لا تطبيع حقيقيا بين أنقرة ودمشق

لا تطبيع حقيقيا بين أنقرة ودمشق

خفف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من حدة تصريحاته بشأن الأوضاع في سوريا حتى أنه ألمح إلى إمكانية تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد، لكن ما يبدو أنه تطبيع ظاهري، يخفي وفق محللين محاولة لاسترضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أغدق على أردوغان بالكثير من الامتيازات السياسية والعسكرية وهو ينتظر مقابلا لذلك، أوله تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.

دمشق – بعثت أنقرة في الآونة الأخيرة بالعديد من الإشارات والتصريحات الراغبة في إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، كان آخرها تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان الذي أعلن السبت رغبة بلاده في عقد خطوات مشتركة مع سوريا لما أسماه “مخططات خارجية في المنطقة”.

وقال الرئيس التركي للصحافيين أثناء عودته من أوكرانيا “ليس لدينا أطماع في الأراضي السورية لأن الشعب السوري شقيق لنا”. وأضاف “يجب أن يكون النظام (دمشق) على علم بذلك”. كما قال أيضا إنه لا يمكنه مطلقا استبعاد الحوار والدبلوماسية مع سوريا.

ويقول محللون إن الإشارات التي أرسلها أردوغان تنطوي على دافع رئيسي واحد هو استرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وليس الرئيس السوري بشار الأسد.

وكان الرئيس بوتين كافأ تركيا بحزمة امتيازات ومصالح في مجالي الطاقة والتجارة، في مقابل أن تلعب دورا للوساطة في النزاع مع أوكرانيا، وأن تكون معبرا للغاز الروسي إلى أوروبا، وأن تواصل الامتناع عن المشاركة في فرض العقوبات ضد موسكو.

ولكنه أراد منها في الوقت نفسه أن تطبع علاقاتها مع دمشق، بما يؤدي إلى تعزيز سلطة الرئيس بشار الأسد على أراضي بلاده، ويعزز من نفوذ روسيا في سوريا على حساب الولايات المتحدة وحلفائها الأكراد.

الرئيس أردوغان الذي يواجه انتخابات رئاسية في يونيو المقبل يريد أن يطبع العلاقات لمصلحته الانتخابية وليس لمصلحة دمشق

ولم يكن بوسع أردوغان أن يرفض العروض التي قدمت له، ولكنه، بينما حرص على أن يعمل بجد في الجانب المتعلق بأوكرانيا وبادر إلى تقديم إشارات بشأن استعداد بلاده لتطبيع العلاقات مع دمشق، إلا أن الشروط المتبادلة التي وضعها الطرفان لا تبدو واقعية بالنسبة

إلى كل منهما، كما أنها تتجاهل كليا موقف الولايات المتحدة، وكأنها غير موجودة. وهو عامل يؤكد أن المغازلات بين دمشق وأنقرة لن يمكنها أن تذهب بعيدا حيال الصخرة التي تعترض طريق تلبية الشروط المتبادلة.

وتقول مصادر مقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة إنها اشترطت لإعادة العلاقات مع دمشق “تطهير سوريا من عناصر حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، والقضاء على التهديدات على الحدود بشكل تام،

وانخراط دمشق في عملية دمج سياسي وعسكري مع المعارضة، واعتماد حمص وحلب ودمشق لاختبار تنفيذ خطة عودة السوريين، وتطبيق مسار جنيف، بما في ذلك إجراء انتخابات، والإفراج عن المعتقلين”.

أما الشروط التي وضعتها دمشق، بحسب المصادر ذاتها، فإنها تتضمن “تسليم إدلب ومعبري باب الهوى وكسب الحدوديين للحكومة السورية، ووضع الطريق الدولي حلب – اللاذقية ‘إم – 4’ تحت سيطرة دمشق بشكل كامل، والحصول على دعم أنقرة في مسألة رفع العقوبات المفروضة على دمشق، والتعاون في القضاء على الإرهاب، ودعم عودة سوريا إلى الجامعة العربية والمنظمات الدولية”.

ويقول مراقبون إن هذه الشروط غير قابلة للتنفيذ، وغير واقعية بالنسبة إلى كلا الطرفين، ليس لأنها تقلب الأوضاع الميدانية في الشمال السوري رأسا على عقب، وليس لأنها تتطلب الخوض في حربين ضد المعارضة الموالية لتركيا من جهة وضد المعارضة الكردية من جهة أخرى فحسب، ولكن لأنها تتجاهل أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن دعمها للأكراد، ولن تسمح بسحق قوات سوريا الديمقراطية بين حجري الرحى السوري والتركي في آن معا.

ويريد الرئيس أردوغان الذي يواجه انتخابات رئاسية في يونيو المقبل، وإن كان راغبا بسحق قوات قسد، وتوسيع الشريط الأمني الخاضع لسيطرته في شمال سوريا، أن يطبع العلاقات لمصلحته الانتخابية وليس لمصلحة دمشق. ومع ذلك، فإنه يواجه معارضة من جانب الولايات المتحدة التي تحتفظ بقواعد عسكرية في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وكذلك من جانب روسيا التي تريد أن تفتح الطريق لدمشق لكي تتمدد في هذه المناطق.

وانتهت قمتا طهران وسوتشي بالسماح لتركيا بتوجيه ضربات للأكراد، من دون المزيد من التمدد على الأرض. وبالنظر إلى المعارضة الأميركية، فإن هذه الضربات ظلت تقتصر على المناطق القريبة من الحدود مع تركيا، ولا تمتد إلى عمق الأراضي التي تسيطر عليها قوات “قسد”. وهو ما يشبه، بحسب المراقبين، القبول بأنصاف الحلول، أو بتعبيرات رمزية عنها، طالما أنها لا تنطوي على إشعال فتيل حرب واسعة.

وبناء على هذه المقاربة فقد دأب الأكراد على امتصاص الضربات الموضعية التركية والتعامل معها، بحسب وظيفتها المحدودة كمجرد تعبيرات رمزية، ذات دوافع انتخابية.

ويعرف الرئيس السوري بشار الأسد من جانبه أن موضوع الأكراد أكثر تعقيدا، ليس لأن حكومته احتفظت بعلاقات سابقة وطيدة مع حزب العمال الكردستاني، فحسب، بل لأن علاقاتها مع “قسد” تتراوح بين منافسة وتعاون، ولا يريد الطرفان أن ينقلبا بها إلى صراع مكشوف يؤدي الى إضعافهما معا، ويخدم أردوغان، ويثير احتمالات تدخل الولايات المتحدة.

وهذا لا يعني أن الحوار بين دمشق وأنقرة لن يبدأ. إلا أنه يعني أن هذا الحوار لن ينتهي إلى تطبيع شامل وفقا للشروط المعلنة. فالطريق طويل إلى درجة أنه يتجاوز مجرد عقدة الانتخابات الرئاسية في تركيا.

الإشارات التي أرسلها أردوغان تنطوي على دافع رئيسي واحد هو استرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وليس الرئيس السوري بشار الأسد

كما أن اعتراف أنقرة بوحدة التراب السوري، واعتراف أردوغان الصريح بأن بلاده ليست لديها أطماع في الأراضي السورية، لا يغيّران الكثير من المعادلات على الأرض. فتركيا تقول الشيء نفسه عن احترام سيادة العراق على أراضيه، ولكنها تنتهك هذه السيادة كل يوم تقريبا. ولا تعتزم سحب قواتها من القواعد غير الشرعية التي أقامتها داخل الأراضي العراقية. وهو ما ينطبق على سوريا أيضا. فإن لم تتمكن أنقرة من إقامة منطقة أمنية واسعة تخضع لسيطرتها على الشريط الحدودي بينها وبين سوريا، فإنها لن تتخلى عن قواعدها داخل سوريا.

ونُقل عن السفير السوري السابق في أنقرة نضال قبلان القول إنه “لا يمكن لتركيا أن تتحدث عن المصالحة، وفي نفس الوقت ترسل مزيداً من التعزيزات العسكرية إلى داخل الأراضي السورية، فالوجود التركي في سوريا هو احتلال ولا بد من زواله بشكل أو آخر”.

وبالعودة إلى الوضع الميداني، فإن الأوضاع ما تزال ملتهبة بما لا يفسح المجال للمناورات الدبلوماسية. ومع الهجمات التي شنها الطيران التركي على مواقع “قسد” والقوات السورية في منطقة عين العرب – كوباني، فقد شنت القوات السورية هجمات براجمات الصواريخ على مدينة الباب بريف حلب الشرقي، حيث قصفت منطقة سوق الهال القديم، ما أسفر عن مقتل 17 مدنيا بينهم ستة أطفال وإصابة أكثر من 35 بجروح خطيرة. وعلى غرار هذه الهجمات، فهناك سلسلة من المعارك والمواجهات والتعزيزات المتبادلة على امتداد الحدود، من شمال شرق حلب، وصولا إلى بلدة تل تمر بريف الحسكة الغربي.

وتشكل هذه المواجهات استمرارا للواقع الشائك، وتتجاهل المغازلات، لأن الأرضية ليست مهيأة لتغيّرات جذرية، كالتي وعدت بها استعدادات أردوغان لتطبيع العلاقات مع دمشق. ولكنها ظلت تحاول استرضاء الرئيس بوتين لخدمة المصالح والامتيازات الجديدة التي حصلت عليها تركيا منه. واستعدادات أردوغان للتطبيع مع دمشق إنما تقول لموسكو: “إيّاك أعني واسمع يا جار”.

العرب