عندما أوقف مقتدى الصدر إجراءات تشكيل حكومة يترأسها محمد شياع السوداني، مرشح قوى الإطار التنسيقي عبر احتلال أنصاره لمبنى البرلمان والتسبب في شلل أصاب العملية السياسية، وضع نقطة في نهاية سطر ابتدأ منذ انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021 وتمثل في سلسلة من النزاعات والاختناق السياسي الذي تفاقمت أزمته يوما بعد آخر حتى وصل الأمر إلى حافة اندلاع نزاعات مسلحة بين أطراف الصراع الشيعي.
أنصار مقتدى الصدر دخلوا المنطقة الخضراء واحتلوا مجلس النواب واعتصموا فيه معلنين أنهم لن يخرجوا إلا بعد إسقاط العملية السياسية القائمة منذ 2005، لكن من دون أن يوضح أحد من قيادات التيار الآليات والخطوات التي ستتبع لإجراء التغيير، بل اكتفوا وعلى رأسهم صالح العراقي الذي يعرف بـ (وزير الصدر) بإطلاق توصيفات عامة لمطالبهم في التغيير مثل: حل البرلمان، تعديل الدستور، إصلاح القضاء، محاسبة الفاسدين، إلخ.
في خطابه يوم الأربعاء 3 آب/اغسطس الجاري، حاول السيد مقتدى الصدر وضع بعض النقاط على الحروف، أو هكذا فهم بعض المراقبين أطروحة الصدر، بينما كانت كلماته غائمة خفية ومتضاربة في بعض الأحيان مثال ذلك، توصيفه لخريطة الطريق المقبلة التي دعا فيها لحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة في ما سماه بـ«عملية ديمقراطية ثورية سلمية، وعملية ديمقراطية مبكرة بعد حل البرلمان الحالي». والمعروف أن الثورات لا تكون عادة سلمية ولا ديمقراطية، لأنها تكسر الأطر السياسية السابقة، وتجر الوضع إلى صدام تراق فيه الدماء. وإذا كان المتحدث يبحث عن شرعية ثورية تصحح المسار السياسي الفاسد فلماذا يختتم بالعودة لعملية (ديمقراطية مبكرة)، ومن الذي سيحدد أطر هذه الديمقراطية المبكرة؟ لكن الفرقاء السياسيين من خصوم الصدر وحلفائه، تلقفوا الفكرة وتفاءلوا بأنها ستمثل خروجا من الأزمة، وذلك بحل البرلمان الحالي والعودة لانتخابات جديدة، إذ علق هادي العامري زعيم كتلة الفتح في بيان رسمي بقوله: «نؤيد إجراء الانتخابات المبكرة، التي دعا إليها مقتدى الصدر، لاسيما وأن الانتخابات السابقة شابها الكثير من الشبهات والاعتراضات»، لكنه أضاف مبينا أن «هذا يتطلب حوارا وطنيا شاملا من أجل تحديد موعد وآليات ومتطلبات إجرائها، وتوفير المناخات المناسبة لانتخابات حرة ونزيهة وشفافة تعيد ثقة المواطن بالعملية السياسية». أما حيدر العبادي رئيس ائتلاف النصر فقد قال في تغريدة على حسابه في تويتر: «أرحب بما جاء في خطاب مقتدى الصدر، وهو يلتقي من جوانب عدة مع مبادرتنا لحل الأزمة»، وأضاف» أُحيي خطواته وجميع الإخوة لحفظ الدم وتحقيق الإصلاح»، داعيا الجميع إلى «التكاتف لخدمة الشعب وإصلاح النظام وتدعيم الدولة الدستورية من خلال عملية ديمقراطية سليمة وسلمية».
سلسلة من النزاعات والاختناق السياسي تفاقمت أزمته يوما بعد آخر حتى وصل الأمر إلى حافة اندلاع نزاعات مسلحة بين أطراف الصراع الشيعي
موقف السنة من حلفاء الصدر السابقين جاء على لسان رئيس تحالف السيادة خميس الخنجر، الذي رحب بخطاب الصدر، داعيا لإجراء انتخابات مبكرة وفق «معايير جديدة وقوانين عادلة». فقد غرّد الخنجر على حسابه في تويتر قائلا: «ندعم جميع الجهود لإنقاذ العراق، ومعالجة حالة الجمود السياسي التي عطّلت الدولة ومصالح الشعب»، وأضاف» نعلن دعمنا لمضامين خطاب مقتدى الصدر نحو انتخابات مبكرة، ووفق معايير جديدة وماكنة وقوانين عادلة تسمح بمنافسة حقيقية». أما الحركة الوطنية للإصلاح والتنمية السنية التي يقودها جمال الكربولي فلم تُشر صراحةً إلى دعوة الصدر، لكن الكربولي، قال عبر تويتر؛ إن «مبادرات حل الانسداد السياسي محل ترحيب ما دامت قائمة على حفظ حقوق العراقيين، وإعادة تأطير العمل السياسي وفق متطلبات الثقة والاحترام التي اهتزت عند الشعب. ولن يتحقق ذلك إلا بتوفير جميع المتطلبات الضامنة لعملية انتخابية نزيهة تتيح مشاركة شعبية حقيقية في الانتخابات». الكرد كان موقفهم مواربا من دعوات حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة بافل طالباني، لم يُعلن موقفاً واضحاً تجاه دعوة الصدر، واكتفى ببيان رسمي جاء فيه: «نُرحب بحرارة بالمبادرات وجميع الجهود الوطنية التي قدمت لحل المشكلات والتوصل إلى اجتماع وطني، فالطريق الوحيد للاستقرار السياسي، والأمني والاقتصادي والمجتمعي هو التفاهم. نحن بحاجة إلى العمل المشترك لتذليل العقبات أكثر من أي وقت مضى، فالتجارب السابقة أثبتت أن تكاتف العراقيين هو أفضل طريق للتغلب على جميع المشكلات التي تعترض طريقنا».
