هُناك بون شاسع بين الهالة الإعلامية التي رسمتها وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الأمريكية وما أوجدته من توقعات بشأن زيارة الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل والضفة الغربية والسعودية خلال الفترة 13-17 يوليو 2022، وبين النتائج التي تحققت في العلاقات مع الجانب العربي. ويصدُقُ ذلك على المستوى الثنائي في العلاقات الأمريكية مع السعودية، وكذلك على المستوى الجماعي، وما أسفرت عنه “قمة جدة للأمن والتنمية” التي شارك فيها قادة 9 دول عربية.
مكاسب إسرائيلية:
طرح الرئيس بايدن أربعة أهداف من وراء زيارته لمنطقة الشرق الأوسط، أشار إليها في مقالته التي نشرها بصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية يوم 9 يوليو الجاري بعنوان: “لماذا أذهب إلى السعودية؟”، وفي التصريحات العديدة له، ولوزير خارجيته بلينكن، ولمستشاره للأمن القومي سوليفان؛ وهي عدم سماح واشنطن بوجود فراغ في المنطقة تملؤه الصين وروسيا، وإقامة تجمُع وتنسيق عسكري جوي بين دول المنطقة بما فيها إسرائيل ضد التهديد الإيراني للأمن الإقليمي، والعمل على دمج إسرائيل في منظومة العلاقات الإقليمية وتفاعلاتها والبناء على ما تحقق في الاتفاقيات الإبراهيمية، وإقناع دول الخليج لإنتاج المزيد من النفط والغاز لتعويض النقص الذي سببته الحرب الروسية في أوكرانيا.
وإذا قارنا هذه الأهداف بما أسفرت عنه الزيارة، فسوف نجد أن الشق الإسرائيلي منها قد أحرز قدراً كبيراً من النجاح، وهو ما كان مُتوقعاً في ضوء ما صرح به بايدن أكثر من مرة وكرره خلال الزيارة من “أنك لا تحتاج أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً”؛ في إشارة إلى نفسه. فتم التوقيع على ما سُمي “إعلان القُدس” والذي جددت فيه واشنطن التزاماتها بدعم أمن إسرائيل، كما أكدت الولايات المتحدة – وفقاً لنص الإعلان- أن “هذه الالتزامات مدعومة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وليست مجرد التزامات أخلاقية، بل أيضاً التزامات استراتيجية ذات أهمية حيوية للأمن القومي الأمريكي”. وجددت الولايات المتحدة في الإعلان التزامها بعدم امتلاك إيران السلاح النووي والعمل المُشترك مع إسرائيل لتحقيق هذا الهدف.
وفي المجال العلمي والتكنولوجي، “أطلق القائدان حواراً استراتيجياً جديداً رفيع المستوى، لتشكيل شراكة تكنولوجية بين البلدين في التقنيات الحاسمة والناشئة”. وفسر المُراقبون ذلك بأنه إشارة إلى التعاون الأمريكي – الإسرائيلي في مجال الاستخدام العسكري لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لدعم منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية ضد الهجوم بالصواريخ والطائرات المُسيّرة.
ومع أن الطرفين الأمريكي والإسرائيلي التزما بمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، فإنه ظهر التباين بينهما بشأن كيفية تحقيق ذلك. فبينما ركز رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، على استخدام القوة العسكرية لردع إيران، فإن الرئيس بايدن أعطى الأولوية للمفاوضات والعمل الدبلوماسي والضغوط الاقتصادية، على أن تكون القوة العسكرية هي الملاذ الأخير.
وفي الشق الخاص بالضفة الغربية، كان الخلاف واضحاً بين الموقفين الأمريكي والفلسطيني، فجاءت إشارة بايدن إلى التزام إدارته بحل الدولتين “عامة وناقصة”؛ فلم يذكر أن تكون الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل يونيو 1967 أو أن عاصمتها القُدس. ولم يطرح خطة عمل أو مساراً دبلوماسياً لتحقيق هذا الهدف، بل ذكر صراحةً أن الظروف الحالية لا تحبذ هذا الحل. ولم يتخذ بايدن موقفاً تجاه طلب الرئيس الفلسطيني بعودة القنصلية الأمريكية في القُدس الشرقية للعمل، وإلغاء اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية.
