تعود جذور المشكلات التي تعاني منها الدولة العراقية المعاصرة إلى بدايات تشكيل هذه الدولة بعد الحرب العالمية الأولى بموجب قرار اتخذ في مؤتمر القاهرة الذي عقد برعاية وزارة المستعمرات البريطانية عام 1921، وذلك بناء على اتفاقية سايكس بيكو 1916 التي اُعتمدت إطاراً عاماً للتفاهمات والملاحق والاتفاقيات الفرعية اللاحقة التي كانت بين دول الحلفاء، ولا سيما بريطانيا وفرنسا من جهة، وبينها وبين الدولة التركية بالدرجة الأولى وإيران بالدرجة الثانية.
وقد تحكّمت التوجهات والمصالح البريطانية في تشكيل خارطة العراق الحديث التي جمعت بين مكونات مجتمعية متنوعة من جهة الدين والمذهب والقومية. فما كان يهم الإنكليز الأولى تمثّل في حرصهم على تأمين الطرق المؤدية إلى شبه الجزيرة الهندية التي كانت تضم في ذلك الحين الهند وباكستان وبنغلاديش، وكانت تعتبر تاج الامبراطورية البريطانية.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن البريطانيين كانوا يؤكدون في مباحثاتهم مع الحلفاء، ومع الجانب التركي بعد الحرب، ضرورة الاعتراف بحق الكرد في تأسيس دولتهم إذا عبروا عن رغبتهم في ذلك عبر استفتاء عام، وقد نصت معاهدة سيفر 1920 على هذا الأمر. ولكنهم تراجعوا عن ذلك حينما تمت التفاهمات مع الدولة التركية؛ ويبدو أن ذلك التراجع قد توافق مع المصالح البريطانية من جهة، ومع رغبة الملك فيصل من جهة ثانية، إذ يبدو أن الأخير أدرك منذ ذلك الحين صعوبة حكم بلد غالبية سكانه من الشيعة، فألحّ على ضرورة ضم ولاية الموصل إلى الدولة العراقية الوليدة، بهدف بلوغ قسط من التوازن المذهبي، فمعظم سكان ولاية الموصل من الكرد والعرب كانوا من السنة.
وبالعودة إلى الحالة العراقية، نرى أنه كان من الممكن أن تتشكل هوية وطنية عراقية، لتكون بمثابة القاسم المشترك بين جميع المكونات المجتمعية من دون أي تمييز على صعيد الدين أو المذهب أو القومية؛ هذا في ما لو وجدت القيادات الوطنية التي كان من المفروض أن تدير التنوع المجتمعي بعقلية إبداعية، تفتح الآفاق أمامها لإنجاز وحدة وطنية بين الوسط العربي السني، والشمال الكردي السني، والجنوب العربي الشيعي؛ وهذا ما كان يستوجب حيادية الدولة، ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، وحرصها على ضمان حق الجميع في المشاركة في الإدارة والثروات، والحقوق والواجبات، الأمر الذي كان سيكون ركيزة لطمأنة الجميع من دون أي استثناء.
إلا أن الذي حصل هو أن الصراعات البينية على الحكم، وتفاعلاتها، والمحاور والخلافات العربية، والمنافسات والتحديات الإقليمية أسفرت في نهاية المطاف عن سيطرة حزب البعث على مقاليد الأمور في بغداد، الأمر الذي مكّنه من فرض ايديولوجيته القومية المتشددة التي تسبّبت في صراعات داخلية عراقية، كما أنها أدت إلى خلافات وتبانيات عربية، وكان الصراع الوجودي مع الحكم في سوريا الذي كان يقدم نفسه على أنه يلتزم بايديولوجية الحزب نفسه.
ومع تحكّم صدام حسين بمفاصل الدولة العراقية بصورة كاملة في عام 1979، بالتزامن مع سيطرة روح الله الخميني على حكم إيران في العام نفسه، بدأت مرحلة جديدة، إذ دخل العراق في حرب ضروس مع إيران خرج منها منتصراً بصورة نسبية بفضل الدعم العربي والغربي؛ وهو الأمر الذي دفع بالأول، بناء على رغباته الخاصة، إلى الاعتقاد بأن الطريق قد باتت ممهدة أمامه لقيادة المنطقة، ليكون الحاكم المعتمد بعد انهيار حكم الشاه، فكان غزو الكويت وكانت الكارثة.
ومع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 بعد إسقاط حكم صدام حسين بدأت الطريق مفتوحة أمام النظام الإيراني للتغلغل إلى الدولة والمجتمع العراقيين، وذلك بعد الاستفادة من حل الجيش العراقي، بل ومن انهيار الدولة العراقية بكاملها، واستطاع النظام المعني الهيمنة على المؤسسات العسكرية والأمنية، واعتمد في ذلك على الميليشات التي شكلها لتكون أذرعه تحت ستار وضع حدٍ لمظلومية الشيعة. وعمل النظام المعني في الوقت نفسه على حصر مرجعية الشيعة بنفسه عبر مرجعية قم، بعد أن همّش مرجعية النجف التي كانت تاريخياً هي مرجعية الشيعة في العالم.
وهكذا أصبح العراق هدفاً مباشراً لدولة لها ماض امبراطوري، ولديها خبرة واسعة طويلة في ميدان التواصل مع المكونات المجتمعية، واستخدام بعضها ضد بعضها الآخر، وإجراء عمليات التغيير السكاني سواء من جهة المذهب أو القومية؛ ولم يقتصر النزوع الامبراطوري الإيراني على استهداف العراق فحسب، بل امتد ليشمل سوريا ولبنان أيضاً، وذلك تمهيداً لقائمة أوسع على الأرجح.
