تأثير الجليد: لماذا الاتجاهات الايرانية ل” تأجيل ” الإتفاق النووي

تأثير الجليد: لماذا الاتجاهات الايرانية ل” تأجيل ” الإتفاق النووي

رغم أن مؤشرات عديدة توحي بأن المفاوضات التي تجري حول الاتفاق النووي اقتربت نسبياً من نهايتها، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اتجاهات في إيران ما زالت تعارض “التسرع” في الوصول إلى صفقة، مستندة إلى أن الوقت يلعب في صالح إيران والعكس، وأن المماطلة في هذا السياق لمدة شهرين فقط، عبر الاستفاضة في التفاصيل الصغيرة والمعقدة خلال المفاوضات، يمكن أن تغير حسابات الأطراف المختلفة، وتعزز مكاسب إيران بشكل أكبر مما هى عليه في الوقت الحالي.

فقد قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 26 أغسطس الجاري (2022)، أن “طهران بذلت جهوداً حثيثة لرفع العقوبات، ونحن نمر في المراحل الأخيرة لتحقيق ذلك”، في إشارة إلى اقتراب المفاوضات النووية من نهايتها، بعد أن أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية ردها على المسودة الأوروبية والرد الإيراني عليها.

ويبدو أن ثمة ما تحاول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الوصول إلى تفاهمات حوله عبر وساطات مع إيران، على نحو دفع وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى إجراء اتصال مع نظيره الإيراني خلال تواجده في زنجبار، في 25 أغسطس الجاري، وذلك من أجل مناقشة آخر ما وصلت إليه المفاوضات النووية، التي تبدو الدوحة معنية بتعزيز احتمالات انتهاءها بإعلان صفقة جديدة بين طهران وواشنطن.

ومع ذلك، فإن اتجاهات في طهران ما زالت تدعو إلى “تأجيل” الإعلان عن صفقة نووية جديدة على الأقل لشهرين[1]. وفي هذا السياق، قال الكاتب الإيراني جعفر بلوري في صحيفة “كيهان” (الدنيا)، في 27 أغسطس الجاري، في مقال بعنوان “إن هذا ليس تحليلاً، بل تنبؤ”، أن إيران ليست في عجلة من أمرها من أجل الوصول إلى اتفاق نووي في الوقت الحالي، وأن تأجيل الوصول إلى هذا الاتفاق المحتمل لمدة شهرين فقط يمكن أن يساعدها في الحصول على عوائد وامتيازات أكبر بكثير من تلك التي تعرض عليها في الوقت الحالي.

اعتبارات عديدة

تعكس هذه الرؤية قسماً من ردود الفعل داخل إيران، وتركز على فكرة أن “الوقت يلعب لصالح إيران”، وأن “التمهل في الوصول إلى اتفاق يمكن أن يعزز النتائج الإيجابية النهائية للمفاوضات الحالية”. ويمكن تناول وتفنيد الاعتبارات التي تبني عليها هذه الاتجاهات رؤيتها، على النحو التالي:

1- اقتراب حلول فصل الشتاء: تُعوِّل هذه الاتجاهات على أن الدول الغربية مقبلة على أزمة كبيرة، بسبب اقتراب حلول فصل الشتاء، على نحو سوف يؤدي إلى تأجيج مشكلة إمدادات الطاقة إلى الدول الأوروبية بسبب استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وسيتسبب في ارتفاع أسعار الوقود، وهو ما سوف يفرض مزيداً من الضغوط على تلك الدول، وبالتالي يمنح مزيداً من أوراق الضغط لإيران، التي يمكنها في هذه الحالة الحصول على أعلى مستوى من العوائد المنتظرة من أى اتفاق نووي محتمل خلال المرحلة القادمة.

قد يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما، لكن في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل أن “الخيار النفطي” الإيراني لن يستطيع وحده، على المدى الطويل، سد أى ثغرة محتملة ناتجة عن وقف إمدادات الطاقة الروسية، لاعتبارات عديدة أهمها أن لإيران بدورها زبائنها الذين يحتاجون إلى نفطها، وفي مقدمتهم الصين، فضلاً عن أن إيران تحتاج إلى تطوير بنيتها التحتية في مجالى النفط والغاز قبل أن تكون جاهزة للدخول إلى سوق الطاقة الأوروبية تحديداً، لا سيما فيما يتعلق بالغاز. إلى جانب أن ذلك سوف يتطلب انخراط شركات أجنبية في سوق الطاقة الإيرانية، وهو أمر قد تواجهه عقبات عديدة أهمها خشية هذه الشركات من التعرض لعقوبات أمريكية في حالة الانخراط في تعاملات مع شركات تابعة للحرس الثوري، بعد أن رفضت واشنطن رفع العقوبات المفروضة على الأخير.

2- تحسين شروط التفاوض: في رؤية هذه الاتجاهات، فإن “المماطلة” في الوصول إلى اتفاق، عبر الانخراط في تفاصيل معقدة، وهو ما تتفنن فيه الدبلوماسية الإيرانية، يمكن أن يعزز من شروط التفاوض بالنسبة لإيران، ويدعم موقعها التفاوضي، ومن ثم انتزاع مزيد من التنازلات من جانب الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.

ووفقاً لذلك، فإن أى صفقة محتملة في الوقت الحالي لن تتضمن شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وهو ما سوف يقلص من عوائد هذه الصفقة على إيران، خاصة أنه سيضعف من فرص انخراط شركات أجنبية في الاستثمار داخل السوق الإيرانية، خشية التورط في تعاملات مالية أو تجارية مع شركات تابعة للحرس، وبالتالي الوقوع تحت طائلة العقوبات الأمريكية، والاضطرار إلى دفع غرامات باهظة أو المغامرة بعدم دخول السوق الأمريكية، وهى العقوبة الأكبر التي تنتظر أى شركة يمكن أن تتهم بتأسيس علاقات مع شركات تابعة للحرس أو تقع ضمن “القائمة السوداء” الأمريكية. وقد اضطرت قبل ذلك بنوك وشركات بالفعل إلى دفع غرامات كبيرة بسبب اتهامها بالتورط في “انتهاك” العقوبات الأمريكية على إيران ودول أخرى.

