إلى وقت قريب، كانت الهجمات الجهادية على الأرض الفرنسية تشن على هدف محدد، على سبيل المثــل مجلة «شارلي إيبدو»، والمجتمع اليهودي في كانون الثاني (يناير) 2015، أو على عسكريين فرنسيين مسلمين، على نحو ما فعل محمد مراح قبل أن يــهاجــم مــدرسة يهودية في تولوز، والمجتمع اليهودي في كانون الثاني (يناير) 2015، أو على عسكريين فرنسيين مسلمين، على نحو ما فعل محمد مراح قبل أن يــهاجــم مــدرسة يهودية في تولوز.
واليوم، نحن أمام إرهاب خبط عشواء يصيب من في المتناول. فتنفيذ عملية إرهابية في عدد من المرافق الحساسة، محمية على أحسن وجه، عسير. ومذابح 13 تشرين الثاني (نوفمبر) تعيد إلى الأذهان هجمات انتحارية أصابت مدريد في 2004 وتلك التي شنت في مترو الأنفاق في لندن 2005. و «الكاميكاز (الانتحاري) المستعجل» هو من يشغل حزامه الناسف لارتكاب مذبحة، و«الكاميكاز المتأني» يرغب في القتال إلى آخر رمق رافعاً السلاح ضد عزّل. وكلاهما يسعى إلى الهلاك.
وحركة «العرض» على تنفيذ العمليات الانتحارية كبيرة لدى المنظمات الجهادية في سورية والعراق. والاختيار عسير بين المتطوعين الكثر إلى التضحية الكبرى. ولا يطلب الموت أو الشهادة كل من يغادر الغرب ليقاتل في هذين البلدين، فالدافع لبعضهم هو المغامرة.
شِلل إرهابية صغيرة
وفي الغرب، الخلايا الجهادية صغيرة. والقرابة هي آصرة بعض هذه الخلايا (الشقيقان كواشي، منفذا مجزرة «شارلي إيبدو»). وبعض الخلايا مؤتلف من شِلل مغلقة وصغيرة من الأصدقاء. فحين تكبر مجموعة أو خلية وتبدأ التبشير المتطرف، ترصدها الشرطة وتفككها. واختيار منفذي العمليات عملية بالغة الدقة. ومن شروطها مشاركة أحد أعضاء الخلية، أو على الأقل واحد منهم، في تدريبات في الخارج، ولو كانت مدتها قصيرة. فالمرء لا يتطرف وهو مفرد وجالس وراء شاشة كمبيوتره، فمراح زار المناطق القبلية الباكستانية، ومهدي نموش، القاتل في المتحف اليهودي ببروكسيل، مر في سورية، وأصغر الأخوين كواشي قصد اليمن. لكن تنفيذ العملية يقتضي مبادرة مفردة، على رغم أن المرجع الأيديولوجي واللوجستي يندرج في سياق تنظيمي واسع.
غالباً، يجمع منفذي الهجمات الجهادية الانتماءُ إلى أسر مفككة، ودخول السجن. فالسجون الفرنسية هي مرحلة بارزة أو منعطف في مسار تطرفهم. وإلى الانتماء إلى مجموعة صغيرة متطرفة والتحدر من أسرة مفككة، منفذو الهجمات هم «مسلمون جدد» (أو مسلمون ولدوا مجديداً born again)، وهم يدينون بأكثر الصيغ تطرفاً. فاعتنقوا التطرف الإسلاموي في سبيل منح حياتهم وزناً ومعنى.
«أرض الجهاد»
السفر إلى أرض الجهاد، منعطف حاسم. وهذه حال خالد كلكال في 1995، وهو قصد الجزائر في أيام الحرب الأهلية وقاتل مع المجموعات الإسلامية. وهذا «العبور» في أرض الجهاد حيوي في قطع أواصر الكاميكاز المقبل مع مجتمعه الأم والنظر إليه على أنه غريب من خارج، فيتخفف من الذنب والندم. فهناك في أرض الجهاد، يلتزم التطرف باسم العقيدة. وحين يعد المرء للقتل، يعد للموت. وهذه ملاحظة تصح في متطرفي الشيوعية والنازية وإرهابيي السبعينات سواء انتموا إلى منظمات إرهابية حمر أو سود.
نموذج تطرف أوروبي
تنتشر في أوروبا جيوب فقر هي تربة غنية لنمو الأيديولوجيا المتطرفة. وهذه الظاهرة سبق أن برزت في الولايات المتحدة في غيتوات (حارات) السود. فأكثر من ربع السكان الذكور في هذه الحارات عرف السجن. ولكن على خلاف أميركا، التطرف في أوروبا، وهو تطرف يلفظ المجتمع هناك، يرفع لواء الإسلاموية. ويعم المتطرفين شعور بأنهم ضحايا، وبأن التزامهم قضية جماعية هو سلمهم إلى تجاوز وصمة التهميش. وثمة عامل جديد يبرز أكثر فأكثر: التطرف في أوساط شباب متحدر من طبقات وسطى، سواء كانت مسلمة أم لا.
فـ25 إلى 30 في المئة ممن ذهبوا إلى الجهاد في سورية والعراق يتحدرون من هذه الأوساط (طبقات وسطى). ونسبة الشابات اليافعات والنساء مرتفعة في أوساط طالبي الجهاد الغربيين، وتبلغ أكثر من 3 في المئة. وهذه الظاهرة مردها، إلى حد ما، إلى أفول السياسة في الغرب والبحث عن يوتوبيا (مجتمع مُثل)، لكنها وثيقة الصلة بالخوف من خسارة المكانة الاجتماعية (التقهقر في السلم الاجتماعي) والمستقبل. فيتلقف المرء أول يوتوبيا شاملة يقع عليها بصره.
العائدون من سورية والعراق
شطر من العائدين من سورية والعراق خطير يودع السجن. والأزمة راهنة وطارئة، والسجن هو الحل الوحيد، لكنه قصير الأمد. فالسجن في الأمد المتوسط هو إحدى مراحل التطرف. ولا يتشابه الجهاديون العائدون إلى فرنسا. فمنهم من تغلب عليه القسوة ولم تفتر رغبته في القتل والانتقام من المجتمعات «الكافرة». وهؤلاء لا مفر من سجنهم وإنزال العقوبة بــهم. ومــنهم مَن لم يُشفَ من ندوب تجربته في الخارج، وــيشعر بالاضطراب وينساق إلى العنف. ومنـــهم مَن هو حائر. وهؤلاء قد لا ترتجى فائدة من إيداعهم السجن مع غلاة المتطرفين. ومنهم من تاب إثر تجربته الجهادية، وهؤلاء تجب مساندتهم (للحؤول دون انزلاقهم مجدداً إلى العنف).
فرهد خوسروخافار
نقلا عن الحياة