العقيدة العسكرية الجديدة للقوات البحرية الروسية التي صدّق عليها الرئيس بوتين في نهاية الشهر الماضي تضع روسيا جيوستراتيجيا على مسار جديد في لعبة التوازن الدولي، وتكشف عن رؤية لتحويلها من قوة عسكرية برية وفضائية في المقام الأول، إلى قوة عسكرية متكاملة القوام بريا وبحريا وفضائيا. وقد ظل ضعف القوة البحرية الروسية تاريخيا بمثابة «كعب أخيل» أو نقطة الضعف الرئيسية في هيكل القوة العسكرية الروسية. وكانت مسألة نفاذ روسيا الآمن والمستدام إلى المياه الدافئة في الجنوب تمثل مصدر قلق دائم للقيادة الروسية. فهل ينجح بوتين فعلا في استراتيجيته البحرية الجديدة؟ الإجابة ليست سهلة، لأن هناك تحديات كبيرة تعترض طريقه، يحتاج إلى تخطيها بسلام قبل أن يحقق ما يريد.
الوضع الحالي للبحرية الروسية
يلجأ بعض المحللين إلى تقييم الوضع الحالي للقوات، بإحصاء القطع العسكرية، والأفراد، بصرف النظر عن طبيعة القدرات التسليحية، ومستوى التدريب، والخبرات والمهارات القتالية، وكفاءة القيادة، والفنون التكتيكية، والتحالفات على مستوى الإقليم والعالم. المثال البارز على ذلك هو مؤشر «جلوبال فاير باور» الذي يستخدمه كثيرون لتقييم القوة العسكرية لدولة من الدول، لكن مراكز البحوث الاستراتيجية والعسكرية على مستوى العالم مثل معهد «سيبري» لدراسات السلام، والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وغيرهما، تستخدم مؤشرات ومعايير مختلفة تعتمد على تقييم الوضع الاستراتيجي للقوات، ليس من ناحية العدد المطلق، ولكن من حيث التفوق النوعي النسبي، والقدرة على المنافسة وكسب المعارك في صراعات محتملة أو فعلية.
ظل ضعف القوة البحرية الروسية تاريخيا بمثابة «كعب أخيل» أو نقطة الضعف الرئيسية في هيكل القوة العسكرية الروسية
على ضوء ذلك، فإن تقييم الوضع الحالي للبحرية الروسية يرتبط ارتباطا مباشرا بالقدرات الاستراتيجية الأخرى، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت بها في العقود الأخيرة، فإن القوات البحرية الروسية فقدت الكثير من قوتها، رغم أنها حافظت على قوة ضاربة هائلة في سلاح الغواصات النووية، وفي منطقة عمليات الأسطول الشمالي. وتجلى فقدان القدرات في توقف روسيا عن إنتاج القطع البحرية الضخمة المتعددة الأغراض وحاملات الطائرات. ولا تملك حاليا غير حاملة طائرات واحدة فقط هي «الأدميرال كوزنيتسوف» التي تم تصميمها خلال الفترة السوفيتية، ودخلت الخدمة في التسعينيات، ولم تعد الآن ملائمة بسبب تخلفها التكنولوجي عن حاملات الطائرات الحديثة التي تملكها الولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطي والصين، ولذلك فإن البحرية الروسية ما تزال أضعف من أن تنافس أو تكسب حروبا في البحار المفتوحة، أو ما يسمى بمناطق «المياه الزرقاء» بعيدا عن حدودها. وتعتبر الفرقاطة «الأدميرال غورشكوف» في الوقت الحاضر واحدة من أقوى القطع البحرية الروسية، التي تعمل خارج نطاق الأسطول الشمالي، بعد خسارة حاملة الصواريخ الموجهة «موسكوفا»، التي أغرقتها القوات الأوكرانية في البحر الأسود في إبريل/نيسان الماضي. وقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن قرب تسلم الجيش والبحرية صواريخ «تسيركون» فرط الصوتية، موضحا أن الفرقاطة «الأدميرال غورشكوف»، ستكون أول قطعة تتسلح بهذه الصواريخ. ولم تكشف قيادة القوات البحرية عن منطقة عمليات الفرقاطة، لكن بوتين قال إن منطقة خدمة «الأدميرال غورشكوف» «سيتم اختيارها بناء على متطلبات ضمان أمن روسيا. بشكل عام يعتبر الأسطول الشمالي، بقيادة حاملة الصواريخ «فيلكيي- فئة كيروف»، أكبر سفينة عسكرية في العالم، هو أقوى تشكيلات البحرية الروسية، وأكثرها قدرة على كسب المعارك المحتملة.
