الباحثة شذى خليل*
قرارات تفصل الاقتصاد العالمي إلى قطبين
أعلنت شركة غازبروم الروسية، عن توصلها إلى اتفاق مع الصين للبدء في تسديد عقود إمدادات الغاز بالروبل أو اليوان بدلاً من اليورو أو الدولار، ويعد هذا الإعلان او القرار نقطة تحول كبيرة في الاقتصاد العالمي، لا سيما حين يُتخذ من اقتصادات مؤثرة مثل روسيا والصين، فالأولى لها نصيب ضخم من أسواق الطاقة العالمية، والثانية هي اللاعب الأكبر في سلاسل الإمداد العالمية، ولا غنى لأي صناعة عن منتجاتها.
تم الاتفاق بين شركة غازبروم وشركة البترول الوطنية الصينية في أوائل فبراير 2022 ، على عقد مدته 30 عامًا لإمدادات الغاز الروسي والتي ستدفع باليورو في الوقت الذي تتطلع فيه روسيا إلى فصل نفسها عن الولايات المتحدة، حيث فرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تفويضاً في مارس / آذار 2022 يقضي بدفع جميع مبيعات غازبروم إلى أوروبا بالروبل بعد أن فرضت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عقوبات دولية شديدة على موسكو عقب غزوها لأوكرانيا.
ومنذ ذلك الحين قطعت موسكو الغاز عن عدة دول أوروبية من بينها ألمانيا والدنمارك وبولندا وبلغاريا وفنلندا وهولندا، بعد أن رفضت الالتزام بتفويض بوتين.
اتفقت موسكو وبكين على صفقتين على الأقل بشأن خطوط الأنابيب لتأمين تدفق الغاز من روسيا إلى الصين، وصرح مصدر بأن دفعات شحنات الغاز ستكون مناصفة بين العملتين الروسية والصينية. ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الحدث بأنه تاريخي، ليس لأسواق الطاقة العالمية فحسب، بل لروسيا والصين كذلك.
وقال أليكسي ميللر، الرئيس التنفيذي لشركة غازبروم، إن ترتيب الدفع سيثبت أنه “مفيد للطرفين” لكل من وكالات الطاقة المملوكة للدولة، حيث تتطلع روسيا والصين إلى تعزيز اقتصاداتهما وسط تآكل العلاقات مع الغرب.
لهذا الاتفاق انعكاسات كبيرة، منها أن التبادل التجاري بين الصين وروسيا شهد تطوراً كبيراً منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، لا سيما في النفط والغاز، وسبق لروسيا أن وقعت اتفاقاً مع الصين لتزويدها بما قيمته 400 مليار دولار لمدة 30 عاماً ابتداء من 2019، لتمدد العقد في بداية الحرب بقيمة 37.5 مليار دولار، ستكون كلها – ومنذ الآن – بالروبل واليوان.
ويعد هذا القرار في مصلحة الطرفين بحسب تعبير المدير التنفيذي لـ«غازبروم»، ويصب في مصلحة روسيا الساعية إلى الابتعاد عن عملات الدول «غير الصديقة» بحسب وصفها منذ فرض العقوبات عليها، ويساهم الابتعاد عن العملات الغربية في دعم الخزينة الروسية من مصادر دخل موثوقة بدلاً من الاعتماد على أوروبا. كما أنه عامل مساعد في استقرار الروبل والأنظمة البنكية التي بدأت بالفعل بإصدار قروض باليوان الصيني خلال الفترة الماضية واستغنى بعضها عن نظام التعامل المالي «سويفت». أما بالنسبة للصين، فقد توافق على هذا الحدث مع مساعيها التي بدأت منذ أكثر من عقد لتخفيف هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي، وقد أصدر بنك (يو بي إس) تقريرا ذكر فيه أن 85 في المائة من البنوك المركزية في العالم إما استثمرت أو لديها خطط لتضمين اليوان الصيني ضمن احتياطياتها المالية.
وهذا القرار قد يكون أُولى لبنات فصل الاقتصاد العالمي، فالدول الشرقية (بقيادة الصين وروسيا) لم تعد ترضى بالرضوخ إلى القوى الأوروبية، وبدأت بالفعل بتشكيل اقتصاد بديل منذ أول اجتماع لمجموعة (بريكس) عام 2009 (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا).
