بدأ حزب رئيس الوزراء السابق نتنياهو باستهداف “المحكمة العليا” في إسرائيل وسائر المؤسسات في البلاد التي سعت إلى محاسبته خلال فترة ولايته السابقة.
خلال الخريف الماضي، وبعد أشهر قليلة من إزاحة بنيامين نتنياهو أخيراً من منصبه كرئيس وزراء إسرائيل، ظهر منافس له من داخل حزب “الليكود” اليميني الذي يتزعمه. فقد أعلن يولي إدلشتاين، رئيس الكنيست السابق وأحد كبار الوزراء في الحكومة الإسرائيلية السابقة، عن ترشحه ضد نتنياهو لقيادة الحزب قبل إجراء أي انتخابات جديدة. وقال في هذا الصدد: “لقد حاول نتنياهو بالفعل أربع مرات. كيف ننجح معه في المرة الخامسة؟”، في إشارة إلى دورات الانتخابات العامة الأربع التي أجريت في إسرائيل منذ عام 2019، مضيفاً “مع نتنياهو لن نعود إلى السلطة أبداً”.
واليوم تخوض إسرائيل الدورة الخامسة من الانتخابات، المقرر إجراؤهافي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر بعد حل الحكومة – التي خلفت نتنياهو – بشكل سريع في وقت سابق من هذا الصيف (علماً بأنها كانت بقيادة نفتالي بينيت ويائير لابيد، الذي يرأس حالياً حكومة تصريف أعمال). ومن جهته، ألغى إدلشتاين بتواضع قراره بتحدي زعامة نتنياهو في أواخر حزيران/يونيو وألقى بدعمه وراء رئيس الوزراء الأسبق – الذي يُعتبر مجدداً المرشح بالإجماع والوحيد لحزب “الليكود” واليمين الإسرائيلي لرئاسة الوزراء. ومع ذلك فإن الضرر الذي لحق بإدلشتاين قد حدث.
ففي الانتخابات التمهيدية لحزب “الليكود” التي جرت في وقت سابق من هذا الشهر، تراجع إدلشتاين من المركز الأول في القائمة الانتخابية (وراء رئيس الحزب نتنياهو) إلى المرتبة 17. كما كان أداء غيره من المعتدلين نسبياً – الذين يَفترض بعضهم، على غرار إدلشتاين، أنهم سيصبحون قادة الحزب في المستقبل – أسوأ بكثير مما كان متوقعاً. وعوضاً عنهم، أعاد أعضاء حزب “الليكود” البالغ عددهم ثمانين ألفاً الذين صوتوا في الانتخابات التمهيدية، قائمة مرشحين متشددين ويدعمون نتنياهو بخنوع.
فما كان الهدفان الرئيسيان اللذان أعلنهما جميعهم تقريباً؟ ليست إعادة بنيامين نتنياهو (الملقب “الملك بيبي”) إلى مكانه الصحيح على رأس البلاد فحسب، بل إطلاق ثورة شاملة في النظام الديمقراطي الإسرائيلي أيضاً.
وقد حصد الصديق المقرب لنتنياهو وأحد أشد مواليه السياسيين، ياريف ليفين، العدد الأكبر من الأصوات. فقد تعهد ليفين – الذي من المرجح أن يشغل منصب وزير العدل المقبل إذا فاز حزب “الليكود” في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر – بإحداث “تغيير جذري” في منصب المدعي العام (النائب العام) و”المحكمة العليا” في البلاد لتجنب ما يسميه بـ “ثورة قضائية” ومحاولة “انقلاب” تنفذها السلطات القانونية ضد الحكومة والبرلمان.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه معركة طويلة المدى يخوضها ليفين والعديد من مناصري المعسكر اليميني الذين يريدون التمتع بحرية التصرف من دون تدخل المحاكم والمستشارين القانونيين، وتشمل هذه: بناء مستوطنات في الضفة الغربية خلال العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، وفي قضايا ترتبط بالأقليات على غرار الترحيل القسري لمهاجرين أفارقة لأسباب اقتصادية أو الحقوق المدنية للإسرائيليين العرب. وقد ساهمت المشاكل القانونية التي يواجهها نتنياهو – الذي يُحاكم بتهمة الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة – في زيادة الانتقادات اللاذعة التي طالت ما أسماه رئيس الوزراء السابق بمؤامرة “واسعة النطاق تشنها قوى الدولة اليسارية العميقة”، والتي تشمل وسائل الإعلام والشرطة والمدعين العامين.
