تبدو العلاقات التركية الإيرانية جيدة، فعلى الرغم من وجود كثير من الاختلافات حول الشؤون الإقليمية، إلا أن الطرفين كانا قادرين على التعايش السياسي. كان للنواحي الاقتصادية والتجارية الأولوية، فبينما كانت إيران تحتاج شريكاً قويا في ظل ما تعيشه من حصار، كانت تركيا بدورها تحتاج للسوق والاستثمارات ولمصادر الطاقة والغاز الإيرانية. أدت هذه الشراكة لرفع حجم التجارة بين البلدين من مليار دولار في عام 2000 إلى16 مليار دولار في 2011 ، كما جعل طهران تتعامل مع أنقرة كبوابة ووسيط تجاري محتمل بينها وبين دول أوروبا.
تركيا، التي يطلق بعض مسؤوليها من وقت لآخر تصريحات ناقدة للسياسات الإيرانية، كانت تحاول مع ذلك، أن تفرق بين السياسة والاقتصاد، وأن توجد تحالفاً منطلقاً من المصالح المشتركة. هذه المعادلة لم تكن سهلة، فالتعامل مع دولة مثل إيران معقد، وقد مرت العلاقة بين البلدين بالفعل بسلسلة من المطبات، كان آخرها ما حدث في الشهر الماضي من تفكيك لخلية إيرانية مكونة من مجموعة من العملاء، الذين كانوا ينوون تنفيذ عمليات اغتيال داخل الأراضي التركية.
حوت الشبكة عددا من المتخفين بهيئة طلاب وسياح ورجال أعمال إيرانيين، تحدثت الأخبار عن نية استهداف شخصيات إسرائيلية وهذا لا يوفر أي تبرير للقيام بمثل هذه الأعمال على أراضي دولة ثالثة، وإن تم ذلك بغرض الانتقام لمقتل شخصيات وقيادات عسكرية إيرانية. العمليات الإيرانية لم تقتصر على محاولة استهداف إسرائيليين، حيث تنشط شبكات التجسس الإيرانية بشكل فاعل داخل الأراضي التركية، وسبق أن نجحت في اغتيال شخصيات إيرانية. هكذا لا تكون المحاولة الإيرانية الإرهابية الأخيرة هي الأولى أو الوحيدة، وللتذكير، فقد تم الكشف في فترات سابقة عن مجموعات وخلايا، كما ثبت تورط دبلوماسيين إيرانيين في عمليات مشابهة. هذا كله كان يتم وغض الطرف عنه وتم التعامل معه باعتبار أنه حدث شاذ، يجب أن لا يسيء للعلاقة الوطيدة بين البلدين. تمتلك إيران قدرة تحسد عليها في ما يتعلق بخسارة الأصدقاء والمتعاطفين، وخير مثال لهذا هو سياستها في لبنان وفي السودان، ففي لبنان، الذي وظفت به جناحها «حزب الله»، الذي كان يحظى بالكثير من الاحترام باعتباره واجهة للمقاومة، قبل أن يتدخل في سوريا ويبتلع السياسة اللبنانية، تحولت إيران في نظر الغالبية لأحد المتهمين بالتسبب في الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد. أما السودان، الذي كان دخل معها في علاقات عسكرية استراتيجية استمرت لسنوات طويلة، فإنه ما لبث أن اكتشف أن هذه العلاقة تشكل مهدداً لأمنه، ليس فقط لكونها كانت على حساب علاقاته الخليجية، لكن لأنها لم تمنع إيران من ممارسة التشييع في السودان السني، ما أدى في النهاية لقطع العلاقات معها. العلاقة الإيرانية مع تركيا لم تخلُ من فوضى مشابهة، فلم يمنع التشارك الاقتصادي ووقوف تركيا إلى جانب إيران في أزماتها وتحولها لما يشبه رئة تنفس للاقتصاد الإيراني، المجموعات الشيعية المسلحة في العراق من إعلان تركيا هدفا لها. ذلك حدث في سوريا أيضا، حيث اتضح أن هناك تنسيقا بين المجموعات الإيرانية ومجموعة «بي كي كي» الكردية لمواجهة الجيش التركي.
وجود تنافس إقليمي بين إيران وتركيا مفهوم، فهما يتقاطعان في المساحات الجغرافية ذاتها، كما يشتركان في الأصول العرقية
وسط كل ذلك يكتفي الجانب الإيراني بالتنصل من المسؤولية، أو الإنكار والحديث عن حسن النوايا، كما لا يجد حرجاً في تقديم مبادرة كتلك التي قدمها في عام 2019 ، والتي أطلق عليها اسم «هرمز» داعياً دول المنطقة للحوار وتشكيل منبر للدفاع المشترك، وهي مبادرات لم تجد أذناً صاغية من قبل دول المنطقة التي عانت، وما تزال، من التخريب والتهديد الإيراني.
