بعيدا عن حجم التوقعات التي كانت كبيرة، صدر البيان الختامي للقمة العربية الأمريكية، ولم يأت بأي شيء جديد، وخلا تماما من أي مفاجآت من الناحية السياسية، ومن ناحية ثقل وزن الملفات التي طُرحت في القمة. ثقل المؤتمر كان في الصورة وليس في الجوهر، فالصورة أثارت الكثير من التساؤلات عن سبب عدم استقبال ولي العهد السعودي للرئيس الأمريكي كما حدث مع الزعماء الآخرين، ولماذا كانت المصافحة بقبضة اليد وليس بالأحضان كما فعل مع غيره؟ وتأسيسا على ذلك انطلقت التخمينات التي تقول بأن الصورة كانت فيها رسائل مبطنة، وهي إشارات مباشرة تخص العلاقة ما بين الرياض وواشنطن. وبعيدا عن هذا وذاك يبقى السؤال الأهم هو، ما هي المطالب التي حملها جو بايدن إلى القمة وإلى السعودية بالذات؟
قيل إن الرئيس الأمريكي كان عازماً على نقل العلاقات السعودية الأمريكية من خانة البرودة التي تسبب بها هو، حين هاجم المملكة ووصفها بأشنع الأوصاف في حملته الانتخابية، إلى حالة المستوى الطبيعي التي كانت عليه. وكانت التوقعات تشير إلى أن أولى الخطوات في سبيل ذلك هو النظر في رفع حضر بيع الأسلحة الهجومية الى الرياض. كما قيل إنه سيناقش إنشاء «ناتو شرق أوسطي» لمعالجة التهديدات الإيرانية في المنطقة، لكن بيت القصيد في زيارة بايدن كان الهدف الرئيسي من ورائها هو تحقيق تقدم على مستويين، الأول هو زيادة إنتاج الطاقة من أجل تخفيض سعر الوقود بالنسبة للمستهلك الأمريكي، والثاني إن لم يكن ضم السعودية إلى التحالف الهادف الى تطويق روسيا، فعلى الأقل تخفيف الارتباط ما بين الرياض وموسكو.
صحت الولايات المتحدة على حقيقة حصول خطأ في تفكيرها الاستراتيجي، عندما تصورت أن استغناءها عن نفط الشرق الأوسط يجعلها في حل من الاهتمام بالمنطقة
هذان هما الملفان الرئيسيان اللذان يحظيان بأهمية كبرى بالنسبة لبايدن، وما عدا ذلك إنما هو محاولات للإغراء والاستمالة والاستقطاب. صحيح أن الملفات التي تم الحديث عنها، والتي وردت في خطب وتصريحات المشاركين في القمة مهمة، لكن إن لم تحصل الإدارة الامريكية على نتيجة في الملفين الاساسيين، فإن كل الأشياء الأخرى تعتبر مناورات لن تؤدي إلى شيء يذكر، لكن ماذا عن الناتو العربي، أو «الناتو الشرق أوسطي»؟ برز هذا الموضوع بشكل كبير في التغطية التي سبقت الزيارة وأثنائها كذلك، حيث تتعرض الولايات المتحدة الأمريكية لضغوط عربية وإسرائيلية هائلة للتعامل مع الملف الإيراني، إلى حد أن الكثيرين كانوا يظنون أن واشنطن سترسم ملامح استراتيجية متماسكة، من بين مفرداتها إقامة حلف عربي ـ شرق أوسطي تشارك فيه إسرائيل لمواجهة النفوذ الإيراني. لكن ما غاب عن بال الكثيرين هو، أن السير في هذا الاتجاه مجازفة أمريكية. بمعنى أنه إذا شجع بايدن قيام هذا الحلف الأمني، فإنه يعطي رسالة واضحة للإيرانيين بأنه لم يعد بتلك الجدية في معالجة الملف النووي دبلوماسيا، في حين هذا خياره الأول قبل دخوله البيت الأبيض وبعده. كما أن تخليه عن النفس الدبلوماسي في هذا الملف، فإنه ربما يُسلّم مقود العربة إلى الإسرائيليين، أو ربما إلى بوتين في هذا الفعل، في ضوء زيارة الأخير إلى طهران وسعيه لتشكيل تحالف معها. صحيح أن بايدن تحدث عن ما سماه منظومة الأمن الجماعي، في نص الخطاب الذي ألقاه في مطار بن غوريون، لكن ما يجب الإشارة إليه هو، ليس كل ما يقوله الأمريكيون في حضرة إسرائيل يمكن أن يُترجم إلى حقيقة. الغرام السياسي يأتي في بعض الأحيان لإراحة الطرف الآخر وحسب.
يعرف الأمريكيون جيدا أن كل الحكومات الإسرائيلية تريد قصف إيران اليوم قبل الغد، في حين أن الأمريكيين لديهم أمل كبير في حل الملف النووي بالدبلوماسية، خاصة أن الاقتصاد السياسي بات حاضرا وبقوة في هذه الأيام، حيث الحاجة إلى النفط والغاز الإيراني والنفط والغاز العربي.
يبدو واضحا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شعرت أخيرا بأن أبتعادها عن منطقة الشرق الاوسط، دفع كلا من الصين وروسيا للتغلغل فيها. ولأن السياسات الغربية براغماتية النبرة، فإن إذابة الجليد وتوحيد السياسات باتت لها الأولوية لدى صانع القرار في واشنطن. وهنا تبدو القمة العربية ـ الأمريكية التي عقدت في جدة مؤخرا، هي جهد أمريكي خالص لاستعادة المسك بزمام الأمور، خاصة مع الرياض، لأسباب نفطية وجيوسياسية وتاريخية أيضا. لكن ما بدا واضحا أن الأولويات بين جميع هذه الاطراف مختلفة، فالولايات المتحدة أولويتها اليوم النفط ومواجهة روسيا والصين، وإسرائيل أولويتها هي مواجهة إيران. أما دول الخليج فيبدو أن رؤيتهم باتت قائمة على أساس البحث الجدي عن المصالح، خاصة أن هذه الدول قد شكّلت مصالح جديدة لها مع الآخرين، في ظل غياب واشنطن عن منطقة الشرق الأوسط، الذي عزز فكرة عدم الثقة بها. وهذا الاختلاف في الأولويات قد يتسبب بتأخر ظهور النتائج المرجوة إلى مدى ليس قريبا، ولن تكون التغيرات المطلوبة التي تأملها كل الأطراف سريعة التحقق على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال، زيادة إنتاج النفط الذي تستميت الولايات المتحدة في طلبه لن يُحسم الآن، لأنه مرتبط بأطراف دولية أخرى في «أوبك بلاس». كما أن موضوع الأمن الإقليمي فيه مجرد كلام، لا نرى له على أرض الواقع ما يقابله. وفي الحقيقة أنه موضوع أصعب بكثير مما يراه الكثيرون، بسبب حالة انعدام الثقة.
لقد طُرحت فكرة إنشاء منظومة أمن خليجية مشتركة بعيدا عن إسرائيل، وعن أي دول أخرى، من قبل الرئيس السابق ترامب في عام 2018، لكنها فشلت نتيجة الشكوك الكثيرة بين دول الخليج نفسها. إذن كيف يمكن أن نتحدث عن نظام أمن إقليمي يشمل دول الخليج، إلى جانب مصر والأردن والعراق وإسرائيل، فيما الخليج خرج توا من أزمة كبيرة كانت قد عصفت به. إنه حلم إسرائيلي، وهم من يروجون له، لكن بعد نتائج قمة جدة الأخيرة يبدو أن هذا الموضوع بات على الرف في الوقت الحاضر. مع ذلك فالإسرائيليون سعداء بتطور علاقاتهم بشكل سريع جدا مع دول الخليج، على الرغم من أنها علاقات على مستوى ثنائي وليست على مستوى جماعي، كما كانوا يأملون. والمفارقة الكبرى والشيء الغريب حقا أن البعض يتحدث عن وجود العراق داخل منظومة الأمن الجماعي، بينما هو محسوب على المحور الإيراني.
لقد صحت الولايات المتحدة على حقيقة حصول خطأ في تفكيرها الاستراتيجي، عندما تصورت أن استغناءها عن نفط الشرق الأوسط يجعلها في حل من الاهتمام بشؤون المنطقة. فوجدت أن دول الخليج بدأت تصدر نفطها إلى شرق آسيا، من دون أن تكون مقابل هذه المصالح التجارية علاقات أمنية، لكن عندما بدأ هذا الجانب يتطور ووقفت دول الخليج بعيدا عن صراعات واشنطن الدولية، ولم تلتحق بها كالعادة في أي ساحة، وفي مواجهة أي عدو، أصابها القلق وانتبهت إلى هذا الخطأ، لذلك رأينا تركيز بايدن على أنه عاد إلى المنطقة.. لماذا؟ لأنها باتت بيضة القبان في هذا الصراع الاستراتيجي الكبير الدائر بين واشنطن وحلفائها من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى.
القدس العربي