانت تحتكرها واشنطن، مثل عقود التسليح. ومن المنطقي أن يكون لهذه التحركات الخليجية صدى في واشنطن، حيث بدأ البيت الأبيض يُراجع حساباته تجاه منطقة الشرق الأوسط ككل، ودول الخليج بصفة خاصة. وهذا ما جسده تراجع إدارة بايدن عن مواقفها السابقة، بل واضطرار الرئيس الأميركي شخصيا إلى القدوم والاجتماع مع قادة دول المنطقة، فيما يمكن اعتباره محاولة لاسترضاء دول الخليج وتصحيح بوصلة السياسة الأميركية تجاهها.

◙ مرحلة التحالفات الأُحادية صارت جزءا من الماضي بالنسبة إلى دول الخليج، إذ أصبح عليها البحث عن مصالحها

وتتمثل أهم الملفات التي ستكون على طاولة الحوار الخليجي – الأميركي في تطورات النشاط النووي الإيراني، ومغامرات الحرس الثوري في تهديد استقرار المنطقة من خلال الصواريخ الباليستية والميليشيات التابعة له، بالإضافة إلى المحاولات الأميركية لإقناع دول الخليج بزيادة الإنتاج النفطي لوضع حد لارتفاع الأسعار بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية. والواضح أن بايدن بات يدرك ارتباط التجاوب الخليجي مع مطالب واشنطن، بأمرين اثنين هما كالتالي:

استصدار مواقف خليجية جديدة في هذه الملفات له ثمن سياسي لن يكون رخيصا، وعلى الإدارة الأميركية أن تدفعه أولا، وذلك بعد أن خسر الخليجيون كثيرا ودفعوا غاليا في الماضي بسبب خذلان “الحليف” لهم في لحظات فارقة كانت تمثل تهديدا حيويا ليس للخليج فقط، بل للدول العربية كلها.

كما أن التدخل في الشأن العربي كخطوة تمهيدية للتدخل في الشأن الخليجي تحت عناوين مختلفة، سواء حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو الحريات الشخصية، لم يعد مقبولا في العالم العربي كله وليس الخليج فقط. فقد كانت نتائج تلك التدخلات والمزاعم كارثية في اليمن وليبيا وسوريا والعراق. وكاد الأمر يشمل دولا عربية أخرى تمثل ثقلا استراتيجيا في الأمن القومي العربي، لولا وقوفها، وعلى رأسها دول الخليج، بحزم وقوة أمام سياسة الوصاية الأميركية.

ومحصلة الأمرين أن دول الخليج حاليا تمر بفترة من الهدوء والاستقرار والازدهار والقوة، ولها أن تنعم بذلك وتجني ثمار ما بذلته من جهود وتحركات خلال أكثر من عقد.

ووفق ما تم طرحه، فإن “البراغماتية السياسية” التي تعكس النضج في إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة، ستكون هي جوهر الموقف الخليجي في زيارة بايدن. وبالتالي ستجد واشنطن نفسها مُطالبة بتحمل مسؤولياتها المُقررة بموجب اتفاقات وتفاهمات سابقة تقتضي تبادل المصالح والالتزامات، خاصة في لحظات الاضطرابات التي باتت سمة العالم والمنطقة.

وستتم مواجهة الرئيس بايدن بالتداعيات السلبية التي نجمت عن الاتفاق النووي السابق لعام 2015، وما تلاه من نتائج وتحركات إيرانية مباشرة وغير مباشرة؛ كانت سببا رئيسيا في زعزعة استقرار المنطقة. وبما أن المشهد الإقليمي الآن يتضمن احتمالات حقيقية لامتلاك طهران سلاحا نوويا، فضلا عما لديها من ترسانة صواريخ باليستية تهدد بها دول المنطقة؛ فإن استقرار الإقليم يستلزم وقفة أميركية جادة وعملية، وهو ما يجب أن يضعه بايدن نُصب عينيه وأن يعمل عليه، وإلا ستصير زيارته للمنطقة بروتوكولية لا أكثر.