جوهر الاستراتيجية الجديدة
«مبدأ بوتين» يعين حدود ومجالات المصالح القومية لروسيا، سواء الاقتصادية، أو المصالح الاستراتيجية الحيوية. هذا المبدأ كما حدده بوتين في الاحتفال بـ»يوم البحرية الروسية» في مدينة سان بطرسبرغ، يعتبر أن سعي الولايات المتحدة للهيمنة على محيطات العالم، وتوسيع البنية العسكرية لحلف الناتو شرقا، هما أهم التهديدات التي تواجه روسيا، والتي يتعين عليها أن تكون مستعدة لها في كل وقت. وتذكر الوثيقة أن هذه التهديدات تعترض استقلال السياسة الروسية الداخلية والخارجية وأمنها القومي. ويعتبر بوتين أن النجاح في مواجهة هذه التهديدات يمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة لروسيا. وينص «مبدأ بوتين» على أن روسيا لا تستطيع أن تحافظ على وجودها من دون أسطول قوي، يكون قادرا على حماية مصالحها في محيطات العالم وحولها. وحدد بوتين أهم أهداف العقيدة العسكرية الروسية في الاحتفاظ بموقع قيادي في المنطقة القطبية الشمالية، وحماية أمن ثرواتها المعدنية، والمحافظة على الاستقرار الاستراتيجي لها. ويتحقق ذلك بتعزيز قوة وإمكانيات الأسطول الشمالي، وأسطول المحيط الهادئ، وتأمين طريق بحري آمن وتنافسي يربط بين أوروبا وآسيا عبر «الممر الشمالي»، من خلال المنطقة القطبية المحاذية للحدود الروسية، على أن يعمل هذا الخط على مدار العام. ويضيف ديمتري غورينبغ الزميل في مركز جامعة هارفارد للدراسات الروسية والأوروآسيوية، أن أولويات وأهداف العقيدة الجديدة تتضمن أيضا التركيز على حماية مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، وكابلات الاتصالات والكهرباء الممتدة تحت سطح المياه في بحار ومحيطات العالم، وتعزيز إمكانيات الدفاع عن الحدود الاقتصادية البحرية، سواء على سطح المياه أو تحت السطح، وتطوير نظام القيادة والسيطرة للقوات البحرية، وتعزيز القدرات العسكرية للبحرية من خلال التدريب والمشاركة في المناورات والتنسيق مع قوات أخرى، وتطوير أنظمة التسليح، والمشاركة في تحقيق الأمن الاقتصادي. ويعتقد غورينبرغ أن روسيا تريد المحافظة على مركز قوتها البحرية كثاني أكبر قوة بحرية في العالم، ويقول إنها لا تطمح إلى منافسة الولايات المتحدة في البحار، لكنها لا تريد أن تتخلف وراء الصين، وأن تكون لديها القدرة على تأمين مصالحها الحيوية بعيدا عن الحدود، والمحافظة على وجود بحري دائم حول العالم. وفي هذا السياق فإن توجيهات بوتين إلى القيادات العسكرية تتضمن تحديث تسليح البحرية، عن طريق تزويدها بصواريخ دقيقة التوجيه للأغراض العسكرية كافة، من مضادات الطائرات، إلى مضادات السفن، والغواصات، إلى كاسحات الألغام، وتلك القادرة على ضرب أهداف برية من البحر، بحيث تكون القوات البحرية قادرة على أداء مهماتها المختلفة تحت كل الظروف. وتعتبر صواريخ «تسيركون» الأسرع من الصوت وصواريخ «كاليبر» دقيقة التوجيه، وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة من أهم الأسلحة المستخدمة في تطوير القوات البحرية الروسية حاليا. كما أن روسيا تمضي قدما في إنتاج جيل جديد من الغواصات النووية والتقليدية، التي دخلت الخدمة عام 2020 ويستمر برنامج إنتاجها حتى عام 2027. كما تتجه روسيا أيضا إلى زيادة عدد وتسليح السفن الحربية المتعددة الأغراض.
تحديات تواجه البحرية الروسية
طبقا للبيان الصادر عن الكرملين بشأن العقيدة الجديدة للبحرية الروسية، فإن وضع «مبدأ بوتين» موضع التنفيذ تعترضه تحديات رئيسية، تتضمن عدم وجود عدد كاف من القواعد ونقاط التمركز خارج حدود روسيا الاتحادية، تخدم احتياجات التموين والصيانة، وتبديل الأطقم لسفن الأساطيل الروسية، وهو ما يعتبر ثغرة خطيرة، تستدعي العمل من أجل سدها. ويحدد «مبدأ بوتين» نقاط التمركز الاستراتيجي الحيوية لتحقيق الأمن القومي الروسي خارج منطقة المحيط المتجمد الشمالي، في مضائق الكورييل شرق سيبريا، وبحر البلطيق، والبحر الأسود، وشرق البحر المتوسط. كما ينص «مبدأ بوتين» على ضرورة وجود نقاط ضمان لوجستية وفنية في البحر الأحمر، لمساندة حرية الحركة للبحرية الروسية من الشمال إلى الجنوب وبالعكس. وفي هذا السياق فإن روسيا تعمل بقوة على تعزيز تعاونها العسكري مع السودان وإيران والهند والصين. ونظرا لتخلف روسيا في العقود الماضية عن تجديد وتطوير حاملة الطائرات الوحيدة المملوكة لها، فإن «مبدأ بوتين» ينص على ضرورة البدء في تطوير مرافق الإنتاج الضرورية لبناء حاملات الطائرات الحديثة. ومن الضروري أيضا ألا نفصل «مبدأ بوتين» عن استراتيجية روسيا للتفوق في مجال الصواريخ فرط الصوتية، والعمل على الانتقال بحدود المنافسة العسكرية إلى الفضاء الخارجي للأرض. وقد التقى الرئيس الروسي في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي يوري بوريسوف رئيس وكالة الفضاء الروسية، لمناقشة تطوير البرنامج الفضائي الروسي، بمعزل عن الولايات المتحدة، بما في ذلك المحطة الفضائية الدولية.
لماذا الآن؟
يميل معظم المسؤولين والخبراء في الولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطي إلى تفسير سياسية بوتين من منظور «الحنين إلى العصر السوفييتي»، لكن هذا التفسير يتجاهل التغيرات التي حدثت في البيئة الجيوستراتيجية العالمية منذ أوائل القرن الحالي، وسعي الولايات المتحدة إلى عزل روسيا عن أوروبا. ويرى هنري كيسنجر أن روسيا لن تقبل أبدا بأن تصبح معزولة، بل إنها ستبحث لنفسها عن تحالفات وشراكات إلى الشرق والجنوب، بدلا من الغرب. ما توقعه كيسنجر هو ما يحدث تماما الآن، وليس بسبب الحنين الى العصر السوفييتي.
القدس العربي