تركيا وسورية إلى أين؟

تركيا وسورية إلى أين؟

لم يكن تطابق الموقفين، الروسي والإيراني، من العملية العسكرية التركية المزمعة في شمال سورية عفويا أو مصادفة، بل جاء بتنسيق مسبق بين القيادتين، الروسية والإيرانية، في محاولة لاستثمار لحظة سياسية مواتية، حيث الرئيس التركي، أردوغان، في موقفٍ دقيقٍ وحرج، على خلفية استعداده لخوض معركة انتخابية، رئاسية وبرلمانية، مصيرية يوم 18 يونيو/ حزيران 2023، والبلاد في انقسام عميق بشأن الوضع المعيشي والتضخم المتصاعد واللاجئين السوريين؛ وشعبيته متراجعة مع تعرّضه لضغوط مركّزة من قوى إقليمية ودولية، على خلفية تباين الرؤى والمصالح. وقد عرضت القيادتان، الروسية والإيرانية، مخرجا وحيدا لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد): التفاهم مع النظام السوري والانخراط معه في مواجهة الإرهاب الذي يمثله حزب العمال الكردستاني التركي، والقوى الانفصالية، التي يجسّدها ربيبه حزب الاتحاد الديمقراطي، الكردي السوري، وجناحه العسكري “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة”، القوة المهيمنة على “قسد”، والمقرّرة سياستها وخياراتها الميدانية، وراعيها، الولايات المتحدة، الذي لم يكتف بدعمها عسكريا، بل وخصص لها جعالة مالية من موازنة وزارة الدفاع (البنتاغون) تفوق 350 مليون دولار، والتركيز على ضرورة إخراج الراعي، الولايات المتحدة، من سورية ليسهل ضرب شرّير الحي، “قسد”، والتخلص من تهديده المباشر وحدة الأرض السورية والأمن القومي التركي.
لم تخرج قمة سوتشي الثنائية بحل بديل يريح الرئيس التركي، ويمنحه فرصة لاحتواء ضغوط المعارضة التركية، حيث كرّر الرئيس الروسي الاقتراح/ المخرج نفسه: التفاهم مع النظام السوري. وقد كان موقف الإدارة الأميركية لافتا، بدا أنها مع إغراق أردوغان أكثر، رغم رغبتها في إبعاده عن روسيا، حيث لم تكتف برفض العملية العسكرية التركية وتجاهل طلبه تنفيذ اتفاقهما عام 2019 وإبعاد “قسد” مسافة 30 كيلومترا عن الحدود، بل وزادت دعم الأخيرة بالأسلحة، ودرّبت مدنيين تطوعوا للقتال إلى جانبها، ورفضت، في الوقت نفسه، فكرة المصالحة مع النظام السوري. يبدو أنها ترى استحالة ترويض أردوغان وإعادة تركيا إلى علاقة التبعية القديمة، فتبنّت تضييق الخناق عليه، ودفعه للخروج وحزبه من الحكم في الانتخابات المقبلة، مع ما في ذلك من مقامرةٍ قد تؤدّي إلى خسارتها تركيا في حال فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات.

زاد من سخونة الموقف احتدام الصراع على الساحة السورية باعتبارها ساحة لصياغة توازنات، وتوجيه رسائل على خلفية الحرب في أوكرانيا

