واجهت زيارة نانسي بيلوسي، الناطقة باسم مجلس النواب الأمريكي، إلى تايوان تصعيدا خطيرا من قبل الصين، تجسّد بمناورات بحرية وجوية وإطلاق صواريخ سقط بعضها في المياه الإقليمية لتايوان والمنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، مما رفع إمكانيات سيناريو حرب بين بكين وتايبيه، وساهم في إعاقة الممرات البحرية للشحن في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، في وقت تعاني فيه سلاسل الإمدادات لأزمة عالمية كبيرة.
جاءت الزيارة في وقت يفترض فيه أن الولايات المتحدة محتاجة إلى تهدئة الأوضاع مع الصين لا تصعيدها، وإبعادها عن توثيق التحالف مع روسيا، وليس إعطاءها مبررات تدعم إمكانية نشوء حلف بين بكين وموسكو في وقت يخوض فيه الغرب معركة هائلة مع روسيا بعد اجتياحها لأوكرانيا.
لم تكن زيارة بيلوسي، على أية حال، مجرّد خطوة تقوم بها شخصية غير حكومية (فمقام بيلوسي في هرمية السلطة الأمريكية هو الثالث في الترتيب)، أو أنها ورقة انتخابية للاستخدام في الانتخابات الأمريكية (وذلك لأن هناك غالبية كبيرة من الحزبين الرئيسيين تدعم هذه الخطوة)، والأغلب أن أهميتها تنبع، بالضبط، من كونها جاءت خلال الأزمة الأوكرانية، فهي تعلن أن أمريكا، رغم انهماكها في معركة أوكرانيا، لن تتخلى عن تايوان، وأن قوة الصين وروسيا، مجتمعتين، لا تعادل قوة أمريكا وحلفائها، وأن الصراع الكبير القائم حاليا في العالم هو صراع بين الديمقراطية التي تمثلها أمريكا، والدكتاتورية، التي تمثلها الصين وروسيا.
التصعيد الصيني الكبير لا يتعلّق بالزيارة وحدها بل بمجموع المخاطر التي تمثلها تايوان، وهي ليست مخاطر عسكرية (رغم قوة الجيش التايواني)، بل تتضمن أيضا التنازع على الشرعيّة، فكل من الدولتين تعتبر نظامها السياسي هو الشرعية الممثلة للصينيين، ورغم أن القيادة الحالية لتايوان صارت أقرب لفكرة أنها دولة مستقلة لا تمثل الصينيين أجمعين، فإن هذه السياسة تبدو أكثر خطرا بالنسبة لبكين، لأن انفصال تايوان، رسميا، سيشكل إلهاما لبعض شعوب جنوب الصين التي ينحدر منها أغلب التايوانيين.
بالمقاييس الكبرى للمصالح، من الصعب تخيّل ما سيحصل عالميا لو أن الصين غزت تايوان فعلا، ونفّذت أمريكا تعهد رئيسها جو بايدن، الذي أعلنه في أيار/مايو 2022، بالتدخل عسكريا إذا تم غزو تايوان. المصالح الأمريكية ـ الصينية مشتبكة بشكل هائل وكلا الطرفين سيتضرران بشكل مهول.
تبدو التحرّكات الصينية الأخيرة محدودة، والأغلب أن تلجأ الأطراف كلها للتهدئة وإعادة الأمور على ما كانت عليه. هناك سيناريو آخر متوقع، وهو أن تقوم بكين بتنفيذ توغلات في أجواء ومياه تايوان وصولا إلى تحرش عسكري محدود لا يبلغ حد حرب شاملة، والهدف من هذا السيناريو هو كسب بكين وضعا يشابه وضع إسرائيل نحو سوريا ولبنان، حيث تحصل عمليات توغل أو غارات شاملة من دون الوصول لحرب شاملة.
الأسلم، للجميع، طبعا، أن تنصرف الصين إلى مبدئها الاستراتيجي الذي بناه السياسي والمنظر الصيني دنغ شياو بينغ، والذي كان أساس النهضة الصناعية والعسكرية والعمرانية الحديثة في الصين، والتي أسست لنظام رأسمالي يديره حزب شيوعي، وأصبحت بفضله الاقتصاد الثاني في العالم، ولكنّه ربطها أيضا بآليات العولمة والاقتصاد الرأسمالي في العالم، وجعل أي نكوص عن هذا الطريق كارثة لا يمكن للصينيين، ونظامهم، احتمالها.
القدس العربي