في عام 1992، كتب تورجت أوزال رئيس جمهورية تركيا الأسبق، رسالة إلى زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان ( مسجون بتركيا منذ عام 1999) طلب فيها تخفيف العمليات العسكرية ضد الجيش التركي للتمهيد للمفاوضات بين الطرفين، لكن المساعي فشلت في تحقيق نتيجة ملموسة.
وشنت تركيا حملة عسكرية أخرى في العام نفسه شارك فيها 15 ألف جندي واستخدمت فيها الدبابات والمدافع الثقيلة والطيران الحربي، إلا أنها لم تنجح، فانسحبت القوات بعد 20 يوم من إطلاق الحملة.
وأطلقت بعدها عدة حملات في أعوام 1993 و1994 بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود، وشارك في الأخيرة 30 ألف جندي بالتعاون مع حزب “الديمقراطي الكردستاني”، ودامت مدة 45 يوما للسيطرة على منطقة حفتانين، إلا أنها لم تنجح وانسحبت بعد شهر ونصف من الهجوم.
مهَّد هذا الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني لعقد اتفاقية أمنية بين الحكومتين العراقية والتركية في العام 1994، يُسمح بموجبها للقوات التركية بتنفيذ ضربات جوية ضد معاقل الحزب، والتوغل البري لمطاردته إلى عمق 25 كيلومترًا على طول الشريط الحدودي، تم التمديد لها في العام 2007.
وبعد انهيار القوات العراقية أمام تنظيم داعش الإرهابي في الموصل منتصف العام 2014، شكلت الحكومة العراقية بدعم من المرجعية الدينية قوات الحشد الشعبي كقوة رديفة للجيش العراقي اكتسبت صفة رسمية كإحدى مؤسسات القوات الأمنية، في حين بادرت الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف دولي من أكثر من ستين دولة لدعم العراق في مواجهة التنظيم، من بينها تركيا.
وفي إطار التحالف الدولي، كان التعاون العراقي-التركي في مجال “التدريب وتقديم المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ومن أبرز نتائج الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي إلى أنقرة أواخر العام 2014. واستجابة لطلبه لتدريب قوات البشمركة التي تقوم بأعمال قتالية على الأرض بدعم جوي من التحالف الدولي ضد الإرهاب، تم تأسيس معسكر “دوبردان” قرب ناحية بعشيقة في آذار/ مارس 2015 لبدء برنامج التدريب التركي للمتطوعين العراقيين.
في الوقت الراهن، وعلى امتداد أعوام طويلة، يثير الوجود العسكري التركي لدى العراق خلافاً بين بغداد وأنقرة، ولا سيما بعد القصف المدفعي الذي راح ضحيته عدد من الشهداء، وقبل أن يتأكد ذلك الاتهام، سارعت القوى السياسية الموالية لإيران إلى تحميل تركيا المسؤولية عن العدوان، والمطالبة باتخاذ إجراءات عقابية ضدّها من قبيل قطع العلاقات الدبلوماسية، ووقف التعامل التجاري معها، واشتغلت الماكينة الإعلامية للفصائل الولائية لتطلب الاقتصاص من تركيا، وتحرّض على اقتحام مكاتب دبلوماسية تابعة لها في مدن عراقية، واستهدفت مليشيا مرتبطة بالحرس الثوري قواعد عسكرية تركية في محافظة نينوى بصواريخ من طائرات مسيّرة لتزيد الموقف تعقيداً، فيما سعت أنقرة إلى النأي بنفسها عن الواقعة، وألقت بها على حزب العمال الكردستاني المعادي لها، والذي يتخذ من مناطق الشمال العراقي مقرّاً له، ولقياداته التي يقال إنّ إيران، توفر الغطاء لها، وفي الوقت نفسه، دعت أنقرة إلى تحقيق دولي فني، يحدّد الجهة الفاعلة.
وبين الإثبات والنفي قال قائد العمليات المشتركة العراقي أن “القصف التركي الاخير تم بقذائف ١٥٥ ملم والتي لا تملكها الا الجيوش الكبيرة”. وفى ضوء هذا القصف والغضب الرسمي والشعبي، سيعقد -اليوم- الثلاثاء جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الهجوم الذي تعرضت له مدينة دهوك في شمالي العراق.
وطالبت الحكومة العراقية مراراً، تركيا، بسحب قواتها، خصوصاً المتمركزة في معسكر بعشيقة، ويوجد نحو 20 من القواعد والمقرات العسكرية التركية موزعة على محافظتي أربيل ودهوك، وتقع كبرى القواعد التركية في منطقة كردستان العراق بمهبط الطائرات المسمى «بامرني» شمال مدينة دهوك، الذي كان يستخدمه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في زياراته إلى مصيف سرسنك في ثمانينات القرن الماضي، وهي قاعدة عسكرية لوجيستية وفيها مطار.