هذا وتوجهت مؤخراً غاليت ديستل إتباريان (التي احتلت المركز 19 على قائمة “الليكود”) إلى مناصري الحزب قائلة: “عندما نعود إلى السلطة، ستكون «المحكمة العليا» أول بند [على جدول أعمالنا]، أما البند الثاني فهو رمي 40 كلغ من السائل المبيّض على … صلاح الدين وطرد جميع [المسؤولين] الفاسدين واحداً تلو الآخر”. (يذكر أن صلاح الدين هو شارع في القدس الشرقية يضم مقر وزارة العدل).
وكان سياسيون آخرون بارزون في الحزب قد تعهدوا باستبدال المدعيالعام إذا عادوا إلى السلطة، وهي خطوة وصفها وزير العدل الحالي بأنها “أعمال عصابات” محضة. كما طالب مسؤول بارز آخر في “الليكود” بتعليق محاكمة نتنياهو خلال الحملة الانتخابية.
ومؤخراً وعد دودي أمسالم (الرابع في ترتيب قائمة “الليكود”)، الذي يعتبره المعارضون “العضو الذي يتفوه بأقذر العبارات في عصابة بغيضة”، بأنه إذا فاز حزب “الليكود”، فسوف يمرر تشريعاً ضد “اليسار لن يتعافى منه لمدة 20 عاماً. ولكي نفرض سيطرتنا سنمحو عبارة «عدالة». فهي لم تعد موجودة”. وأضاف للتأكيد أن نتنياهو “مبعوث من الله. إنه أهم زعيم يهودي منذ 100 إلى 150 عاماً”.
وتمت مكافأة جميع السياسيين المذكورين أعلاه من قبل الأعضاء العاديين في “الليكود”. فقد كتب كاتب عمود إسرائيلي عن الانتخابات التمهيدية للحزب، “اتضح أنه في أوساط «الليكود»، لا يكفي الامتناع عن معارضة نتنياهو. وحتى أن مجرد الصمت لن يكون مقبولاً. عليك أن تصرخ بصوت عالي قدر المستطاع”. ويبدو أن جميع الأعضاء تقريباً يرددون العبارات نفسها بصوت عالي.
وبالطبع، تتمثل الخطوة الأولى في الفوز بالانتخابات. وتشير استطلاعات الرأي الحالية إلى أن “الليكود” لا يزال الحزب الأكبر بفارق كبير، حيث أن “كتلة” الأحزاب الموالية لنتنياهو – “الليكود” والمجموعات الأرثوذكسية المتطرفة والصهيونية الدينية اليمينية المتطرفة – توشك على ضمان أغلبية واضحة تضم 61 مقعداً في البرلمان. وخلال الانتخابات الأخيرة، في آذار/مارس 2021، خسرت الكتلة بفارق 70 ألف صوت فقط، من أصل أكثر من 4 ملايين صوت تم الإدلاء بها.
وكما قال لي أحد كبار المسؤولين في حزب “الليكود” مؤخراً، فإن الهدف الواضح هذه المرة هو “تشكيل حكومة يمينية متجانسة مع شركائنا الطبيعيين”. ويشمل هؤلاء “الشركاء الطبيعيين” إيتمار بن غفير، وهو أحد أبزر تلاميذ الإيديولوجي الفاشي اليهودي العنصري مئير كاهانا، الذي اغتيل في نيويورك عام 1990. وقد مُنعت الحركة السياسية السابقة التي أسسها كاهانا في أواخر ثمانينات القرن الماضي، من التعاطي في الشأن السياسي بسبب تشهيرها بالعرب؛ لكن نتنياهو بذل جهده خلال السنوات الأخيرة لضمان دخول بن غفير إلى البرلمان.