تبنّت القيادتان الروسية والإيرانية هذا الموقف المنسّق على خلفية عدم ثقة بالقيادة التركية، فروسيا لا يمكن أن تنسى أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن هذا الواقع لا يغير حصول تعاون وتنسيق معها في بعض الملفات الإقليمية والدولية، فالتوافق مرحلي وطارئ، بينما الاختلاف استراتيجي وثابت. وإيران لا يمكن أن تغفر لها انفتاحها على إسرائيل ودول الخليج العربية، وإلقاءها القبض على عناصر من المخابرات الإيرانية كلفوا بقتل إسرائيليين على الأرض التركية والإعلان عن ذلك، ما شكل ضربة لسمعة المخابرات الإيرانية، ونقطة سوداء في سجل النظام الإيراني، ومنافستها في ساحات إقليمية عديدة، من سورية والعراق ولبنان إلى آسيا الوسطى مرورا بالسنغال وساحل العاج ونيجيريا.
وقد زاد من سخونة الموقف احتدام الصراع على الساحة السورية باعتبارها ساحة لصياغة توازنات، وتوجيه رسائل على خلفية الحرب في أوكرانيا، بالنسبة لروسيا، والبرنامج النووي الإيراني، بالنسبة لإيران، حيث تسعى روسيا إلى إثبات قدرتها على خوض معارك في أكثر من ساحة في آن واحد، وممارسة إيران الضغط على الإدارة الأميركية للقبول بشروطها عبر تعزيز التنسيق مع روسيا بتبنّي روايتها عن الحرب في أوكرانيا وبيعها مسيّرات قتالية، والاتفاق معها على المحافظة على التوازن القائم على الساحة السورية في فترة انشغال روسيا في أوكرانيا ونشر قوات في مواقع عديدة، بما في ذلك لجم التحرّك التركي فيها.

انطلقت القيادتان، الروسية والإيرانية، من تقدير دقة موقف الرئيس التركي وحزبه الحاكم، وهما على أبواب انتخابات رئاسية وبرلمانية، وحاجتهما لاسترجاع شعبيتهما وتعزيز فرصهما في الفوز من خلال مساريْن متكامليْن: تحسين مستوى المعيشة للمواطنين الأتراك من خلال تحسين أداء الاقتصاد، بلجم التضخّم والحد من البطالة واستقطاب استثمارات خارجية وملايين السياح، وحماية الأمن القومي للبلاد عبر ملاحقة حزب العمال الكردستاني في سورية والعراق، والقضاء على تجربة الإدارة الذاتية التي يشرف عليها في سورية من خلال تبعية حزب الاتحاد الديمقراطي لأفكاره ونفوذه الواسع على قياداته، ومع استحالة تحقيق قفزة في الاقتصاد في فترة قصيرة، بقي على موعد إجراء الانتخابات حوالى تسعة أشهر، لا يبقى أمام الرئيس وحزبه الحاكم لاسترجاع شعبيتهما إلا استغلال المشاعر الوطنية وحشد المواطنين حول حماية الأمن القومي الذي يهدّده حزب العمال الكردستاني وربيبه حزب الاتحاد الديمقراطي وراعيته الولايات المتحدة، وتسجيل نقاط واضحة في مواجهة هذا الخطر. فوضعتا العقدة في المنشار، عبر رفضهما الحاسم والجازم العملية العسكرية التركية في منطقتي منبج وتل رفعت، وقدمتا حلاً يحفظ ماء وجه الرئيس، ويتيح له الزعم بتسجيل نقاط لصالح الأمن القومي التركي، عبر النص في البيان الختامي للقمة الثلاثية عن الاتفاق على مواجهة الإرهاب والقوى الانفصالية في سورية.
سعت القيادتان، الروسية والإيرانية، بموقفهما هذا إلى ضرب عدة عصافير بحجر واحد، أولها الرئيس التركي بوضعه أمام اختيار الصف الذي يقف فيه، ودفعه، من خلال تضخيم هواجسه ومخاوفه الأمنية، إلى الاصطدام مع الإدارة الأميركية. ثاني العصافير حزب العمال الكردستاني وقوات سورية الديمقراطية والإدارة الذاتية بحشرها قي الزاوية عن طريق تصنيفها قوة إرهابية وانفصالية، وتبرير اجتثاثها ما لم توافق على شروط النظام وإجراء مصالحة معه. ثالث العصافير الولايات المتحدة وقواتها على الأرض السورية، بتوسيع قاعدة المعترضين على هذا الوجود واستثماره في التضييق عليها كجزء من المواجهة المحتدمة في أوكرانيا والمفاوضات الجارية بشأن البرنامج النووي الإيراني. رابع العصافير المعارضة السورية، السياسية والمسلحة، عبر دق إسفين بينها وبين النظام التركي، ودفعها إلى اليأس والقبول بالتسويات التي يعرضها النظام السوري عليها.

