في ذكرى حرائق منطقة القبائل.. هل يُمكَّن الجزائريون من الحقيقة

في ذكرى حرائق منطقة القبائل.. هل يُمكَّن الجزائريون من الحقيقة

لم تكشف السلطات الجزائرية عن حقيقة الحرائق التي اشتعلت منذ عام في منطقة القبائل، وإنما تركت الجزائريين طوال عام أمام محاولة فك اللغز وتحليل التقارير الأمنية التي تثير شكوكا حول وجود مستفيدين داخل الجزائر وخارجها من الحرائق، كما أن السلطة قد تكون هي الأخرى مستفيدة من الحادثة.

الجزائر – مر عام على حرائق منطقة القبائل بخسائرها البشرية والمادية وبالجريمة المروعة التي كانت تحولا كبيرا في مسار الأحداث. ورغم أن الرواية الرسمية رمت بكل شيء على كاهل حركة “ماك” الانفصالية، إلا أن اللبس مازال يلف القضية، في ظل معطيات أخرى لا تبرئ ساحة السلطة.

وفي هذه الأيام القائضة يستذكر الجزائريون الحرائق المهولة التي اندلعت خلال العام الماضي في منطقة القبائل، مخلفة خسائر بشرية ومادية فادحة، وفوق ذلك جريمة اغتيال مروعة، وضعت البلاد على حافة حرب أهلية، لولا صوت الحكمة والعقل الذي غلب على رد الفعل.

وبالرغم من أن الرواية الرسمية حمّلت حركة استقلال القبائل (ماك) مسؤولية ذلك، إلا أن اللبس مازال يكتنف الأحداث، قياسا بنقاط الظل التي مازالت تبحث عن أضواء مركزة، وهي تراخي المؤسسات الرسمية أمام تغلغل عناصر مخربة من الداخل والخارج في المنطقة، وعجز مصالح الأمن عن حماية شخص احتمى بها، ليتم اغتياله بكل وحشية أمام الملأ وفي ساحة عمومية.

ولعل ما يعطي للأحداث قراءات متباينة هو ارتباطها بالأوضاع السياسية التي كانت تسود البلاد آنذاك وتسارع وتيرة التوازنات في هرم السلطة، فقد بلغ حينها الحراك الشعبي مرحلة متقدمة في الضغط على السلطة، ولا يختلف اثنان في أن منطقة القبائل كانت وعاء رئيسيا للاحتجاجات السياسية، ولذلك جاءت الأحداث التي تجمع السلطة والمعارضة على أنها مفتعلة، لتحدث الصدمة وتغير اهتمام الرأي العام.

اللبس ما زال يلف قضية حرائق منطقة القبائل التي اندلعت العام الماضي، في ظل معطيات أخرى لا تبرئ ساحة السلطة

وأفضت التحقيقات الرسمية إلى توقيف “أكثر من 100 شخص، وجهت لهم تهم ارتكاب أعمال إجرامية تندرج في خانة العمل الإرهابي”، وإلى “التلميح للنظام المغربي بالوقوف ودعم حركة ماك الانفصالية من أجل ضرب استقرار ووحدة البلاد، عبر افتعال الأحداث المروعة”، لكن قيادة الحركة في فرنسا “نفت ذلك ودعت إلى إجراء تحقيق دولي في المسألة”، ووجهت بدورها “أصابع الاتهام إلى الأجهزة الرسمية بغرض خلق فتنة اجتماعية بين الإثنيات والأعراق”.

وأظهرت شهادات أدلى بها موقوفون وبثها التلفزيون الرسمي وروج لها الإعلام الحكومي “افتعال الحرائق في المنطقة بإيعاز من حركة ماك”، وأنهم “كانوا يتلقون اتصالات وتوجيهات من داخل التراب المغربي”، وهي اعترافات لم تقنع رجال القانون والمنظمات الحقوقية بسبب ظروف تحصيلها وتمهيد توجيه الاتهام لأصحابها قبل مثولهم أمام القضاء.

وأبانت الحرائق المهولة التي شهدتها المنطقة العام الماضي عن تقصير وتراخ رسمي في التعامل مع الأحداث، حيث فشلت أجهزة الدفاع المدني والمتطوعون في وقف ألسنة النيران وتقليص الخسائر، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة للحكومة بسبب إنفاق المال في غير محله، بينما لا تملك الحماية المدنية (الدفاع المدني) الأجهزة اللازمة وطائرات إطفاء الحرائق.

ورغم ذلك أظهر المجتمع تضامنا منقطع النظير تجاوز بكثير جهود وإمكانيات المؤسسات الرسمية، فكان المتطوعون وكميات المؤونة والأدوية يتدفقون باستمرار على قرى محافظة تيزي وزو، ولم يظهر للجريمة المروعة التي راح ضحيتها الشاب المتطوع جمال بن إسماعيل أثر في التفريق أو إثارة النعرات الإثنية والعرقية بين أفراد الشعب.