وإذا فاز نتنياهو بالانتخابات (حيث خسر أربع مرات متتالية)، ستكون الخطوة التالية الوفاء بالوعود المذكورة أعلاه. وقد أوضح المحللون القانونيون أنه إذا نجح نتنياهو في تأمين أغلبية نيابية، فقد يوجه ضربة قاضية إلى صرح إسرائيل الديمقراطي.
وفي هذا الإطار، ذكر الباحث البارز في “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” أمير فوكس أنه “لا يوجد ضمان لأي شيء هنا، سواء على النظام بأكمله، أو جميع صلاحيات «المحكمة العليا»، أو مبدأ الفصل بين السلطات الحكومية، أو الضوابط والتوازنات، لأنه لا يوجد دستور. أنت فقط بحاجة إلى 61 صوتاً في الكنيست”، مضيفاً: “إنها مشكلة جوهرية. فنظرياً بإمكانهم فعل ما يريدون” إذا كانوا يملكون أغلبية مطلقة، وحتى أغلبية بسيطة في بعض الحالات.
وتحدث فوكس عن وضع الخطوط العريضة لجدول أعمال يمكن أن يشهد قيام حكومة جديدة برئاسة نتنياهو تعمل على تمرير تشريع “يتجاوز” صلاحية “المحكمة العليا” لإلغاء أي قوانين تعتبرها غير قانونية أو غير دستورية (بموجب القوانين الأساسية لإسرائيل، وهي ترتيب حر شبه دستوري). وقال فوكس أن قرارات “المحكمة العليا” في مثل هذا السيناريولن تكون “سوى توصيات”.
وسيكون التغيير الشامل لطريقة اختيار قضاة المحاكم وقضاة الصلح من الخطوات الأخرى التي لطالما دعا إليها الإصلاحيون الإيديولوجيون، مما يحولها إلى تعيينات سياسية بحتة (كما هو الحال في الولايات المتحدة)، في تناقض مع النظام التوافقي المختلط المعتمد في إسرائيل الذي يتخذ بموجبه القضاة ورجال القانون والسياسيون الذين هم في الخدمة الفعلية القرار معاً.
ومن الناحية النظرية، يمكن لأغلبية ساحقة موالية لنتنياهو في البرلمان تمرير تشريع يحمي بأثر رجعي رئيس الوزراء (الذي [يُفترض أنه قد] تمت إعادته حديثاً إلى السلطة) من أي إجراء قانوني حتى نهاية فترة ولايته، مما يطيح بالمحاكمة الجارية ضده. ومن الخطوات الأخرى التي ترمي إلى تحقيق الهدف النهائي نفسه هي قيام الحكومة بإقالة المدعية العامة الحالية التي لم يتمّ تعيينها سوى في كانون الثاني/يناير لمدة 7 سنوات، واستبدالها بشخص متساهل بما يكفي “لتأجيل الإجراءات القضائية”، وفقاً لتعبير فوكس، في قضايا الفساد الموجهة ضد نتنياهو، مما يوقف عمل المحكمة فعلياً.
ويشرح فوكس أن “النائب العام الجديد، الذي سيتولى منصب المدعي العام للبلاد، قد يقرر أنه كان من الخطأ توجيه الاتهام إلى نتنياهو في المقام الأول. فاتخاذ نائب عام قرار برد قضايا ليس نادراً”، مضيفاً “أنا لا أقول إن نتنياهو سيفعل ذلك حتماً، لكن الاحتمال وارد، وبإمكانه اتخاذ مثل هذا القرار”.
ولا يزال من الصعب التكهن بنتائج الانتخابات المقبلة، لكن بغض النظر عن ذلك، من المؤكد أنّ الهوامش ستكون ضئيلة للغاية – فالحد الفاصل بين فوز نتنياهو وخسارته لن يكون سوى مقعد أو مقعدين. وحيث أن النتيجة بعيدة عن كونها شكلية أو متمحورة ببساطة حول شخصية المرشح، إلا أنها أقرب لأن تكون وجودية.
ويحذر فوكس قائلاً “بإمكاننا أن نستيقظ بعد الأول من تشرين الثاني/نوفمبر لنشهد تغيير كامل في النظام الديمقراطي الإسرائيلي، يقولون ذلك بصراحة. علينا فقط أن نصغي”.
نيري زيلبر
معهد واشنطن