أما حلفاء الصدر من الحزب الديمقراطي الكردستاني فكان موقفهم أكثر ضبابية، إذ اعتبر سكرتير المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني فاضل ميراني، أنه ليس من السهل حل مجلس النواب والذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة جراء الأزمة السياسية الراهنة في العراق، وقال ميراني»حقيقة لسنا مستعجلين، وما جرى في العراق لم يكن صحيحاً بأن يستقيل السيد مقتدى الصدر من البرلمان»، وتابع أن «الصدر بيده سلاحان، أحدهما 73 مقعداً في البرلمان، والسلاح الثاني هو الشارع، وقد فقد الأول، وما زال يمتلك السلاح الآخر»، لافتاً إلى أن «الصدر الآن وبلا سلاحه الأول يطلب حل البرلمان، وبرأيي أن هذا الأمر ليس سهلاً». وتساءل ميراني «جميع الأطراف والقوى السياسية لديها اعتراض على قانون الانتخابات، وإذا لم يكن هناك برلمان فمن سيعدل هذا القانون؟»، مشيراً إلى أنه «ينبغي تشكيل لجنة أو هيئة تشريعية تقوم بتعديل هذا القانون، وتشكل مفوضية جديدة للانتخابات».
رفض تصريحات الصدر جاءت من صقور الولائيين من بعض قوى الإطار التنسيقي وفي مقدمتها كتلة دولة القانون، التي يقودها خصم الصدر الأبرز نوري المالكي، الذي صرح عبر تويتر بالقول إن، «الحوارات الجادة التي نأمل منها حسم الخلافات وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح تبدأ بالعودة إلى الدستور واحترام المؤسسات الدستورية». كما علق رئيس هيئة الحشد الشعبي بالعراق فالح الفياض على مطالب الصدر، وقال في تصريحات إعلامية إن، «مقترحات زعيم التيار الصدري لحل الأزمة يمكن مناقشتها للتوصل إلى مواقف مشتركة بشأنها»، وتابع «مطالب حل البرلمان قضية كبيرة، لا يمكن القبول بها عندما تطرح من قبل جهة واحدة». وأضاف «نظام الحكم في العراق بحسب الدستور توافقي، ولا يمكن القبول بموقف واحد لجهة معينة». قانونيا حل الاختناق عبر حل البرلمان الحالي والذهاب إلى انتخابات جديدة لا يتم إلا عبر المادة 64 من الدستور العراقي، إذ يطلب ثلث أعضاء البرلمان حله ويجب أن توافق على الحل الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان، أو يمكن أن يحل البرلمان بطلب من رئيس الوزراء يوافق عليه رئيس الجمهورية، الذي يجب أن يدعو لانتخابات جديدة في غضون 60 يوما، لكن على أرض الواقع هذه الشروط تعتبر عسيرة إن لم نقل مستحيلة. فهل من صلاحية رئيس حكومة تصريف أعمال حل برلمان منتخب؟ وهل من صلاحية رئيس جمهورية انتهت عهدته دستوريا الموافقة على حل البرلمان؟ وهل تستطيع المفوضية العليا للانتخابات إجراء الانتخابات الجديدة في غضون شهرين؟ وهل يمكن إصدار أو تعديل قانون الانتخابات في هذه المدة القصيرة؟ ومن هي الجهة التي ستغير قانون الانتخابات وتوافق عليه ليحظى بالشرعية؟
بعض القوى الديمقراطية وائتلافات المستقلين طرحت فكرة لحل الأزمة والإجابة على الاسئلة السابقة، إذ أصدرت اثنتا عشرة حركة وحزبا من القوى السياسية في العراق، على رأسها الحزب الشيوعي العراقي، بياناً مشتركاً صدر باسم «قوى التغيير الديمقراطي»، لم تُشر فيه مباشرة إلى موقفها من دعوة زعيم التيار الصدري، لكنه تضمن اقتراحات تتوافق معها. ودعا البيان إلى حل مجلس النواب وإجراء انتخابات نزيهة بإشراف أممي، وتشكيل حكومة تحظى بقبول سياسي وشعبي. بينما كانت حركة «امتداد» بقيادة النائب علاء الركابي ذات طروحات أكثر وضوحا وتفصيلا، عندما دعت لمبادرة تتضمن «الذهاب باتجاه حكومة انتقالية تصحيحية مصغّرة من وزراء مستقلين لمدة عام واحد، ثم حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة وفق المادة 64 من الدستور، على أن يذهب البرلمان لحل نفسه قبل 60 يوما من موعد الانتخابات».
فهل سيبقى الصدر مصرا على أن الحوار مع خصومه غير مجد، وأنه سائر في فرض شروطه على الكل بحكم الأمر الواقع المتمثل باعتصام أنصاره في محيط البرلمان؟ أم ستتم لملمة الموقف عبر تمديد عمل حكومة تسيير الأعمال برئاسة الكاظمي وتحديد موعد انتخابات مقبل في السنة المقبلة؟ هذا ما ستفرزه الأيام المقبلة.
القدس العربي