من الخطأ اختزال الحراك الاحتجاجي الذي تشهده بين الحين والآخر المدن الإيرانية إلى المكون السياسي فقط.
المواطنون الإيرانيون الذين يقدمون على التظاهر في الساحات العامة وفي الجامعات ويحتجون على شبكات التواصل الاجتماعي لا تحركهم فقط دوافع الاعتراض على السياسة وأوضاع الحكم، بل يتواكب مع السياسة نزوع قطاعات شبابية ونسائية للتمرد على إجراءات الضبط الاجتماعي القاسية التي تمارسها الجمهورية الإسلامية بحقهم منذ 1979 ورغبتهم في انتزاع حرياتهم العامة والمدنية والحد من القيود الواردة عليها في الفضاء العام.
الشباب والنساء يتحدون القيادة المحافظة ممثلة في المرشد الأعلى علي خامنئي وعرائسه الحاضرين في الحياة السياسية الرسمية ويرفعون مجددا شعارات شديدة الحدية مثل «يسقط الديكتاتور» و«الموت للديكتاتور» وغيرهما على شبكات التواصل الاجتماعي.
البعض الآخر يخرج إلى الشارع مدفوعا بسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إيران، ويحمل القيادة المحافظة مسؤولية ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتضخم (حاليا 12في المئة و9٪ و14٪ على التوالي).
فريق ثالث يتظاهر ويحتج ضد استمرار التورط الإيراني في صراعات الشرق الأوسط على نحو يستنزف موارد بلادهم ويرتب فرض عقوبات دولية تزيد من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
لهذه القطاعات والفرق المختلفة يمثل الخروج إلى الشارع والتعبير عن تبلور طاقة احتجاجية في الفضاء العام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي فرصة لإيصال أصواتهم إلى القيادة المحافظة للجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أن السلطات الرسمية وأجهزتها الأمنية تمكنت بعنف شديد من قمع العديد من المظاهرات والاحتجاجات وأعادت تذكير المواطنين باستعدادها لانتهاك حقوق الإنسان دون خوف من بيانات تنديد دولية أو من اعتراضات منظمات حقوق الإنسان العالمية، يظل توقع الاحتواء التام للحراك الاحتجاجي الراهن غير واقعي ويضع الجمهورية الإسلامية أمام معضلة السيطرة على شارع تتمرد بعض قطاعاته على القيادة المحافظة ومرجعيتها الدينية بقوة وتظهر رفضها لاختياراتها السياسية في الداخل والخارج وتحديها لشرعيتها وعدم ثقتها في إدارتها للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
يظل توقع الاحتواء التام للحراك الاحتجاجي الراهن غير واقعي ويضع الجمهورية الإسلامية أمام معضلة السيطرة على شارع تتمرد بعض قطاعاته على القيادة المحافظة ومرجعيتها الدينية بقوة وتظهر رفضها لاختياراتها السياسية في الداخل والخارج وتحديها لشرعيتها وعدم ثقتها في إدارتها للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
من جهة ثانية، يتباين تعاطي الدول الغربية مع المشهد الإيراني بين حذر أوروبي وقلق أمريكي تمارسه إدارة جو بايدن. أوروبيا، تتسم بمزيج من التجاهل والهدوء وتيرة النقد الرسمي للسلطات الإيرانية على خلفية قمع الاحتجاجات وعنف الأجهزة الأمنية ضد المحتجين. تبدو الحكومات الأوروبية الكبرى أكثر انشغالا بالعودة إلى الاتفاق النووي والحفاظ على الالتزام الإيراني ببنود الاتفاق بعد الانسحاب الأمريكي والعقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية الجديدة التي تؤثر أيضا على كبريات الشركات والبنوك الأوروبية المتعاملة مع الجمهورية الإسلامية. أما أمور حقوق الإنسان والحريات، فلا تريد الحكومات البريطانية والفرنسية والألمانية أن تعطيها اهتماما حقيقيا ولسان حالها أن الأمل في التغيير بات معدوما. في المقابل، تبدو إدارة بايدن عاجزة عن تبني موقف واضح من الجمهورية الإسلامية وتتأرجح بين تهديد بتصعيد العقوبات وبين التعبير عن الأمل في العودة إلى اتفاق نووي ملزم.
وتستهدف إدارة بايدن من عقوباتها الاقتصادية والتجارية والمالية إما دفع الأوضاع في الداخل الإيراني إلى نقطة انفجار مجتمعي أو رفع كلفة السياسات الإقليمية للجمهورية الإسلامية على نحو قد يجبرها على إعادة النظر في توجهاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومناطق أخرى.
من جهة ثالثة، ينقسم العرب بين فريق موال لإيران الرسمية يمثله أطراف كنظام بشار الأسد وحزب الله وحركة الحوثيين في اليمن وفريق يشكك في نواياها وسياساتها في مقدمته الحكومات السعودية والإماراتية والبحرينية وفريق أخير يتأرجح متحفظا وباحثا عن مواقف توافقية تقلل مناسيب الصراع في الشرق الأوسط به مثل الحكومة العراقية والحكومة المصرية.
غير أن التباين في المواقف إزاء الجمهورية الإسلامية لا يترجم إلى رفض أو تأييد للتحولات المجتمعية في الداخل الإيراني. أما الرأي العام العربي، فتظهر تعليقات المشاركين على شبكات التواصل الاجتماعي أن نظرته للمشهد الإيراني تتحدد معالمها إما بمقاربة انبهارية ترى في الجمهورية الإسلامية خيرا خالصا أو تدفعها مخاوف متراكمة من نوايا حكام إيران الإقليمية تحول دون فهم الواقع. ينبري العديد من الكتاب والمحللين العرب القريبين من النظام السوري ومن حزب الله في لبنان للدفاع عن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية وتبرير قمع الأجهزة الأمنية للمحتجين المتهمين بالعمالة للغرب، بل ويكيل بعضهم المديح «للديمقراطية الإيرانية» متجاهلين علامات الاستفهام الكبرى التي ترد على نظام سياسي مرجعيته النهائية مرشد ديني لا ينتخبه الشعب وتجرى به انتخابات تديرها هيئات وأجهزة ترفض من لا تراه مناسبا من المرشحين وتسيطر على فضائه العام أجهزة أمنية قمعية وعنيفة. أما المتخوفون من نوايا الجمهورية الإسلامية، فيختزلون التحولات المجتمعية الراهنة إلى المكون السياسي معرفا كتوجهات إيران في الشرق الأوسط وينسون الرفض الصريح بين الشباب والنساء في إيران لغياب الديمقراطية في الداخل وللقمع المجتمعي باسم الدين.
القدس العربي