كانت المهمة الأصعب في زيارة بايدن هي إيضاح المخاطر المنطوية على العودة إلى الاتفاق النووي، وفي هذه المهمة باءت إسرائيل -كما كان متوقعاً- بفشل ذريع (لا بالإيضاحات – بالنتائج). وذلك لتواصل الإدارة بتصميم ارتكاب كل الأخطاء المحتملة والسعي للعودة إلى الاتفاق، وتساعدها في ذلك أصوات غير مسؤولة من مسؤولين إسرائيليين كبار، ممن اعتزلوا، لكن أيضاً من مسؤولين كبار لا يزالون في مناصبهم – في إحاطات “ممنوعة” وفي لقاءات مع نظراء من الخارج، بخلاف الموقف الرسمي.
رئيس الأركان، ورئيس الموساد، ورئيس “الشباك”، والقيادة السياسية – كلهم مقتنعون بأن العودة إلى الاتفاق خطأ حرج، ويعملون بكد على أن يقنعوا بذلك، وإن كانت هناك ادعاءات بأن القيادة السياسية لا تستخدم “صوتاً عالياً بما يكفي” لنقل الرسالة إلى الولايات المتحدة. وكما هو دارج في الديمقراطية، يجدر بالمرؤوسين ومقرري السياسة أن يسيروا إلى الخط في اتصالاتهم مع نظرائهم. في المداولات المغلقة من حقهم بل وحتى من واجبهم أن يعرضوا موقفهم، لكن بعد أن يتقرر الموقف الرسمي يكون محظوراً عرض موقف مختلف في الخارج.
الخطاب الأمريكي والإيراني حادان، وكل طرف يشدد على إنجازاته في المفاوضات ويصرح بأنه كاد لا يتنازل، وأنه لن تكون تنازلات أخرى، لكن لأسفي، هذا هو الوضع في الجانب الإيراني فقط.
رغم أن جولة المحادثات الرسمية الأخيرة انتهت ظاهراً بفشل ذريع، ولم يوافق الإيرانيون على قبول الاتفاق كما عرض عليهم، دارت منذئذ اتصالات حثيثة بين بروكسل وواشنطن وطهران. أضاف الأوروبيون إلى اقتراحهم “الأخير” في تنازلات مهمة إضافية، بينما أعاد الإيرانيون جواباً بأنهم يحتمل أن يكونوا مستعدين لقبول العرض لكنهم أعادوه للأمريكيين كي يجروا فيه “بضعة تنازلات أخرى فقط”.
الإيرانيون يصرون
الاتفاق غير نهائي حتى الآن، ولم يوقع بعد، لأن الإيرانيين على ما يبدو كعادتهم، يحاولون ابتزاز المزيد من التنازلات في اللحظة الأخيرة. ومع أن الإعلام في واشنطن توقع التوقيع في نهاية الأسبوع الماضي، لكن هذا لم يحصل حالياً، بسبب الإصرار الإيراني.
يدور الحديث عن اتفاق سيئ جداً في معظم مراحل المفاوضات قاده بوتين ومبعوثه أوليانوف، الحقيقة التي لم تتغير. روسيا تواصل الهجوم في أوكرانيا، بينما إيران تساعدها في الوسائل القتالية وبالمشورات لتجاوز العقوبات. الإيرانيون يبعثون بالتوازي بطواقم التصفية لبومبيو وبولتون ومسؤولين أمريكيين آخرين، لكن رغم كل شيء، تواصل الولايات المتحدة وأوروبا السير على الخط مع التطلع للوصول إلى اتفاق بأي ثمن، بينما تنظر كل من روسيا والصين باستمتاع إلى الإهانة التي توجهها إيران. مشوق أن نعرف كم من الوقت سيدعي الإيرانيون والأمريكيون بأن البصقة في وجوههم هي “مطر بركة”؟ الاتفاق المتبلور أسوأ بكثير من اتفاق 2015. صحيح أنه يقوم على أساسه، لكنه يتضمن تنازلات أخرى عديدة، فضلاً عن أنه لا يراعي الزمن الذي انقضى منذ التوقيع والزمن القصير المتبقي لنفاد مفعول كل القيود. الاتفاق لا يراعي مكتشفات الأرشيف النووي والخروقات التي اكتشفتها الوكالة الدولية في المواقع في إيران في كل ما يتعلق بتطوير منظومات السلاح.
التنازلات التي تمت حتى الآن تتضمن موافقة على إبقاء الموجودات التي جمعتها إيران في أثناء خروقات الاتفاق السابق، كأجهزة الطرد المركزي المتطورة وغيرها من أدوات الإنتاج الأخرى، ورفع عقوبات شامل، بما في ذلك عن الشركات التي تعقد الصفقات مع الحرس الثوري – وهذا ليس بعيداً عن شطب الحرس الثوري من قائمة محافل الإرهاب. رفع العقوبات سيضخ لإيران مئات مليارات الدولارات بشكل فوري وحتى تريليون دولار في نهاية الاتفاق. والمال سيسمح للإيرانيين بإعادة بناء الاقتصاد، وتعظيم التطوير والتسلح النووي والتقليدي، وتشديد الدعم للإرهاب عبر “حزب الله” وحماس والجهاد الاسلامي والحوثيين وغيرهم. الإيرانيون مصرون على تلقي ضمانات كافية من الولايات المتحدة لحالة أن يلغي رئيس جمهوري الاتفاق مرة أخرى، والطرفان يحاولان إيجاد صيغة مقبولة في القانون الأمريكي وتضمن للشركات التي تعقد الصفقات مع إيران سنتين ونصف سنة على الأقل من الهدوء من العقوبات. إضافة إلى ذلك، يصر الإيرانيون على اتفاق مسبق على آلية تضمن إغلاق كل الملفات المفتوحة في الوكالة الدولية كشرط لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، مما سيدهور مكانة الوكالة التي ستكون مسؤولة عملياً عن إنفاذ الاتفاق.