وانتهت موجة الحرائق الضخمة إلى لون رمادي اكتسى المنطقة، وبقايا دخان ورائحة رماد، وخسائر بشرية ومادية غير مسبوقة، حيث تتحدث إحصائيات محلية عن 200 ضحية، فضلا عن نحو 20 عسكريا، وتهدم مئات من البيوت وتضرر مساحات واسعة من الحقول والمزارع ونفوق رؤوس ماشية وخلايا نحل.

وما زالت تيزي وزو تبكي ضحاياها وتتذكر بحزن شديد ودهشة صادمة وقع تلك الأحداث على المنطقة وعلى السكان، وفوق ذلك حملت ما لا تطيق من القراءات السياسية، فالسلطة بمؤسساتها الرسمية تضع المسؤولية على كاهل حركة “ماك” الانفصالية وتلمح إلى النظام المغربي، والمعارضون يعتبرون ذلك انتقاما للسلطة من المنطقة بسبب موقفها المناوئ لها والداعم للحراك الشعبي، ويستدلون على ذلك بالحملة الإلكترونية التي شنت من قبل على المنطقة وعلى سكانها بغرض شيطنتها وعزلها عن المنظومة الوطنية، فضلا عن فبركة أحداث لزيادة الشرخ بينها وبين باقي ربوع وإثنيات البلاد.

وينتظر أن تكشف المحاكمة، التي أجلت في وقت سابق، عن الكثير من ألغاز حرائق منطقة القبائل وجريمة اغتيال الناشط والمتطوع جمال بن إسماعيل، خاصة وأن التحقيقات الرسمية أفضت إلى عدة معطيات وصفت بـ”الخطيرة”، بينما لم يتم الاستماع لأقوال المتهمين إلى حد الآن.

وجمال بن إسماعيل هو شاب جزائري، اختار نهجا فنيا وتطوعيا لحياته، فكان ناشطا في مدينة خميس مليانة بمحافظة عين الدفلى (غربي العاصمة). ولأن روح الفنان والإنسان كانت تغلب على شخصيته، فقد كان يحمل بمعية رفاقه الماء والقمح إلى قمم الجبال لإرواء وإطعام العصافير، كما كان فاعلا في الاحتجاجات السلمية للحراك الشعبي.

ولما كانت الحرائق غير عادية في منطقة القبائل قرر التنقل إلى هناك للمساعدة على إطفاء الحرائق التي شهدتها المنطقة آنذاك، قبل أن ينقلب عليه الأمر ويراد له أن يتحول من متطوع وديع إلى مجرم شرس، حيث كالت له حشود غاضبة في بلدة ناث ايراثن بمحافظة تيزي وزو الاتهامات، واغتالته بطرق وحشية بعدما تم افتكاكه من رجال الأمن الذين احتمى بهم، فنُكل بجسده وأحرق حيا وبترت أطرافه أمام الملأ وفي ساحة عمومية.

التحقيقات الرسمية أفضت إلى توقيف أكثر من 100 شخص، وجهت لهم تهم ارتكاب أعمال إجرامية تندرج في خانة العمل الإرهابي

وحسب تقارير أمنية “كشفت التحقيقات الأمنية والقضائية عن وقائع خطيرة وخبايا عديدة فكت لغز الجريمة، وتبين أن الجريمة حصلت بالتنسيق مع بعض المتهمين الموقوفين، الذين اعترفوا بانتمائهم إلى الحركة الإرهابية الانفصالية (ماك)”.

وتفيد التقارير بأن جمال بن إسماعيل “قام بتصوير عناصر من الحركة لدى اعتدائهم على سيارة ونزع لوحات ترقيمها ثم تحطيمها، ليتوافق ذلك مع ما قاله أحد المشتبه فيهم بأن هناك أشخاصا على متن سيارة من دون ترقيم يقومون بإضرام النيران عمدا في المنطقة”.

ويوجد في حوزة المحققين “27 تسجيلا، من هاتف الضحية، قام بتسجيلها لتوثيق مساره ابتداء من خروجه من مقر إقامته بقصد المشاركة في مساعدة سكان منطقة تيزي وزو على إخماد الحرائق، وأن أحد عناصر الـ’ماك’ تفطن لتواجد جمال وقيامه بالتصوير فحرض الحشود الغاضبة عليه واتهمه بالتورط في الحرائق”.

وفي نهاية شهر مايو الماضي أحالت غرفة الاتهام بمجلس قضاء العاصمة قضية حرق وقتل والتنكيل بجثة جمال بن إسماعيل إلى محكمة الجنايات الابتدائية، وكان من المقرر حينها أن يمثل أمام هيئة المحكمة نحو 300 متهم، منهم أكثر من 100 عنصر يتواجدون في السجن لمواجهة تهم تتعلق “بجناية القيام بأفعال إرهابية وتخريبية تستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية، عن طريق بث الرعب في أوساط السكان، وخلق جو من انعدام الأمن من خلال الاعتداء المعنوي والجسدي على الأشخاص”.

العرب