من جهته، ركز بايدن على الجوانب الإنسانية والاقتصادية لحياة الفلسطينيين، وأعلن عن تقديم دعم مالي للمُستشفيات الفلسطينية بمبلغ 100 مليون دولار، ولوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بـ 200 مليون دولار.
تباين أمريكي – عربي:
بالنسبة لـ “قمة جدة للأمن والتنمية” التي جمعت بايدن بتسعة من قادة الدول العربية، فقد أظهرت الاختلاف بين الرؤيتين الأمريكية والعربية. فعلى سبيل المثال، فإنه إزاء التجاهُل الأمريكي للمُشكلة الفلسطينية، ركزت جميع كلمات القادة العرب من دون استثناء في المؤتمر على أنه لا أمن ولا استقرار في المنطقة من دون حل هذه المُشكلة في ضوء قرارات الشرعية الدولية، وانتقد بعضها سياسات إسرائيل الاستيطانية والتمييزية في الأراضي المُحتلة.
ولم يُشر أي زعيم عربي في كلمته بالقمة إلى فكرة إنشاء تجمُع عسكري ضد إيران، بل أشارت كلمتا ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وولي العهد الكويتي، الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، إلى رغبة العرب في إقامة علاقات أفضل مع إيران ودعوتها إلى الاستجابة لذلك، ووصفها ولي العهد السعوي بأنها “دولة جارة”. وجدير بالذكر أنه قبل انعقاد القمة، صدرت تصريحات مصرية وإماراتية وقطرية بعدم استعداد أي من هذه الدول في الانخراط في تجمُع مُعادي لإيران.
واتصالاً بذلك، فإنه لم يرد في كلمات القادة العرب ما يُشير إلى شعورهم بالخطر من علاقات بلادهم بالصين وروسيا أو أن هناك فراغاً على الولايات المتحدة التدخل لملئه ومنع استفادة بكين وموسكو منه.
ان ومن المؤكد أنه لا يوجد من بين القادة العرب الذين شاركوا في هذه القمة من يُمكن وصفه بعدو أو خصم للولايات المتحدة، إذ توجد علاقات تاريخية سياسية واقتصادية واستراتيجية وثيقة بين بلادهم وواشنطن. فكيف نفهم هذا الاختلاف بين الرؤيتين الأمريكية والعربية؟
وهنا يعود السبب المُباشر إلى أن واشنطن أدارت ظهرها للمنطقة في العقد الأخير، وأكد مسؤولوها أن التهديد الرئيسي للأمن الأمريكي قد انتقل إلى منطقة “الإندو- باسيفيك” أو المحيطين الهندي والهادي، وأن الهدف الأول هو حصار الصين التي تُعتبر الدولة الوحيدة التي تمتلك عناصر القوة الشاملة التي تُهدد الأمن والمصالح الأمريكية، وأن واشنطن تُريد تقليل التزاماتها العسكرية في الدول العربية، خصوصاً الوجود العسكري المُباشر، وأنها ليست على استعداد أن يموت جنودها في حروب عبثية لا نهاية لها. ورافق ذلك، الانتقادات والاتهامات الأمريكية المُتكررة لبعض الحكومات العربية بعدم احترام حقوق الإنسان.
