تمتلك إيران أوراقا عدّة تستطيع استخدامها في المفاوضات مع الإدارة الأميركيّة من أجل عقد صفقة تسمح بالتخلّص من العقوبات المفروضة عليها. الأهمّ من ذلك كله، اعتقاد “الجمهوريّة الإسلاميّة” أنّ الوقت يعمل في مصلحتها. ليس معروفا هل الأوراق الإيرانيّة ما زالت كافية لفرض اتفاق بشروط محدّدة على أميركا. كذلك، ليس معروفا هل الوقت يعمل في مصلحة الجانب الإيراني أم لا… بعد مضي سبعة أعوام كاملة على الاتفاق الذي وقعته “الجمهوريّة الإسلاميّة” مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا، أي مع البلدان الخمسة ذات العضويّة الدائمة في مجلس الأمن زائدا ألمانيا.
كلّ ما في الأمر أنّ العالم تغيّر، لكن إيران ترفض الاعتراف بذلك وترفض أن تتغيّر. بالنسبة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة”، توقف العالم عند الذي حصل في العام 2015.
في الواقع، تغيّر العالم منذ توقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني في عهد الرئيس باراك أوباما الذي كان منحازا كلّيا إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” ويميّز بين التطرف الديني لدى السنّة وبين التطرف لدى إيران وميليشياتها المذهبيّة المنتشرة في كلّ أنحاء المنطقة. لم يكن أوباما الواقع تحت تأثير عدد من مستشاريه المعجبين بإيران، من أمثال فاليري جاريت، يرى أن الإرهاب الديني السنّي والشيعي وجهان لعملة واحدة. كان أوباما عاجزا عن إدراك أنّ لا فارق بين ممارسات “داعش” والميليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن…
تغيّر العالم بين 2015 و2022، إلى درجة أن إيران التي جاءت بروسيا إلى سوريا كي تحول دون سقوط النظام الأقلّوي فيها، استعادت المبادرة في سوريا. باتت روسيا في حاجة إلى إيران وميليشياتها في سوريا وذلك كي تثبت أنّها ما زالت موجودة في هذا البلد وعلى شاطئ البحر المتوسّط.
لا يشبه عالم 2022 عالم 2015، خصوصا بعدما قررت روسيا غزو أوكرانيا، أي فرض هيمنتها على أوروبا. تكفي نظرة إلى موقع أوكرانيا في الخريطة للتأكّد من أن كلّ دولة في أوروبا باتت تشعر بأنّها مهدّدة. عندما تدخلت روسيا في سوريا بطريقة مباشرة وانضمّت إلى الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري في العام 2015، لم يعر العالم ما قامت به أيّ اهتمام. لا يهمّ العالم من الذي يدور في سوريا ما دام الضحايا من السوريين وما دام المطلوب إسرائيليا ألّا تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام. كان المطلوب أمرا واحدا هو أنّ تسهّل روسيا الضربات الإسرائيلية الموجهة إلى أهداف إيرانيّة أو إلى ميليشيات تابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني… في سوريا. كلّ ما عدا ذلك كان مجرد تفاصيل، إن بالنسبة إلى أميركا أو بالنسبة إلى إسرائيل.
عالم 2022 لا يشبه عالم 2015 خصوصا بعدما قررت روسيا غزو أوكرانيا، وتكفي نظرة إلى موقع أوكرانيا في الخريطة للتأكّد من أن كلّ دولة في أوروبا باتت تشعر بأنّها مهدّدة
في عالم، باتت فيه الولايات المتحدة في حاجة إلى استقرار في منطقة الخليج الغنيّة بمصادر الطاقة، يصعب على إيران استيعاب أنّ ليس في استطاعتها عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي من دون أن تأخذ في الاعتبار أن دول المنطقة كلّها تشكو من سلوكها. تشكو من ميليشياتها ومن صواريخها الباليستية وتشكو من طائراتها المسيّرة التي استهدفت مواقع لما يسمّى “الشرعيّة” في اليمن كما استهدفت الأراضي السعوديّة والإماراتيّة في مرحلة معيّنة.
لعلّ أهمّ ما ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاعتراف به أنّ ليس في استطاعتها تجاهل إرادة أهل الخليج العربي ومدى تأثير هذه الإرادة على القرار الأميركي. لم يعد ممكنا لأيّ إدارة أميركيّة غض النظر عن موقف السعوديّة ودول الخليج العربي عموما. باتت العلاقة بين الجانبين علاقة أخذ وردّ، خصوصا أنّ لدى أهل المنطقة من العرب وجهة نظرهم في كلّ شاردة وواردة في هذا العالم، بما في ذلك طريقة التعاطي مع الصين.
نعم تغيّر كلّ شيء في العالم. لكنّ إيران ترفض أن تتغيّر. لا تزال تعتقد أن أميركا مستعدة للرضوخ لشروطها وأن جو بايدن ليس سوى جيمي كارتر أو باراك أوباما آخر. ضاع جيمي كارتر في العام 1979 بمجرد احتجاز السلطات الإيرانيّة لدبلوماسيي السفارة الأميركيّة في طهران. استمر ذلك 444 يوما. كشف كارتر ضعف أميركا بدل أن يثبت مدى قوتها وحزمها. أمّا باراك أوباما فقد أمضى عهده يسترضي “الجمهوريّة الإسلاميّة” بعدما اعتقد أن الملف النووي الإيراني يختزل كلّ أزمات المنطقة ومشاكلها.
قد يكون جو بايدن شبيها بجيمي كارتر أو باراك أوباما، لكنّه عاجز عن البقاء في أسر اللعبة الإيرانيّة المعروفة. لم يعد قادرا، بكل بساطة على تجاهل الخليج ورغبات أهله. لذلك جاء إلى السعودية على الرغم من كلّ ما صدر عن إدارته ورجالها من مواقف تعبّر عن جهل كبير بأهمّية المنطقة وموقعها في العالم.
تغيّر الكثير منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. استطاعت إدارة بايدن التأقلم مع هذا التغيير. ثمّة من قال لها عبارة “إنّه النفط أيها الغبي”. لم يعد من مجال لتفادي النفط وأهمّية النفط وضرورة مساعدة أوروبا على التخلي عن مصادر الطاقة التي مصدرها روسيا ما دام فلاديمير بوتين في السلطة.
تكمن أهمّية أميركا في قدرتها على التأقلم السريع مع ما يدور في العالم. في الأمس القريب، كان همّ بايدن الخروج من الشرق الأوسط والخليج والتركيز على الصين وكيفية مواجهتها. جاء فلاديمير بوتين، في ضوء غزوة أوكرانيا، ليعيد الاعتبار إلى مفاهيم قديمة. في مقدّم هذه المفاهيم أنّ لا بديل من الخليج. سيحاول من دون شكّ إعادة بناء علاقة استراتيجية مع المملكة العربيّة السعوديّة ممثلة بالملك سلمان ووليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان. سيحاول أيضا توسيع العلاقة لتشمل دول المنطقة العربيّة كلها، بما في ذلك دول مجلس التعاون والأردن ومصر. لم يستبعد العراق الذي سيكون حاضرا، على الرغم من وقوعه تحت الهيمنة الإيرانيّة. هناك باختصار معادلة إقليمية ودولية جديدة تتعاطى معها أميركا بطريقة عملية في حين ما زالت إيران أسيرة مفاهيم قديمة لا علاقة لها بعالم ما بعد الحرب الروسيّة على أوكرانيا!
العرب