فإيران ما زلت مستمرة في سياسة تصدير «الثورة»؛ وهي سياسة تستثمر في المظلوميات الشيعية في المنطقة، وتركز على الميليشيات المحلية التابعة لها من أجل استخدامها في زعزعة الاستقرار في المنطقة، وبهدف التحكّم بمفاصل الدول والمجتمعات. وقد تمكنت في هذا السياق من إضفاء صفة الشرعية على جهودها في العراق، إذ غدت فصائل الحشد الشعبي التابعة لها بصورة عضوية امتداداً للمنظومة الدفاعية العراقية بقرار من نوري المالكي، الأمر الذي ألزم الدولة العراقية بتمويلها وتسليحها، وإعفاء من ينتسب إليها من الخدمة الإلزامية؛ هذا في حين أن القيادة والتوجيهات، والقدرة على التكليف، تكون بيد الجانب الإيراني.
ولم يقتصر هذا الأمر على الميليشيات وحدها، بل شمل مسألة تشكيل واجهات سياسية لهذه الميليشيات لتتمكن من المشاركة في الانتخابات، وتصل إلى مجلس النواب، وتتحكّم من خلاله بمؤسسات الدولة وميزانياتها، وذلك اعتماداً على أدوات الضغط المحلية التي تمتلكها والإقليمية التي تساندها.
الانسداد السياسي الذي يهمين على العراق حاليا، سيستمر، ولن يكون هناك حل عبر الانتخابات المبكرة، أو تشكيل حكومة توافقية أو مذهبية أو غير ذلك من البدائل السيئة، لأن المشكلة الأساسية هي بنيوية أسبابها الجهات المتحكمة بمفاصل الدولة والمجتمع. ولهذا الانسداد علاقة بعمليات نهب ثروات العراق التي تفرض الحرمان على قطاعات كبيرة من العراقيين، وتسلبهم أبسط مقومات العيش الكريم. فطالما أن قوى الأمر الواقع العراقية حريصة على الاستقواء بالخارج لتتمكن من فرض سيطرتها على الداخل، لن تستقيم الأمور خاصة في أجواء التعقيدات الدولية والإقليمية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا.
ولكن الأمر اللافت المبشّر في الوضع العراقي الراهن، هو ارتفاع الصوت الشيعي العراقي الوطني، ممّا يوحي بتغيرات نوعية مستقبلية لصالح المشروع الوطني العراقي. فهناك وعي متنام لدى أوساط واسعة من العراقيين الشيعة بأن ما يتعرض له شعبهم ووطنهم من قمع ونهب وفساد وإفساد ما كان له أن يكون لولا استقواء الجماعات المسؤولة عن ذلك بالدعم الإيراني، ولولا الامتدادات الإيرانية الفاضحة إلى داخل الدولة والمجتمع العراقيين.
ولعل هذا الأمر يلقي بعض الضوء على الاستقالة الغريبة التي أعلن عنها المرجع الشيعي كاظم الحائري، ودعوته الصدريين إلى الاقتداء بولي الفقيه. فقد أكدت تلك الاستقالة حجم الحرص الإيراني على قمع أي توجه وطني عراقي. وهذا ما يستوجب من جهته التركيز على المرجعيات الوطنية العراقية التي تضع الأولويات العراقية وحاجات العراقيين في مقدمة اهتمامتها والتزماتها، وتشدد على اعتبار الشيعة جزءاً من النسيج الوطني العراقي العام، وتطالب باحترام السيادة العراقية والمحافظة على الثروات العراقية لصالح جميع العراقيين من دون أن تمييز أو إقصاء.
المشروع الوطني العراقي، الذي يحترم خصوصيات وحقوق سائر المكونات من دون أي تمييز أو تهميش، هو الذي يوفر الأمن وشروط العيش الكريم للعراقيين، ويضمن المقومات المطلوبة لمستقبل أفضل للأجيال المقبلة. أما المشاريع الأيديولوجية التي اعتمدت، وتعتمد، الدين أو القومية وسيلة تعبوية تجييشية، فقد أدت إلى التناحرات والحروب التي بددت الإمكانيات، وتسببت في حملات التدمير والقتل والتهجير، وأغرقت مجتمعاتنا في دياجير الجهل المرعب والفساد الأسطوري والفقر القاتل.
والجدير بالذكر في هذا السياق، هو أن الدعوة إلى القطع مع الأيديولوجية الدينية أو القومية لا تعني بشكل من الأشكال المطالبة بالقطع مع الدين بمذاهبه المختلفة، والقومية بأسمائها المتنوعة، وإنما تؤكد ضرورة التركيز على امكانيات التفاهم والتعايش والتواصل بين مختلف الهويات الفرعية ضمن إطار الهوية الوطنية العامة، التي لا تتعارض من جانبها مع الهويات الوطنية الأخرى في المنطقة.
فهذه الدعوة لا تعتبر الهويات الفرعية مشكلة تستوجب التخلص منها، وإنما تجد فيها جسراً، بل جسوراً، للتواصل والتفاهم، وتبادل الخبرات والمنافع لصالح شعوب ودول المنطقة بأسرها، ومن دون أي استثناء.
القدس العربي