نقف على ما يبدو قبيل التوقيع على الاتفاق. وقد يكون تمديد الوقت من ناحية الإيرانيين يجعل الأمريكيين يقررون بأن الانتظار حتى الانتخابات في تشرين الثاني مريحاً لهم. على أي حال، إسرائيل ملزمة بالتخطيط لإمكانية واقعية تتمثل بتوقيع قريب على الاتفاق.
لقد طور الرئيس رونالد ريغان في حينه عقيدة لانهيار الاتحاد السوفياتي من خلال استخدام أدوات متعددة المجالات، وأساساً اقتصادية مثلما يصف كتاب “النصر” الشهير ومقالات أخرى كتبها كبار مسؤولي الـ FDD في 2017. صحيح أن إسرائيل ليست الولايات المتحدة، لكن إيران أيضاً ليست الاتحاد السوفياتي. ورغم المال الذي سيضخ لهم مع توقيع الاتفاق سيبقى اقتصاهم هشاً.
إضعاف النظام
إذا ما وقع الاتفاق، فإن معالجة منع القدرة الإيرانية على تخصيب اليورانيوم إلى مستوى عسكري، بالكمية اللازمة للقنبلة، ستكون على ما يبدو بتقديري من خلفنا، دون صلة بقدرات جديدة نطورها. أحد السبل المنطقية التي ستبقى لمعالجة إيران سيكون من خلال خطط شاملة لإضعاف النظام. لسنا ملزمين ببناء خطط تؤدي إلى تغيير النظام، بل يكفي إضعافه كي يمتنع عن أعمال استفزازية تحت الاتفاق. فمثلاً، الهجمات الأخيرة التي نفذت داخل إيران المنسوبة لإسرائيل، تسببت بجنون اضطهاد وهستيريا وإعادة تفكير وتغيير بعض السلوكيات العدوانية. هذا مثال على تغيير فكري يؤدي بسرعة إلى نتائج غير متوقعة.
أولئك الذين يدعون بأن العودة إلى الاتفاق سيئة جداً لكنها البديل الأقل سوءاً لأنها ستسمح لإسرائيل بإعداد قدرات أفضل للعمل، مخطئون ومضللون. فالزمن الذي “ستكسبه” إسرائيل سيكلفها غالياً، لأن إيران وهي تحت الاتفاق ستحسن قدراتها وبناها التحتية النووية، وستقترب من وضع لا تكون فيه القدرات الجديدة التي ستبنى ذات صلة. فمثلاً، الموقع التحت أرضي الجديد الذي تبنية إيران وسيستخدم على ما يبدو كمنشأة تخصيب مستقبلية. تحت الاتفاق، حتى لو تقدمت إيران جداً، سيكون صعباً جداً على إسرائيل استخدام القدرات التي تكون بنتها ظاهراً في الزمن الذي “كسبته”. بالمقابل، بدون اتفاق، ستكون إيران في موقف ضعف وبلا شرعية، حتى لو رغبت في اقتحام القنبلة بسرعة أكبر. العودة إلى الاتفاق ستسمح لإيران بيقين، وان كان بشكل أبطأ، الوصول إلى مكانة دولة حافة نووية وإلى قنبلة، ما سيؤدي إلى سباق تسلح واسع في منطقتنا.
رئيس الأركان الأسبق دان حلوتس، قال هذا الأسبوع في مقابلة لـ استي بيرز في الشبكة ب إن “الاتفاقات السيئة أفضل دوماً من الحروب الجيدة”، وهذا خطـأ استراتيجي. الاتفاقات السيئة تؤدي بشكل عام إلى حروب سيئة أكثر بكثير من “الحروب الجيدة”، التي ينبغي أحياناً الدخول إليها بدلاً من احتواء الاتفاقات السيئة. الجيش والموساد وكل جهاز الأمن يتلقون ميزانيات وتفضيلات بالضبط لهذا الغرض، ويجدر بهم الاستعداد للقتال عند الحاجة، في ظل التطلع بالطبع لمنع الحروب قدر الإمكان.
إسرائيل ملزمة بأن توضح للرأي العام ولأصحاب القرار، ولا سيما في الولايات المتحدة، المخاطر المتوقعة من إيران نووية، وبالتوازي مواصلة بناء شرعية لتعميق المعركة ما بين المعارك والبدء بالتفكير في تغيير فكري إلى خطة شاملة لإضعاف إيران، في مستوى “عقيدة ريغان” بما في ذلك مقاييس لقياس النجاعة.
القدس العربي