تتحرك دول أوروبا المتخوفة من حركات الهجرة الأفريقية نحوها ومن تزايد النفوذ الروسي والصيني في مستعمراتها السابقة، نحو تعزيز وجودها العسكري في بلدان الساحل، لكنه وجود يقول محللون إنه لن يعزز أمن أوروبا وإنما قد يغرقها في انعدام للأمن لا تبدو مستعدة لمواجهته.
واشنطن- زاد اهتمام أوروبا بجوارها الجنوبي المباشر منذ سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا قبل 11 عاما والأزمة الأمنية التي أعقبت ذلك في مالي، حيث التزمت بمزيد من الإنفاق، وأطلقت المزيد من برامج التنمية والاستقرار، وعززت وجودها العسكري في بلدان الساحل الأفريقي، وخاصة مالي والنيجر وبوركينا فاسو التي تُعتبر الآن جزءا من “عتبة” أوروبا.
وقبل 2011، كان صانعو السياسة الأوروبيون ينظرون إلى منطقة الساحل على أنها أرض صحراوية نائية معرضة للجفاف وتحتاج إلى البنية التحتية والمساعدات الإنسانية. واختلف الأمر بعد ذلك، حيث يُنظر إليها اليوم على أنها مصدر للنمو السكاني الخطير، والهجرة غير المرغوب فيها، والتطرف العنيف، والمنطقة المفضلة للمرتزقة الروس. وتحولت بهذا إلى مختبر حيث تعمل أوروبا على التخلص من مخاوفها الجيوسياسية.
ويقول الباحثان ديلينا غوكسه وإيفان جويشاوا في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية إن أوروبا ترى نفسها قوة معيارية وناشرا عالميا للأفكار الليبرالية من خلال سياستها الخارجية السخية. لكنها تسعى للحد من الهجرة في مناطق مثل أغاديز في النيجر، وتصر على أن منطقة الساحل هي مختبر لطموحاتها الأمنية والدفاعية، وأن عسكرة منطقة بأكملها في نهاية المطاف تشكّل سياسات تتعارض مع تعزيز حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والحلول الدبلوماسية للأزمات.
ووضع الاتحاد الأوروبي لمعالجة الأزمات المتعددة في المنطقة، مع مركزية مالي فيها، عددا كبيرا من المبادرات كان الأمن دافعها الأكبر.
وتسلط إستراتيجية الساحل الأوروبية لسنة 2021 الضوء على مجموعة متنوعة من التهديدات المتوقّعة كالإرهاب الدولي، وتدفقات الهجرة غير النظامية، والاتجار غير المشروع، وعدم الاستقرار السياسي والاحتباس الحراري. ويبدو أن هذه التهديدات المتعددة، المجمعة في نفس السلة الانتقائية، تسبب درجات مختلفة من الخوف. ويُنظر إلى التكهن بحدوث طفرة ديموغرافية أفريقية أو “القنبلة الموقوتة” كما يسميها العديد من المسؤولين الأوروبيين من الشباب العاطلين عن العمل، وربما المتطرفين، مما يؤجج أزمة الهجرة التالية على أنها التهديد الأساسي للأمن الأوروبي. ويُصوّر الفقر وتبادل السلع والاحترار العالمي على أنها عوامل تؤدي إلى تفاقم المشكلة.
وجرى تحديد منطقة الساحل في بروكسل على أنها مشكلة لمستقبل أوروبا. وكان وقف الهجرة وتعزيز التعاون الأمني الأوروبي هدفين رئيسيين للاتحاد الأوروبي. وأدت الحرب في أوكرانيا والتوسع الدبلوماسي والعسكري العدواني الروسي في أفريقيا الذي برز من خلال نشر موسكو لمرتزقتها في مالي وكذلك في أماكن أخرى من القارة (جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا والسودان) إلى إضافة طبقة أخرى من القلق.
كما أصبحت منطقة الساحل الآن ملعبا لمراقبة الدول التي تعتبرها أوروبا منافِسة إستراتيجية مثل روسيا والصين وتركيا. ونظرا إلى أن المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية يحاولون الآن إغراء النظام العسكري في بوركينا فاسو بعد تحقيق تقدم في مالي، جرت محادثة عاجلة في بروكسل حول تسريع طرق الإنفاق على تسهيلات السلام الأوروبية.
ويقول الباحثان إنها أداة مالية تحمل اسما مثيرا للسخرية، ومن شأنها أن تسمح للاتحاد الأوروبي بتقديم أسلحة فتاكة لزعماء منطقة الساحل لمواجهة التحدي.
وطلبت فرنسا، التي تدخلت عسكريا في مالي في مطلع سنة 2013 بعد سقوط ثلثي أراضي البلاد في أيدي القوات الجهادية، من شركائها الأوروبيين الانضمام إلى مغامرتها العسكرية، تكملها المساعدة التنموية المتزايدة. وكان من المفترض أن تتبع ديناميكية فاضلة تجمع بين توفير الأمن والتنمية. وجُسّدت جهود تقاسم الأعباء عسكريا إلى فرقة العمل تاكوبا، وهي تحالف من الراغبين في الاندماج في عملية برخان الفرنسية.
وكان الهدف هو تقديم توجيه أوثق لجيوش الساحل من خلال نشر القوات الخاصة مع توزيع التكلفة المالية والسياسية بين المزيد من المشاركين. وكان إضفاء الطابع الأوروبي على التدخل، وفقا للمنطق الفرنسي، وسيلة لتخفيف اتهامات الاستعمار الجديد وفي نفس الوقت تأكيدا لاستقلالية أوروبا الإستراتيجية تجاه الناتو. وكان فريق العمل تاكوبا صغيرا ولكن كان من المتوقع أن يمهد الطريق لخطط أكثر طموحا نحو إنشاء دفاع أوروبي مناسب تدعمه فرنسا.
