تعاني أماندين -وهي أم أربعينية- وعائلتها من تراجع القدرة الشرائية، ومع تواصل الجائحة أكثر من عامين، تعقدت أوضاعها المعيشية أكثر؛ فاليوم بدأت تلجأ للاستدانة من صديقاتها وأقربائها لكي تجابه متطلبات الحياة، إذ تشير إلى أن الأسعار بلغت حدا لا يطاق مع تفجر الحرب الروسية الأوكرانية.
تقول أماندين (42 عاما) للجزيرة نت “أعيش مع طفلين، ورغم أن راتبي يعد محترما مقارنة بالكثير من الناس، فإنني في الأعوام الأربعة الأخيرة صرت ألجأ إلى الاستدانة من زملائي وأصدقائي؛ لأن الراتب ينتهي بسرعة نتيجة كثرة الالتزامات وغلاء الأسعار وارتفاعها بشكل لافت كل يوم”.
وتضيف “رغم أنني تخليت عن بعض المصاريف الجانبية وقلصت ميزانية الترفيه، وتخليت عن السفر في عطلة الربيع، فإنني لم أستطع بعد الاكتفاء بالميزانية نفسها، لذلك أفكر جديا في بيع سيارتي رغم حاجتي وحاجة أطفالي الملحّة لها”.
وتعمل أماندين موظفة في مكتب بريد، وتشكو من أن الارتفاع المطرد لأسعار المواد الأساسية، والزيادات المتتالية لأسعار الطاقة والبنزين من قبل الحكومة، لا يتواءم مع الزيادات في أجور الموظفين.
حرب التضخم
وتعد أماندين واحدة من بين 5.7 ملايين موظف حكومي فرنسي زادت رواتبهم بنسبة 3.5% في الأول من يوليو/تموز الماضي، وفقا لبيانات وزارة التحول والخدمة العامة.
وتأتي هذه الزيادة للأجور، في إطار الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الفرنسية لمجابهة تدهور القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، ومكافحة التضخم. ودخلت هذه الإجراءات حيز التنفيذ في الأول من أغسطس/آب الجاري.
وصوت البرلمان الفرنسي الأسبوع الماضي على رفع قيمة عدد من المكتسبات الاجتماعية بنسبة 4% في الأول من يوليو/تموز الماضي بأثر رجعي (مثل زيادة الرواتب التقاعدية) خلال مناقشات مشروع قانون لدعم القدرة الشرائية للفرنسيين.
وقامت السلطات الفرنسية برفع الحد الأدنى للأجور -للمرة الرابعة في أقل من عام- لمواجهة التضخم، وتعود آخر عملية تقييم للحد الأدنى للأجور إلى الأول من مايو/أيار الماضي.
وتمت إعادة تقييم الحد الأدنى للأجور وزيادته بنسبة 2% تقريبا اعتبارا من الأول من أغسطس/آب، وارتفعت أجرة ساعة العمل الصافية من 8.58 يوروهات إلى 8.76 يوروهات، وسيحصل العامل بدوام كامل على 1329 يورو (ما يعادل 1355 دولارا) شهريا بدلا من 1302 يورو (ما يعادل1327 دولارا).
وترى أماندين أن هذه الزيادات في الأجور والإجراءات ليست سوى ذر الرماد في العيون؛ لأنه على أرض الواقع يفشل الموظف والعامل في تحقيق توازنه المالي، خاصة مع ارتفاع الضرائب وأسعار النقل والطاقة والغاز.
ويقول الدكتور أشرف العيادي -الخبير المصرفي والمالي والمدير التنفيذي لشركة الاستشارات المالية “ألتافو بارتنرز”(Partenaires Altavo) بباريس- إن هذه الإجراءات لا يمكن أن تحسن القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي بسرعة؛ لأن ارتفاع مستويات التضخم أسرع بكثير من وتيرة زيادة الحد الأدنى للأجور.
ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن “الإجراءات التي وقع التصويت عليها في البرلمان ليست متسقة مع التحديات الكبيرة والمتسارعة التي يواجهها المواطن الفرنسي، خاصة الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي يعيش الكثير منها على المساعدات الاجتماعية”.