مثل هذا السلوك هو ما دعا كثيرين لدعم الاتفاق النووي، باعتبار أنه سيؤدي، وفق ما كان مأمولاً، لتوقف إيران عن محاولات التدخل العسكري والاستخباراتي، الذي حدث هو أنه ومنذ توقيع الاتفاق في2015 ، فإن السياسة الإيرانية لم تتغير، بل على العكس، بدا وكأنها تقوّت أكثر عبر هذا الاتفاق، وما كان يتيحه من اندماج على صعيد دولي من أجل الاستمرار في تهديد أمن المنطقة، بما يشمل حلفاء مفترضين لها، كتركيا.
في ما يتعلق بتركيا فإن أول نتائج الممارسات الإيرانية هي التأكيد على أنها ليست حليفاً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه على المدى البعيد، وهذا يعني وجوب البحث عن خيارات بديلة، أو موازية، أما النتيجة الثانية فهي دفع أنقرة للانخراط في علاقة أكثر قوة مع تل أبيب بعد سنوات من الجمود، فعلى العكس مما يرجوه الإيرانيون، لا تقود هذه الأفعال لتحجيم العلاقة التركية الإسرائيلية، بقدر ما تدفع إلى تعزيز التنسيق الأمني والعسكري، جاعلة كثيراً من الأتراك على قناعة بأن إيران تشكل التهديد الإقليمي الأبرز لبلادهم. إن وجود تنافس إقليمي بين كل من إيران وتركيا مفهوم، فهما يتقاطعان في المساحات الجغرافية ذاتها، كما يشتركان في الأصول العرقية، وهو ما يتكرر بين كثير من الدول الكبرى المتجاورة. هذا التنافس الحميم قديم، ولعله يعود إلى الزمن الذي كانت إيران تمثل فيه الدولة الصفوية بينما كانت تركيا تمثل السلطنة العثمانية. صحيح أن هذه العلاقة لم تخلُ من صراعات وحروب، لكنها لم تكن تخلو أيضا من تفاهمات وتعاون. بعد نجاح الثورة الخمينية تكررت الاحتكاكات، فالخميني كان يرى في تركيا السنية العلمانية والمتمتعة بعلاقة جيدة مع سلطة الاحتلال في فلسطين نقيضاً لمشروع الدولة الدينية الشيعية الذي تبناه. ظهر هذا التناقض في أحداث تاريخية من قبيل زيارة رئيس الوزراء الإيراني المتشدد حسين موسوي لأنقرة في 1987، حين رفض أن يشمل برنامجه الزيارة البروتوكولية لضريح مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، ما تسبب في استياء الصحافة التركية آنذاك. المشكلة، مع كل هذا، ليست هنا، وإنما في كون أن هذا التنافس الطبيعي في الجيوبوليتيكا العادية يمتد ليشمل في الحالة الإيرانية تنفيذ اغتيالات وتدخلاً عسكرياً ومحاولة للسيطرة السياسية.
هذا كله لا يعني أن هناك نية تركية لتجميد العلاقة مع إيران، فما يزال البلدان مرتبطان بمصالح وتفاهمات يصعب القفز عليها، وعلى رأس ذلك المسألة السورية. يؤكد هذا انعقاد قمة طهران التي ستجمع الثلاثاء رؤساء كل من روسيا وإيران وتركيا.
تنعقد القمة في وقت شديد الحساسية بالتزامن مع زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة وحالة التحشيد الإقليمي ضد إيران، وعلى الرغم من فضيحة العملاء الإيرانيين، إلا أن حضور الرئيس التركي سوف يؤكد على أن أنقرة لم تفقد الأمل ولم تنخرط بعد في أي تحالف مضاد لإيران. يتوقع أن تخدم القمة مصالح الدول الثلاث، روسيا وإيران اللتين تحتاجان لإثبات وجودهما الدبلوماسي، وتركيا التي تتأهب لإطلاق عمليتها العسكرية شمال سوريا وتحتاج من أجلها لتنسيق إقليمي. بشأن العلاقة مع إيران، هي تظل تحدياً كبيراً، لكن تركيا، بما تمتلكه من خبرة تاريخية تمتد لقرون طويلة من التعامل مع جارتها صعبة المراس، تبدو قادرة على احتواء الفوضوية الإيرانية. إن كانت الظروف تبدو اليوم صعبة، فهي لن تكون أصعب من وقت توقيع البلدين لاتفاقية الحدود المشتركة، معاهدة قصر شيرين في 1639، التي جاءت بعد خمسة عشر عاماً من الصراع العسكري وظلت موادها فاعلة وحاسمة للخلاف حتى اليوم.
القدس العربي