كما يوجد عدد من القواعد العسكرية والمراكز الاستخباراتية التركية داخل الأراضي العراقية؛ منها قواعد باطوفة وكاني ماسي وسنكي وقاعدة مجمع بيكوفا وقاعدة وادي زاخو، وقاعدة سيري العسكرية في شيلادزي وقواعد كويكي وقمريي برواري وكوخي سبي ودريي دواتيا وجيل سرزيري، وقاعدة في ناحية زلكان قرب جبل مقلوب في بعشيقة. ويوجد عدد من مقرات المخابرات التركية في كل من العمادية وباطوفة وزاخو ودهوك.
ويمكن تحديد جملة أهداف للوجود التركي بطابعه السياسي والأمني والعسكري والاجتماعي؛
1- صون الأمن القومي التركي المهدد من قبل حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (P.K.K)، الذي تتمركز معظم تشكيلاته العسكرية منذ أكثر من 3 عقود في جبال قنديل، عند المثلث الحدودي العراقي – التركي – الإيراني. تمثل تلك المنطقة منطلقاً رئيسياً للحزب لتنفيذ عملياته العسكرية في العمق الجغرافي التركي، مستفيداً من جملة عوامل وظروف جغرافية وفنية ولوجستية وسياسية.
2- حماية المكون التركماني العراقي الذي يتمركز ثقله الاجتماعي الأكبر في محافظة كركوك الغنية بالنفط المتنازع عليه بين العرب والكرد والتركمان. ترى أنقرة أن هذا الهدف مبرر، وهو في نظرها لا يختلف عن تبني إيران الدفاع عن المكون الشيعي أو تبني دول أخرى الدفاع عن المكون السني العربي.
3- تأمين خط أنابيب النفط الحالي الممتد من كركوك إلى ميناء جيهان. وربما يجري العمل على إنشاء خط أنابيب مستقبلي للغاز على غرار خط حكومة إقليم كردستان بمساعدة تركيا. إذ يهم تركيا أن تضبط أمنها عبر السيطرة على هذا الإقليم الغني بالغاز الطبيعي. فقد تعهد مؤخرًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحل مشاكل الغاز الطبيعي في تركيا من خلال إبرام اتفاق مع العراق.
ومع أنه قد لا يكون من السهل على تركيا الحصول على الغاز الطبيعي الكردي نظرًا للخلافات بين الأكراد أنفسهم ومع بغداد، تبقى تركيا المكان الوحيد الذي يمكن تبرير تصدير الغاز الطبيعي إليه من أي طرف من الطرفين. لذلك، فإن صفقة الغاز ضرورية لتركيا كونها تحظى بتأييد دولي وتستطيع التعويض عن جزء معقول من الغاز الطبيعي الذي تورّده روسيا إلى أوروبا، خاصة بعد تراجع التوقعات بزيادة الإنتاج من قبل كل من الجزائر وليبيا. من الناحية الجيوسياسية، تعارض إيران مثل هذه الصفقة مع تركيا. لكن بفعل القيود المفروضة على إيران من قبل الولايات المتحدة يجعل من غير الواقعي استثمار الغاز الطبيعي الكردستاني فيها.
ومن أجل الحفاظ وتعزيز مكاسب الوجود العسكري والأمني والاستخباراتي التركي في شمالي العراق، ستسعى تركيا إلى المواءمة بين الضرورات الأمنية التي اضطرتها إلى التواجد العسكري في الأراضي العراقية مع الحملة الرافضة لوجودها، فتعمل على إعادة الانتشار مثلا، أو البقاء تحت غطاءات مختلفة لا تثير استفزاز القوى المناهضة.
أن التدخل العسكري التركي في شمالي العراق ليس مرتبط نهائيًا بحزب العدالة والتنمية بعبارة أخرى لا يعني أن في حال خسارة الرئيس أردوغان وحزبه الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها العام القادم المقبلة، خروج القوات التركية من أراضي شمالي العراق، هذا فهم بسيط لأصل المشكلة، لأن وجودها هناك، مسألة تتعلق بأمن الدول التركية وهذا أمر يكاد يكون من القضايا المتفق عليها من قبل سائر الأحزاب التركية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. لذلك لكي ينتهي التدخل التركي في شمالي العراق يجب إيجاد حل جذري لوجود حزب العمال الكوردستاني التركي هناك، يراعي متطلبات الأمن القومي التركي، وفي حال إخراج حزب العمال الكوردستاني من شمالي العراق لايبق لتركيا إي ذريعة قانونية وسياسية وأمنية لإبقاء قواتها في شمالي العراق، وإذا تعذر ذلك الإخراج فإن التواجد العسكري التركي في شمالي العراق سيستمر، الأمر الذي سيتعين على الدولة العراقية وحكومة إقليم كوردستان التعامل معه على المدى الطويل.
معمر فيصل خولي
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية