يتخذ الرئيس التونسي من تطهير القضاء إحدى أولوياته في المرحلة الحالية، ذلك أنه لا يمكن الحديث عن إصلاح في باقي القطاعات بدون تركيز قضاء عادل لا يخضع للمساومات والإغراءات، وتشكل الدفعة الجديدة من الإحالات على القضاء لقضاة اختبارا حقيقيا لمدى تفاعل القضاة مع إرادة الإصلاح.
تونس – تدخل معركة تطهير القضاء في تونس فصلا جديدا بعد اتهام وزارة العدل العشرات من القضاة من بينهم من جرى إعفاؤهم في يونيو الماضي بتهم يحمل بعضها صبغة إرهابية، كالتستر على تنظيم أو عناصر إرهابية والتلاعب بمستندات، وبعضها الآخر في علاقة بفساد مالي، ورشوة، وغسيل أموال، وجرائم اقتصادية أخرى.
ويتساءل مراقبون كيف سيتعاطى القضاة التونسيون مع القضايا المرفوعة بحق زملائهم، لاسيما وأن وزارة العدل حرصت على تعزيز الملفات القضائية الموجهة بحق هؤلاء وعددهم 109 قضاة بحجج وتفاصيل، حتى لا تبدو هذه الاتهامات وكأنها تصفية حسابات سياسية، بحسب ما يروج له خصوم الرئيس التونسي قيس سعيد.
ويتخذ سعيد من معركة تطهير القضاء أولوية مطلقة، وسبق وأن شدد خلال كلمة له بمناسبة بدء العمل بالدستور الجديد الذي جرى الاستفتاء عليه في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، على أن “الشعب التونسي يريد تطهير البلاد وعلى القضاء أن يكون في الموعد لمحاسبة كل من خرب البلاد واستولى على مقدرات الشعب المنهوبة في الداخل والخارج”.
محمد ذويب: المواجهة الأقوى ستكون بعد انتهاء العطلة القضائية
وجدد الرئيس التونسي التأكيد على “الواجب المحمول على القضاة” وعلى ضرورة “تساوي الجميع أمام القضاء”.
ويقول المراقبون إن وزارة العدل التي تشرف عليها ليلى جفال وضعت من خلال عرضها لتفاصيل دقيقة عن التهم الموجهة للقضاة المعنيين، السلطة القضائية في تونس أمام اختبار صعب، بين الحياد، وهو واجب القاضي، أو محاولات الالتفاف على هذه القضايا، وتفريغها من محتواها، أو التسويف في حسمها، على غرار ما حصل بالنسبة إلى العديد من القضايا التي أثارت الرأي العام المحلي ولم يجر الحسم فيها.
وأعلنت وزارة العدل السبت في بيان لها أنه “عملا بأحكام المرسوم 35 لسنة 2022 (المتعلق بإعفاء القضاة) تعهدت النيابة العمومية المختصة بالملفات (109 ملفات)، وأذنت بإحالة عدد هام منها على الأقطاب القضائية المختصة في جرائم الإرهاب والفساد المالي”.
وأضاف البيان أنه “تم فتح أبحاث تحقيقية في الغرض من أجل عدة جرائم كالفساد المالي والرشوة وغسيل الأموال والجرائم الاقتصادية والديوانية (الجمركية)، بالإضافة إلى جرائم ذات صبغة إرهابية كالتستر على تنظيم إرهابي وتعطيل الإجراءات والانحراف بها”.
وتابعت الوزارة في بيانها “إلى جانب جرائم أخرى كإخفاء ما تثبت به الجريمة والتفريط في وسائل الإثبات الجنائي وغيرها من الجرائم المتمثلة في التدليس واستغلال خصائص الوظيف والإضرار بالإدارة وجرائم التحرش الجنسي ومخالفة القوانين المنظمة للأسلحة والذخيرة”.
وأشار البيان إلى أنه “تمت إثارة التتبّعات الجزائية (ملاحقات قضائية) ضد القضاة المعفيين”.
وأوضح أن الوزارة “أعلمت المجلس الأعلى المؤقت للقضاء العدلي بقائمة القضاة المعفيين موضوع التتبّعات الجزائية (لم تسمهم)”.
وقال المحلل السياسي محمد ذويب “يبدو أن وزيرة العدل ماضية قدما في إصلاح القضاء عملا بتوصيات رئيس الجمهورية، ولهذا تمت إحالة ملفات 109 من القضاة على دوائر مختصة عملا بالمرسوم عدد 35 الصادر بتاريخ الأول من يونيو 2022 كما أن القائمة قابلة للارتفاع، وعموما لم تؤت تحركات القضاة ونقاباتهم أكلها في المرات السابقة كما أن تفاعل الرأي العام التونسي معهم كان ضعيفا”.
وأضاف ذويب في تصريحات لـ”العرب” أنه “بانتهاء العطلة القضائية ستكون المواجهة أقوى، ولكن أعتقد أن إرادة رئيس الجمهورية ووزارة العدل في الإصلاح أقوى، فالجميع يعرف أنه رغم وجود قضاة شرفاء، فإن الجسم القضائي بصفة عامة ينخره الفساد وهو ما أثّر على مدى نجاح أي عملية إصلاح أو مقاومة للفساد في بقية القطاعات الأخرى، فالتونسيون مازالوا ينتظرون كشف حقيقة الاغتيالات السياسية والجهاز السري وقضايا التسفير (تسفير الشباب للقتال في بؤر التوتر) واللوالب القلبية الفاسدة ووفاة الرضع والقمح المسرطن والنفايات الإيطالية وابتزاز رجال الأعمال الفاسدين واللوبيينغ وغيرها من القضايا التي تنتظر أجوبة”.
حاتم المليكي: القضاة اليوم أمام وضعية صعبة جدا بعد إحالة الملفات
وأردف المحلل السياسي التونسي “القضاة يتحملون مسؤوليتهم لأنهم رفضوا الإصلاح من الداخل رغم أن الرئيس سعيّد قد أعطاهم فرصة لذلك واستقبلهم أكثر من عشر مرات في قصر قرطاج ودعاهم للإصلاح، لكنهم خيروا التمادي في الهروب إلى الأمام وعدم كشف حقيقة كل الملفات التي تحدثت عنها”.
وتابع “نحن نريد قضاء مستقلا وعادلا يحكم وفق الأدلة والبراهين والحجج، ولا نريد قضاء شخص أو جهة أو حزب”.
ولفتت وزارة العدل في بيانها إلى أنه منذ يونيو الماضي تم تكليف التفقدية العامة بمهمة جرد مكاتب القضاة الذين جرى إعفاؤهم في السابق قصد تحديد المسؤوليات مما اقتضى اتخاذ الإجراءات القانونية في شأن بعض المكاتب وإحالة تقارير الجرد على النيابة العمومية المختصة التي أذنت بفتح الأبحاث الجزائية اللازمة بشأنها.
وأكدت على أن عملية الجرد لا تؤثر على سير العمل ولا على حقوق المتقاضين، وأنه منذ تعهد التفقدية العامة بالعملية لم “تسجل أي إشكالات، وذلك على خلاف ما يدعيه البعض، غايتهم في ذلك تعطيل إتمام عملية جرد المكاتب والتأثير على مسار المحاسبة”.
ويخشى البعض من تعمد الأجسام النقابية التابعة للسلطة القضائية تعطيل سير معركة تطهير القضاء، في ظل حديث بعض أعضائها عن نية لتصعيد جديد على خلفية الإحالات الجديدة إلى القضاء.
وقال الباحث في العلوم الجيوسياسية رافع الطبيب إن “التعاطف القائم بين القضاة ليس له أي علاقة بنواميس العمل النقابي، وهناك أقلية بارزة من القضاة وهي مجموعة الأيادي الطويلة التي استعملتها المنظومة السابقة (الإخوان) في ابتزاز العديد من التونسيين ورجال الأعمال”.
وأضاف في تصريحات لـ”العرب” أن “هذه المجموعة التي طالتها اليوم المحاسبة وفتح الملفات، هناك جزء من القضاة يدافعون عنها ليس من باب تطبيق العدالة، بل دفاعا على ما تمّ اكتسابه من أدوار باستعمال القضاء، وهؤلاء أوغلوا في القطاعية التي أعطتهم مساحات كبيرة من الفعل السياسي وتحولوا إلى جزء من السلطة من خلال التلاعب بقضايا الإرهاب”.
رافع الطبيب: التعاطف القائم بين القضاة ليس له أي علاقة بنواميس العمل النقابي
وأوضح الطبيب “رأينا في العديد من المحطات كيف أن القضاة لم يطبّقوا القانون، والدولة والأجهزة الأمنية والاستخبارات لديها كل المعطيات والتفاصيل حول ملفات القضاة وممارسات الفساد”، داعيا القضاء إلى “التحرك سريعا دون ولاءات أو قطاعية بخصوص هذه الملفات”.
واستطرد “نأمل ألاّ تكون هناك اختراقات للقضاء بشأن هذه القضايا، والخوف أن يتسرّب أشخاص لا زالوا يؤمنون بإمكانية إسقاط قرارات الخامس والعشرين من يوليو”.
وأصدر الرئيس التونسي في يونيو الماضي أمرا رئاسيا قضى بإعفاء سبعة وخمسين قاضيا من مهامهم بتهم بينها “تغيير مسار قضايا” و”تعطيل تحقيقات” في ملفات إرهاب وارتكاب “فساد مالي وأخلاقي”، وهو ما ينفيه القضاة المعفيون.
وأعلنت وزارة العدل في بيان في الرابع عشر من أغسطس الجاري أن القضاة المشمولين بقرار الإعفاء مازالوا محل تتبّعات جزائية، بعد صدور قرار عن المحكمة الإدارية بتونس يقضي بوقف تنفيذ قرار عزل عدد من القضاة، بحسب بيان قضائي.
وقوبل مرسوم عزل القضاة الـ57 برفض من نقابات وأحزاب تونسية معارضة للرئيس سعيد.
وقال الناشط السياسي حاتم المليكي في تصريح لـ”العرب” إننا “مازلنا لا نعرف إن كانت الإحالات الجديدة قد تمت قبل صدور قرار المحكمة الإدارية أم بعده”، مشيرا إلى أن المسألة حساسة جدا، وأن القضاة اليوم يواجهون وضعية صعبة جدا.
العرب