وثمة سبب آخر؛ وهو ازدياد الشعور العربي بأن الحليف الأمريكي غير “موثوق به”، وذلك في ضوء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021، حيث سلمت واشنطن الحكم إلى حركة طالبان وهي الحكومة نفسها التي قامت القوات الأمريكية بغزو أفغانستان في عام 2001 لإسقاطها، وأيضاً في ضوء رد الفعل الأمريكي الضعيف تجاه هجمات الحوثيين الإرهابية على معامل تكرير النفط في السعودية.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة بايدن مُتأخرة بعد سنوات من الإهمال، تغيرت فيها علاقات أغلب الدول العربية بكل من الصين وروسيا، وتطورت علاقاتها مع هاتين الدولتين بشكل نوعي؛ وذلك بسبب السياسة البرجماتية التي اتبعتها موسكو وبكين وانفتاحهما على الدول العربية بصرف النظر عن نظمها السياسية وعلاقاتها مع الولايات المتحدة.
وجاءت زيارة بايدن بعد أن استفاقت واشنطن متأخرة إلى التغير في إدراك الدول العربية لمصالحها ولرؤيتها للعالم ولشكل التوازن بين القوى الكبرى فيه. ودون مُبالغة، يُمكن القول إن سياسات أغلب الدول العربية اليوم تقوم على مبدأ تنويع علاقاتها على مستوى القوى الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا)، وأيضاً تنويع علاقاتها مع الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا، ولم تعُد تنظر إلى واشنطن باعتبارها القُطب الواحد على قمة النظام الدولي. ولابُد أن الخُبراء في واشنطن تابعوا المواقف العربية – الرسمية والشعبية – تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، وأن الموقف الرسمي اتسم بعدم التأييد المُطلق لروسيا أو الولايات المتحدة، ولم تُشارك الدول العربية في تنفيذ العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على موسكو. كما أن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تعاطفت مع المخاوف الأمنية الروسية بشأن توسع حلف شمال الأطلسي “الناتو” شرقاً في أوكرانيا.
تبادل المصالح:
هكذا تمت زيارة بايدن في هذه البيئة وإدراك القادة العرب بأنه إذا كانت مصالح دولهم تحتاج إلى تطوير العلاقات مع واشنطن في إطار التحديات العالمية الراهنة، فإن مصالح الولايات المتحدة بدورها تحتاج إلى تطوير هذه العلاقات. وأدى هذا الإدراك إلى وجود مناخ من “الاحتياج المُتبادل”، والرغبة في تبادُل المصالح. وحملت خطاباتهم في “قمة جدة للأمن والتنمية” رمزية جديدة تُعبر عن هذا الإدراك.
وبدا ذلك جلياً في كلمة ولي العهد السعودي عندما أشار إلى أن المملكة وصلت أقصى قُدرة إنتاجية لها من النفط ولم يعُد لديها ما تُقدمه. وإذا كان بايدن قد حرص على رمزية المُصافحة من خلال “القبضة” بدلاً من اليد، فإن أعلى مسؤول سعودي استقبله في المطار كان أمير مكة، بينما شارك الملك وولي عهده في استقبال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عام 2017.
وظهرت هذه الرمزية أيضاً في كلمة الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، التي قدم فيها مُقاربة شاملة لمُشكلات المنطقة والسياسات التي تتبعها مصر لمواجهتها، مُشيراً في حديثه إلى الأمة العربية والأمن القومي العربي. وظهر ذلك أيضاً في إشارة أغلب كلمات أغلب القادة إلى ضرورة احترام الخصوصية الثقافية للدول العربية. وأشار قادة العرب إلى كُل ذلك، مع إبداء حرصهم على وجود علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة.
مُجمل القول، حملت زيارة بايدن للمنطقة رسائل عديدة؛ كان أهمها منهج التعامُل العربي مع الزيارة والاتصالات المُكثفة بين الدول العربية التي سبقتها، والروح التي تجلت فيما وصلت إليه “قمة جدة للأمن والتنمية” من نتائج. فهل يكون ما حدث بداية مرحلة مُتطورة في العلاقات بين الدول التسع فيما بينها وفي طريقة تعامُلها مع القوى الكُبرى والتحديات العالمية؟
المستقبل للدراسات