ورغم أن تقدم المجموعة كان بطيئاً نسبياً، فإن الضغوط الغربية على الصين وروسيا خلال السنوات الأخيرة أعطى دافعاً لهما لتسريع عجلة التقدم في المجموعة، كان آخرها الإعلان هذا العام عن التعاون لإنشاء سلة عملات جديدة. كما أن العقوبات الغربية جعلت العديد من الدول تفكر في بدائل تجعلها أقل اعتمادا على العالم الغربي وأكثر تنويعا لاحتياطياتها المالية. ومما لا شك فيه أن العديد من الدول ستقدم – طوعاً أو كرهاً – على شراء الغاز الروسي والمنتجات الصينية بالروبل واليوان حالما يصبح هذا الأمر معتاداً.
كل هذا كان نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعد فرض عقوبات اقتصادية على هجوم الكرملين في أوكرانيا، خفضت روسيا أو أوقفت الإمدادات إلى دول أوروبية مختلفة ، مما تسبب في ارتفاع أسعار الطاقة، كما سعت إلى تعزيز العلاقات مع الحلفاء في آسيا – وخاصة الصين – وزيادة شحنات الغاز الطبيعي إلى الأسواق خارج أوروبا.
أزمة في أوروبا
تتفاقم أزمة الطاقة في أوروبا، مما يضطر الحكومات إلى إنفاق المليارات لحماية الشركات والمستهلكين من ارتفاع الفواتير مع انزلاق المنطقة نحو الركود.
2 تريليون دولار زيادة في فواتير الطاقة في أوروبا
سترتفع فواتير الطاقة للأسر الأوروبية بمقدار تريليوني يورو (2 تريليون دولار) في ذروتها في أوائل العام المقبل ، مما يؤكد الحاجة إلى تدخل الحكومة ، وفقًا لمحللي المرافق في شركة جولدمان ساكس.
في ذروتها، ستمثل فواتير الطاقة حوالي 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا ، كما كتب المحللون بقيادة ألبرتو جاندولفي ومافالدا بومبيرو ، في مذكرة مؤرخة يوم الأحد.
وكتبوا: “في رأينا ، يستمر السوق في التقليل من عمق واتساع الانعكاسات الهيكلية للأزمة”. نعتقد أن هذه ستكون أعمق حتى من أزمة النفط في السبعينيات.
اقتصاديون ومحللون قالوا: إن المستثمرين في الأسهم متشائمون للغاية بشأن تأثير الجهود التنظيمية. بعض الخطوات التي يجري النظر فيها – بما في ذلك الحدود القصوى للأسعار وما يسمى بالعجز الجمركي – يمكن أن تخفف العبء الزائد على أسعار الأسهم عن طريق تخفيف الزيادة في التعريفات، والحد من الانخفاض على المدى القريب في الإنتاج الصناعي، ونزع فتيل المخاطر التنظيمية إلى حد كبير.
أدت الزيادة في فواتير الطاقة إلى اندفاع الحكومات لتخفيف ضغوط التكلفة على المنازل والشركات.
يجتمع وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة لمناقشة إجراءات تشمل تحديد سقف لأسعار الغاز الطبيعي وتعليق تداول مشتقات الطاقة. وتدعم فرنسا وألمانيا الضرائب غير المتوقعة على أرباح الطاقة.
إن إدخال سقوف الأسعار في توليد الطاقة يمكن أن يوفر للكتلة حوالي 650 مليار يورو من فواتير الكهرباء ويوفر للمستهلكين والأسواق بعض الراحة، بينما يسمح للحكومات بالتخلي عن ضريبة أرباح غير متوقعة.
ختاما.. بعد ما أصرت روسيا على أن الدول الأوروبية تدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل بعد وقت قصير من بدء الحرب الأوكرانية، ومنذ ذلك الحين خفضت أو أوقفت تدفقات الغاز إلى العديد من الدول الأوروبية، وبدأت بتحالفات جديدة ستغير معادلة الاقتصاديات والسياسات التي ستتخذها الدول لحماية اقتصاداتها، وسيشهد العالم تكتلات جديدة وقرارات وسياسات ، لم تتخذ من قبل لترسم صورة جديدة للعالم.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية