بالنظر إلى الأوضاع والأحداث الميدانية، صار من الصعب الحديث عن اتفاق سلام سريع بين روسيا وأوكرانيا، بل يرجح المحللون أن تتحول الحرب إلى صراع طويل الأمد خاصة مع التمدد الروسي البطيء والدعم الغربي لأوكرانيا في مقابل تشديده الضغوط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ميكولايف (أوكرانيا) – عندما أطلقت روسيا غزوها لأوكرانيا في فبراير، كان الكرملين يأمل في أن ينفّذ اجتياحًا خاطفًا لكييف وأن يطيح سريعا بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأن يصبح محرّرا في نظر عدد كبير من الأوكرانيين.
إلا أن خطّته فشلت. فقد تكبّد الجيش الروسي خسائر كبيرة وأُرغم على الانسحاب من منطقة كييف، إلى مناطق أخرى زراعية في الجنوب، وتحوّل النزاع إلى حرب استنزاف.
وجعلت روسيا من السيطرة على منطقة دونباس شرقًا، أولوية، فيما لا تزال المقاومة الأوكرانية الشرسة تعتمد إلى حدّ بعيد على المساعدة التي يقدّمها حلفاء كييف الغربيون.
ديميتري مينيك: هناك فقدان للزخم والجبهة تشهد استقرارا
يقول طبيب عسكري من على جبهة القتال في جنوب أوكرانيا “علينا أن نكون مستعدين لاحتمال أن تستمر الحرب لفترة طويلة” .
ويتابع طبيب الأسنان الذي يناديه زملاؤه بلقب “دوك” (40 عاما) “هناك دموع كثيرة ودماء كثيرة. الأمر يفطر القلب .”
ويضيف أن الحرب “تدمر تاريخ أجيال كثيرة”، فيما ستكون قد مضت ستة أشهر على اندلاعها الأربعاء.
يسكب رفاقه أوعية من الحساء الساخن داخل مجمع محصن تحت الأرض تحيط به حواجز حديدية صدئة لصد تقدم الدبابات وتنتشر فيه القطط والكلاب الضالة. ويجلس رجل على رأس الطاولة وعلى ذراعه وشم “لا تُسلم” .
يفصح ميكولا الجندي ذو الواحد والأربعين عاما وقد جلس على يساره، “ستة أشهر من الحرب، هذا لا يسبب فقط آلاما موجعة للبلاد، بل أيضا ألما صغيرا شخصيا داخل كل واحد منا” .
لا يتكتم مساعد قائد الكتيبة أرتام (30 عاما) على الأمر بل يقول “أعلمنا جنودنا بأن النزاع يمكن أن يستمر لسنوات” .
وأعلنت أوكرانيا منذ أسابيع قليلة عن تنفيذ هجمات مضادة في الجنوب تباطأت في شنها بسبب تأخر وصول مساعدات الأسلحة من دول غربية.
وحين سُئل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الجمعة خلال زيارة إلى أوديسا (جنوب أوكرانيا) عما إذا كان هناك أمل في أن تنتهي الحرب، أجاب بعد أن أغمض عينيه وتردد “الوضع صعب جدا، وآفاق السلام غير مؤكدة .”
لا تظهر تسويات أو مفاوضات سلام في الأفق، في ظلّ المواقف شديدة التناقض
ولا جديد على جبهة الحرب في ميكولايف وهي أهم مدينة في الجنوب كان يسكنها نحو نصف مليون شخص قبل الهجوم الروسي.
بللت أمطار الشتاء الملصقات المساندة للجيش ومزقتها رياح الربيع وجعلتها حرارة الصيف باهتة. وبدأت خياطة أكياس الرمل الموضوعة أمام الحواجز تنسل فيما نبتت الأعشاب بين التجاويف.
وسقطت خلال الأسابيع الأولى من الحرب قنبلة على سطح مبنى الحكومة المحلية وقتلت 37 شخصا وظلت الحفرة التي تركتها واضحة إلى اليوم في المنطقة التي يستهدفها القصف بشكل متواصل.
والأسبوع الفائت قُصفت جامعة بيترو – ميغيولا على البحر الأسود مرتين. ودمر المدخل الرئيسي بالكامل وكذلك أجزاء من السقف وتهشم زجاج النوافذ. ومن خلال الواجهة المدمرة يمكن رؤية قاعات الدراسة.
قال مدير الجامعة ليونيد كليمونكو وقد وقف داخل قاعة خلف القصف فيها فجوة “يهاجمون المدارس والمستشفيات والميناء والبنى التحتية في المدينة.. من الواضح أنهم يريدون تدمير نظام التعليم الأوكراني بالكامل وتدمير الروح الأوكرانية وتدمير كل ما هو أوكراني”.
مع اقتراب الحرب من شهرها السابع، لا يبدو في الأفق بصيص أمل. وتمتد تداعيات الحرب على كافة دول العالم، وخاصة تلك المتعلقة بأزمة الغذاء.
والجمعة، زار الأمين العام للأمم المتحدة ميناء أوديسا ليشهد تطبيق الاتفاق. لكن خيمت على زيارته مخاوف شديدة حول محطة زابوريجيا النووية.
وتقع المحطة وهي الأكبر في أوروبا على بعد 200 كلم شمال شرق ميكولايف وتسيطر عليها القوات الروسية منذ بدء الحرب. وتتعرض المحطة بشكل متواصل للقصف ما يثير مخاوف من حدوث كارثة نووية.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة لفرانس برس “لن يكون من السهل إيجاد مسار للسلام على المدى القصير، ولكن يجب الإصرار على ذلك لأن السلام هو أهم ما يحتاج إليه العالم” .
ماري دومولين: نحن في طريقنا إلى صراع قد يكون طويلا جدا
ولكن لا يبدو أن أي سلام سريع سيعقد بين الطرفين، حيث يتمسك كل منهما بالقتال.
ولا يرى المحلّلون أي سبب وراء وقف الصراع، إذ لا تظهر تسويات أو مفاوضات سلام في الأفق، في ظلّ المواقف شديدة التناقض.
ويقول ديميتري مينيك الباحث في مركز روسيا التابع للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية “تشهد الجبهة استقراراً. حتى لو استمرّ الجيش الروسي في شنّ هجمات محدودة، إلّا أننا نرى أنّ هناك فقداناً للزخم؛ موسكو في موقف دفاعي في جزء كبير من المواقع المتقدّمة وفي جزء من خطوطها الخلفية في أوكرانيا” .
ويضيف “من المحتمل أن يشنّ الجيش الأوكراني عملية واسعة النطاق لاستعادة جزء من منطقة خيرسون، أو حتى مدينة خيرسون، على المدى القريب أو المتوسط” .
وبالنسبة إلى ماري دومولين، مديرة برنامج “أوروبا الأوسع” في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، فتؤكد “نحن في طريقنا إلى صراع قد يكون طويلاً جداً، بالنظر إلى أنّ هناك بداية لشكل من أشكال توازن القوى بين الطرفين”.
تقول “يمكننا التفكير في أن الصراع قد يدوم حتى سنة 2023 على الأقل”، مشيرة إلى أن انتخابات رئاسية مقرّرة في البلدين سنة 2024. وتتساءل “هل سيلعب ذلك دوراً، وفي أي اتجاه؟ .”
كونستانتين كالاتشيف: الصراع بين روسيا وأوكرانيا قد يستمر لسنوات
من جهته، يرى المحلل السياسي الروسي كونستانتين كالاتشيف في حديث أنّ الصراع قد يستمر “لسنوات أخرى” .
ويقول “روسيا تفتقر إلى الموارد البشرية، إنها غارقة في المستنقع. لكن أوكرانيا أيضاً تفتقر إلى الموارد البشرية لشن هجوم مضاد، وليس لديها أسلحة هجومية ثقيلة” .
وقد يكون الشتاء صعباً على المجتمع الأوكراني، في ظل احتمال حدوث انقطاع في إمدادات التدفئة.
وتشير دومولين إلى أن “البلاد على وشك التخلّف عن السداد؛ هناك 40 في المئة من المدارس التي لن تتمكن من فتح أبوابها في بداية العام الدراسي؛ هناك نقص في الوقود” .
وتؤكد الخبيرة أن “الأوكرانيين لديهم الرغبة في تحقيق انتصار تكتيكي على الأقل بحلول الشتاء، لأنّ ذلك سيعيد تحفيز القوات والمجتمع، كما يبرّر مطالبهم من الشركاء الغربيين” .
ويوضح مينيك أنّ الجيش الأوكراني يتمتع بميزة “الإمداد بالأسلحة والمعدّات الغربية التي قد تكون من الجيل الأحدث أو متفوقة على ما يملكه الجيش الروسي، كما أن الأوكرانيين يتمتّعون بميزة الدفاع عن أراضيهم ومعنوياتهم أعلى” .
ولا يعتقد الباحث أن “الشعب الأوكراني موجود في حالة من التأرجح بين جانب وآخر، أو أن تكون الحرب قد أنهكته إلى حدّ زعزعة استقرار السلطة السياسية؛ فهو موحّد حول الحكومة الأوكرانية .”
في المقابل، يقول كريس ويفر مؤسس شركة الاستشارات “ماكرو أدفايزوري”، إن “الاقتصاد الروسي ليس في أزمة حالياً فالحكومة تستخدم عائدات الميزانية من البرامج الاقتصادية والصناعية لتمويل الجيش وتأمين مساعدات اجتماعية والدعم في المجال التوظيفي والدخل”.
تشير الباحثة ماري دومولين إلى أنّ تأثير العقوبات “بدأ يظهر في بعض القطاعات”. وتقول “لدى الحكومة الروسية احتياطات؛ كما أنها تملك دعامة مالية تساعد في تخفيف الآثار قليلاً، لكن ذلك لن يستمر إلى الأبد. قد يبدأ الشعور بقوة بآثار الانكماش في النشاط الاقتصادي في الخريف”.
وتضيف “لكنني لا أظن أنّ فلاديمير بوتين قد يتخلّى عن حربه لمجرد انخفاض النشاط الاقتصادي” .
بدوره، يشير كالاتشيف إلى أن “احتياطي الصبر لدى الروس أكبر بكثير مما هو لدى الأوروبيين”. ويقول “تأمل روسيا في الفوز عن طريق الاستنزاف .”
ويظل السيناريو الأكثر ترجيحاً هو “إطالة أمد الحرب”. تقول دومولين “يمكننا الاعتماد بشكل معقول على هذا السيناريو”، مشيرة إلى “تراخٍ تدريجي سيبدأ في الظهور لدى الجانب الغربي، وبالتالي لن يسهّل دعم أوكرانيا .”
ويأتي ذلك فيما يتعيّن على الدول الأوروبية التخفيف من استياء شعوبها بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
مع اقتراب الحرب من شهرها السابع، لا يبدو في الأفق بصيص أمل. وتمتد تداعيات الحرب على كافة دول العالم
ويقول مينيتش “نحن في حرب مواقع وسط احتلال روسي متواضع وبطيء للأراضي، ودفاعٍ شرس من قبل جيشٍ أوكراني أكثر براعة ورشاقة.”
غير أنّ دومولين ترى أنّه “من المحتمل أن يصل الأمر إلى نقطة يعتمد فيها بوتين على التراخي الغربي ويبدي بعض الانفتاح… ويحث القادة الغربيين على الضغط على أوكرانيا من أجل إنهاء الصراع وفقاً للشروط الروسية .”
وبحسب رأيها، حتى لو كان السيناريو الأقل ترجيحاً، لا يمكن للمرء استبعاد سيناريو “يواصل فيه الغربيون دعمهم لأوكرانيا، وأن يتمّ في مرحلة ما تعديل التوازن بين القوات الروسية والأوكرانية على الأرض، لصالح أوكرانيا .”
بالنسبة إلى ديميتري مينيتش فإن “ما قد يُفاقم الوضع بين السلطة الروسية وما تبقى من المجتمع المدني هو إعلان الحرب والأحكام العرفية أو التعبئة العامة .”
ويشير إلى أنّه “سيكون من الصعب السيطرة على الوضع في المدن الكبرى مثل موسكو أو سانت بطرسبرغ، حيث للخطاب المهووس ضد الغرب تأثير أقل” .
العرب