لافت قرن المواقف السياسية الروسية والإيرانية بحشد عسكري من قوات النظام السوري والحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية التابعة لها

انطوى التكتيك – المناورة على فخّ محكم، يبدأ برفض العملية العسكرية التركية والتلويح بالمخرج العملي، وفحواه التصالح مع النظام السوري، والإقرار بشرعيته وحقه في بسط سيطرته على كلّ الأرض السورية، لينتهي بإحدى نتيجتين: قبول الرئيس التركي بالعرض وانخراطه في معادلة جديدة قائمة على انحياز تام وشامل إلى جانب شريكي أستانة، وحسم الصراع لمصلحة النظام السوري وما يرتبه من تبعات: الاصطدام مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والتنكّر لشرعية المطالب الشعبية السورية في الحرية والكرامة وخسارة تعاطف حاضنة الثورة السورية واللاجئين السوريين، أو الرفض والتعرّض لضغوط عسكرية متصاعدة، ودفعه إلى الخروج من الأرض السورية وخسارة نفوذه فيها وفي التفاوض على مستقبلها، واعتبار ذلك هزيمة للولايات المتحدة وحلف الناتو في ضوء عضوية تركيا في الحلف العتيد. وقد كان لافتا قرن المواقف السياسية الروسية والإيرانية بحشد عسكري من قوات النظام السوري والحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية التابعة لها، والبدء بقصف قرى في ريفي حلب وإدلب، وإغارة الطائرات الروسية على مواقع المعارضة المسلحة الموالية لتركيا، واستهداف المدنيين لإثارة مخاوف تركيا من موجات نزوح كبيرة، لوضع الملف على نار حامية والضغط على الرئيس التركي لحسم الموقف وتسريع عملية التقارب مع النظام السوري وتوظيفه في توسيع نفوذ النظام في الشمال السوري. وقد جاءت مطالب النظام، أو شروطه، من تركيا للموافقة على المصالحة والتطبيع لتشدّد الخناق على الرئيس التركي، وتضعه في موقف صعب، لأنه لا يمكن أن يقرّ بالانسحاب من جميع الأراضي السورية ويسلم إدلب للنظام ويقطع صلته بالمعارضة السورية، كما طلب وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، من دون مقابل.
عكست تصريحات المسؤولين الأتراك، الرئيس ووزير الخارجية وقادة الحزب الحاكم، تجاوباً ظاهراً مع التوجه الروسي والإيراني، حيث تواترت التصريحات المحبّذة للتفاهم مع النظام السوري والمطالبة بخروج القوات الأميركية من سورية، وقد اتهمها الرئيس أردوغان بتغذية الإرهاب في سورية، مع ملاحظة وجود مطالب تركية وازنة في المقايضة، وضع دستور جديد، وانتخابات وحكومة شرعية تعتمد على هذا الدستور. روسيا وإيران والنظام السوري ليست مستعدّة لوضع هذه المطالب على جدول أعمال المباحثات بشأن المخرج من الاستعصاء في سورية، فكيف بتلبيتها، ما يشي إما برفض تركي مضمر لمبدأ المصالحة أو الإبقاء على أوراق لضمان استمرار النفوذ التركي في سورية ومستقبلها، فهل أراد الرئيس التركي إرضاء جميع الأطراف، روسيا وإيران والنظام السوري والمعارضة، السياسية والمسلّحة، وحواضن الثورة السورية؟
هل يرغب أردوغان بالانخراط في التوجّه الروسي الإيراني، أم يرغب في إدارة الأزمة لكسب الوقت وجني مكاسب سياسية واقتصادية يجتاز بها الاستحقاق الانتخابي والانقلاب عليه بعد تحقيق الفوز وتعزيز موقعه وموقع حزبه في المعادلة التركية؟

العربي الجديد