وقد اختارت الولايات المتحدة في أكثر من موقف، منطق المصلحة الكاملة والمتجردة من أي قيود أو اعتبارات أخرى ولو موضوعية. فهي فعلت ذلك في إعلان الانسحاب من العراق فجأة بعد عام 2011 وحتى 2014 وتسببت في ظهور تنظيم داعش، ثم كررت الأمر في عام 2021 بالانسحاب من أفغانستان فأدت إلى عودة عدم الاستقرار في المنطقة. ثم سمحت واشنطن وسكتت عن اعتداءات إرهابية مباشرة قامت بها أذرع إيران ضد دول الجوار.

والمُتوقع أن تضع دول الخليج هذه التحديات على الطاولة، قبل أن يعيد بايدن تكرار الحديث “المُنمق” عن الالتزام الأميركي بأمن دول المنطقة، وكذلك قبل أن يطرح المطالب الأميركية من الخليج، حيث لا يوجد مكان هذه المرة لأي تغاض أو صمت خليجي مع حليف تهرب أكثر من مرة مما يجب فعله لحماية حلفائه.

وليس جديدا أن زيارة الرئيس بايدن للمنطقة تؤكد عمق العلاقة التاريخية للطرفين، وأنه سيسعى خلالها لتذويب جدار الجليد السياسي الذي أقامته آخر إدارتين ديمقراطيتين. ومن المُسلم به أن قائمة المصالح بينهما كبيرة ولا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها بسهولة، بعد تراكمها على مر عقود وتوسعها.

◙ الخليجيون باتوا أكثر مرونة في تعديل “بوصلتهم السياسية” وفق مصالحهم واحتياجاتهم من العلاقات مع الولايات المتحدة

لكن الجديد والمُتوقع بشدة من هذه الزيارة، أنها ستكون “نقطة تحول” باتجاه إدارة للعلاقات أكثر براغماتية من الجانبين الأميركي والخليجي، وأن تُرسخ “المصلحة” كأساس للتعامل الثنائي، مع وجود مساحة ومرونة في التحرك الخليجي مع الدول الكبرى الأخرى، خاصة أن دول الخليج مهّدت الطريق لإحداث نقلة نوعية في علاقاتها الدولية وسياساتها الخارجية في الإقليم والعالم.

وعليه، يمكن القول إن زيارة بايدن لن تكون روتينية أو لفرض أجندات، بل لم يعد سرا أن دول الخليج التي رتبت علاقاتها الدولية والإقليمية مع العديد من الدول، لن تتخلى عنها بسهولة، ولن تتنازل عن مكاسب حققتها، خاصة بعدما عانت مواقف الحليف الأميركي في أكثر من حالة.

وحيث أن المخرجات هي التي ستوضح الملامح المستقبلية للعلاقات الأميركية – الخليجية، خاصة في الملفات التي تقلق الخليجيين ولها علاقة بالاستقرار الداخلي والإقليمي؛ فإن الأمر يحتاج من الرئيس بايدن إثبات حُسن نوايا إدارته تجاه العلاقات مع دول الخليج، وهو ما يتطلب بالتالي أن يجتهد عمليا من أجل الحفاظ على قوة واستمرارية تلك العلاقات.

بمعنى آخر، فإن الرئيس بايدن يخطئ لو كان يظن أنه قادم إلى المنطقة ليجتمع بقادة دول الخليج والمنطقة العربية، فقط ليطرح عليهم مطالب أو ليستعين بتلك الدول في أزمة أوكرانيا أو تهدئة أسعار النفط أو لإيجاد ترتيبات إقليمية جديدة برعاية أميركية؛ بل عليه تحضير نفسه قبل طرح أي من تلك المطالب، لأن يسمع مطالب دول المنطقة خصوصا الخليج، والأهم أن يكون مُستعدا لتنفيذها بإجراءات عملية وليس بمجرد تصريحات ووعود كلامية.

ختاما، يمكن القول إن مرحلة العلاقات الثابتة والتحالفات الأُحادية والحصرية صارت جزءا من الماضي بالنسبة إلى دول الخليج، إذ أصبح عليها أيضا البحث عن مصالحها وتحقيقها واتخاذ الاحتياطات اللازمة وفق منطق “لا تضع كل البيض في سلة واحدة”، وقد أثبتت الوقائع والأحداث مرارا أن هذا هو المنطق السليم في إدارة العلاقات بين الدول.

العرب