لكن “المماطلة” هنا قد تكون مغامرة، إذ يمكن أن تهدد بنسف الجهود التي بذلت من أجل استئناف المفاوضات وتعزيز فرص الوصول إلى اتفاق، خاصة أن الدول الغربية باتت مصرة على أن المفاوضات وصلت إلى نهايتها، وأن على إيران أن تتخذ قرارها إما بالموافقة على الصفقة أو رفضها. وكان آخر من وجّه رسالة مباشرة في هذا الشأن إلى إيران هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قال خلال زيارته للجزائر في 26 أغسطس الجاري، أن “الكرة في ملعب إيران لإحياء الاتفاق مع القوى العالمية”.

3- انتظار اجتماع الوكالة الذرية: ما زالت إيران حريصة على الربط بين أى اتفاق نووي محتمل وملف العلاقة مع الوكالة للطاقة الذرية، لا سيما فيما يتصل بالتحقيقات التي تجريها الوكالة حول وجود آثار يورانيوم في ثلاثة مواقع إيرانية. وفي رؤية طهران، فإنه من الضروري إغلاق هذا الملف قبل الإعلان عن الاتفاق، من أجل تجنب التعرض لضغوط في المستقبل بسبب ذلك، حيث تبدي شكوكاً في أن الدول الغربية، بضغوط من إسرائيل، من المحتمل أن تسعى إلى استغلال ملف التحقيقات من أجل دفع إيران لاحقاً إلى تقديم تنازلات أو إجراء مفاوضات جديدة حول ملفات خلافية مثل برنامج الصواريخ الباليستية أو التدخلات الإقليمية.

وتضع طهران في اعتبارها أن التقرير الذي أصدرته الوكالة في 8 يونيو الماضي تضمن إدانة لها بسبب عدم تعاونها بشكل كافٍ مع الوكالة في هذا الصدد وعدم تقديمها إجابات وافية حول أسئلة الوكالة بشأن آثار اليورانيوم التي وجدت في المواقع الثلاثة. ومن هنا، فإن هذه الاتجاهات، تدعو إلى ضرورة الانتظار إلى مرحلة ما بعد انعقاد الاجتماع القادم للوكالة في 12 سبتمبر المقبل، ثم تقييم مدى إمكانية الوصول إلى تفاهمات مع الأخيرة حول هذا الملف قبل القبول بالاتفاق النووي المحتمل.

لكن ذلك مردود عليه بأن القوى الدولية بدورها، خاصة الدول الغربية، سوف تكون حريصة، في الغالب، على استيفاء التحقيقات في هذا الملف قبل الإعلان عن الاتفاق، خاصة أنها تصر هى الأخرى على الربط بين هذا الاتفاق والتحقيقات التي تجري حول أنشطة اليورانيوم، في ظل شكوكها المستمرة في محاولات طهران إخفاء جانب من أنشطتها النووية بعيداً عن رقابة الوكالة.

4- انتهاء انتخابات الكونجرس: قد لا تنفصل هذه الدعوة عن تطلع إيران إلى استشراف ملامح السياسة الأمريكية تجاهها في مرحلة ما بعد إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في 8 نوفمبر القادم. وفي رؤية هذه الاتجاهات، فإن الضغوط التي تتعرض لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في المرحلة الحالية، بسبب اقتراب موعد انتخابات الكونجرس وتزايد انتقادات نواب الحزب الجمهوري، وبعض أقطاب الحزب الديمقراطي، للمفاوضات الجارية حالياً مع إيران، دفعتها لإبداء سياسة أكثر تشدداً تجاه مطالب إيران، خاصة ما يتعلق بشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، والحصول على ضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي مرة أخرى من الاتفاق النووي المحتمل.

وهنا، فإن تجاوز مرحلة الانتخابات يمكن، وفقاً لهذه الرؤية، أن يدفع الإدارة الأمريكية إلى إبداء مرونة أكبر إزاء التعامل مع بعض مطالب إيران، وليس كلها، وبالتالي تعزيز العوائد التي يمكن أن تحصل عليها الأخيرة في حالة إبرام اتفاق.

لكن هذه الطموحات لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض. إذ أن انتخابات التجديد النصفي قد تسفر عن فوز الحزب الجمهوري، وبالتالي تعزيز تأثيره داخل الكونجرس، على نحو سوف ينتج مفاعيل عكسية على السياسة الأمريكية تجاه إيران، وقد يؤدي إلى تبني سياسة أكثر تشدداً على عكس ما تتوقع هذه الاتجاهات.

في النهاية، قد يكون لهذه الاتجاهات تأثير وجمهور من المؤيدين، وربما تعكس نوعاً من صراع القوى داخل النظام السياسي الإيراني، الذي أصبحت قضايا السياسة الخارجية أحد محاوره الرئيسية، لكنها قد لا تعرقل الوصول إلى اتفاق جديد في المرحلة الحالية، طالما أن القيادة العليا في طهران، والمجلس الأعلى للأمن القومي الذي يدير المفاوضات، قد وجدا أن التوقيت الحالي هو الأنسب للوصول إلى الاتفاق بما يتضمنه من عوائد اقتصادية لإيران ربما لا ترقى إلى طموحاتها، لكنها تمثل في الوقت نفسه أقصى ما يمكن الوصول إليه.

مركز الاهرام للدراسات