إلا أنه وُضع حد لوجود فرقة العمل تاكوبا في النهاية قبل أن تؤتي ثمارها، وكذلك تقرر إنهاء مهمة التدريب الخاصة بالاتحاد الأوروبي في مالي. وكان رفض السلطات المالية بعد الانقلاب العسكري الثاني في مايو 2021 هو السبب الرئيسي لإنهائها. وجعل ما يقارب العشر سنوات من الجهود الفرنسية لمكافحة الإرهاب غير الفعالة في الغالب التدخل الغربي غير مرحب به.
ولم تكن الأمور سلسة على الجانب الأوروبي أيضا، حيث تسببت الأحادية الفرنسية في إحباط الشركاء الأوروبيين. كما توزعت الرغبة في الانضمام إلى المشروع العسكري بشكل غير متساو. وتبقى العديد من القوات الأوروبية جزءا لا يتجزأ من بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي، وهي لا تنوي استثمار المزيد من القوات بل تعتمد على أشكال أبعد من المشاركة العسكرية، مثل القوة الجوية أو مهام التدريب.
وكان الانضمام إلى التحالف يعتمد بشكل أساسي على دبلوماسية المعاملات.
فستقول باريس لمدريد “نعم، ليست مكافحة الإرهاب هدفكم الرئيسي، لكننا متأكدون من أنكم تهتمون بالهجرة. فلماذا لا ترسلون رجال الدرك لوقف تدفق المهاجرين؟ ستساعدكم أهدافنا المتعلقة بمكافحة الإرهاب”. وفقا لهذا المنطق، يربح الجميع سياسيا على الرغم من أنه ينتهي عمليا بتشكّل مجموعة من المبادرات الأمنية غير مُتناسقة.
وقد يعتقد المسؤولون أثناء تواجدهم في بروكسل أن شعوب الساحل غير مدركة تماما لأهداف الاتحاد الأوروبي، ويعلم سكان الساحل أن الأوروبيين ليست لديهم نفس الأهداف التي كانت قبل أزمة مالي في 2012، وهي التنمية والتعاون. ويتمركز احتواء التهديد على جدول الأعمال هذه الأيام. وتوسّع الاتهام بالاستعمار الجديد الذي أرادت فرنسا مراوغته إلى أوروبا على نطاق أوسع.
ويؤيد الرأي العام الإقليمي، الضليع بالفعل في السرديات المناهضة للإمبريالية، بشكل متزايد نظرية المؤامرة التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي في منطقة الساحل. ولا يجعل رفض مالي الوحشي للتدخل الغربي القرار يختفي. حيث أن وجهة النظر الراسخة بأن منطقة الساحل ككل هي مصدر قلق أمني حاسم تعني أن جهود التوريق الأوروبية يجب أن توضع على عاتق البلدان المجاورة.
لكن هل استُخلصت الدروس من مالي؟ ستعيد عملية برخان العسكرية الفرنسية نشر نسخة معدلة من نفسها في النيجر، ومن المحتمل أيضا أن يكون الوجود الفرنسي محل خلاف. وقد لا يكون حتى النهج الخفيف كافيا، لأن نهج الحرب البعيدة الذي اختارته القوى الغربية يجلب مشاكله الخاصة، مثل تشبع المساعدة العسكرية والتنسيق والفعالية الإستراتيجية والمساءلة وما يُنظر إليه على أنه تدخل عن بعد في العواصم الأوروبية لا يُرى على هذا النحو في منطقة الساحل، حيث يتسبب المانحون والقوات الأوروبية في تشويه الديناميكيات الوطنية والإقليمية.
ويرى الباحثان أن التصور المشوه لمنطقة الساحل الذي يبالغ في التأكيد على التهديدات الديموغرافية والأمنية للقارة قد جعل التدخل الأوروبي ضرورة في أعين صانعي القرار في التكتل. ونمت المخاوف من منطقة الساحل إلى درجة أصبح فيها عدم التدخل مستحيلا.
منطقة الساحل أصبحت ملعبا لمراقبة الدول التي تعتبرها أوروبا منافِسة إستراتيجية مثل روسيا والصين وتركيا
لكن المخاوف لا ينبغي أن تصنع سياسة. وقد ألقى التاريخ الحديث للعلاقات بين أوروبا ومنطقة الساحل بظلال من الشك على طرق التدخل الفعالة. وبالنظر إلى القيمة التي أولتها أوروبا لمنطقة الساحل، فإن الفشل فيها قد يغرق أوروبا في بئر أعمق من انعدام الأمن.
ويتطلب إنشاء سياسات أوروبية فعالة الاعتراف ببعض الحقائق الأساسية. ومن غير المرجح أن تلبي سياسات التأطير التي تستند فقط إلى المخاوف الأوروبية تطلعات سكان الساحل في إحداث تغيير ذي مغزى ويتطلب بناء أنظمة سياسية مستقرة في المستقبل في منطقة الساحل مفاوضات محلية قد يتعين على المتمردين غير الليبراليين المشاركة فيها. ولكي يحدث هذا، تشتدّ الحاجة إلى مساحة مدنية مفتوحة وسليمة. وعلى المدى القصير ستتطلب تلبية الاحتياجات الإنسانية الناجمة عن الأزمة الممتدة تعبئة كبيرة للموارد، وهو ما يعني أيضا السماح للأشخاص بالتحرك.
ويوجد مجال لأوروبا لتقديم المساعدة بشكل هادف ومتواضع في هذه المجالات. لكن الباحثين غوكسه وجويشاوا يؤكدان أن زيادة عسكرة المنطقة لن تؤدي إلا إلى جعل الأمور أسوأ.
العرب