ويشدد على أن التحكم في أسعار المحروقات والطاقة والمواد الأساسية يبقى حلما بعيد المنال بالنسبة للحكومة الفرنسية التي لا تستطيع السيطرة على الأسعار؛ لأنها قدمت الكثير من المساعدات للمؤسسات في فترة كورونا، ومستويات العجز حاليا لا توفر هامش تدخل سريع وناجع وبصفة فورية للاستجابة لهذه المطالب المتزايدة.
أما فالكون أرنو، الكاتب العام لجمعية الإعلام والدفاع عن المستهلكين الموظفين “إنديكوسا- سي جي تي” (INDECOSA-CGT)، فيلاحظ أن هذه الزيادة البسيطة في الحد الأدنى للأجور ليست كافية ولا ناجحة؛ لأنها لا تتناسب ونسبة التضخم المرتفعة في فرنسا التي تبلغ اليوم 7%.
ويتابع قائلا -في حديثه للجزيرة نت- “الإجراءات الأخيرة تعد غير كافية ووقتية تم اتخاذها في رد فعل سريع على ارتفاع نسبة التضخم، ولم تكن عن دراسة متأنية ومقاربة جوهرية لأوضاع العمال والموظفين”.
والمشكلة اليوم تتمثل في غموض التطورات في المستقبل، خاصة على مستوى التضخم؛ فهناك من يتحدث عن نسبة تضخم ستبلغ 10% إلى 11% بنهاية العام.
ورغم هذه المحاولات المتكررة من الحكومة الفرنسية، فإن آخر الأرقام الرسمية -التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء بفرنسا- تظهر تدهور القدرة الشرائية وتراجعها في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 1.5% لكل وحدة استهلاك. ومن المتوقع أن تنخفض كذلك بنسبة 0.5% في الربع الثاني.
كما تظهر أرقام المعهد الأوروبي للإحصاءات “يوروستات” ارتفاع معدل البطالة في فرنسا إلى 7.4% مارس/آذار الماضي، بينما قفزت نسبة التضخم لتصل إلى 6.1%، يوليو/تموز مقابل 5.8% يونيو/حزيران الماضي.
وفي ظل هذا التذبذب والغموض يتساءل مراقبون، هل سيتواصل تدهور القدرة الشرائية في المستقبل، وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى احتجاجات وأزمة اجتماعية؟
يجيب الخبير المصرفي والمالي الدكتور أشرف العيادي عن هذا السؤال، مؤكدا أن مستوى التراجع سيكون مرتبطا بقدرة البنك المركزي الأوروبي والحكومات الأوروبية على التحكم في مستوى التضخم. ويشدد في الوقت نفسه على أن التحديات الكبرى ستطرح في الشتاء القادم، خاصة إذا تواصلت الأزمة الأوكرانية.
ويخلص إلى أن مسألة لجوء المواطن الفرنسي للاحتجاجات الاجتماعية مستبعدة نوعا ما في الوقت الراهن، رغم رسائل التحذير الواضحة التي أعطاها في الانتخابات الأخيرة.
وفي المقابل، يرى أرنو أن خيار الاحتجاجات وارد جدا، خاصة مع تجدد الدعوات -عبر وسائل التواصل الاجتماعي- للتظاهر في سبتمبر/أيلول المقبل. مما قد يقود إلى أزمة اجتماعية واحتجاجات واسعة في كامل البلاد.
ويرجع ذلك إلى تواصل تدهور القدرة الشرائية؛ لأن الحكومة اختارت الحلول السهلة ولم تفكر في حلول جوهرية عميقة.
أظهر استطلاع أجراه معهد “إيفوب” (IFOP) للإحصاءات من فترة أن 7 من كل 10 فرنسيين لاحظوا تدهورًا في قوتهم الشرائية منذ بداية ولاية ماكرون.
في حين رأى أكثر من خُمس المستجوبين أنه لم يحدث أي تغيير يذكر في تحسين القدرة الشرائية. ونتيجة لذلك، فإن القدرة الشرائية مصدر قلق كبير لـ82% من الأسر.
وفي السياق نفسه، يلاحظ العيادي أن العهدة الأولى لماكرون تميزت بالظروف الصعبة المحيطة بها، ولذلك فإنه لم يتمكن من تنفيذ خططه الإصلاحية التي انتخب من أجلها، وقضى أغلب الوقت في القيام بدور رجل المطافئ، أكثر من قيامه بدور رجل الاقتصاد والسياسة.
المصدر : الجزيرة