في خطوات تصعيدية طورت روسيا تدخلها على خط الأزمة المتصاعدة في سوريا منذ عام 2011، حيث بدأ ذلك التصعيد بتعزيز قواتها العسكرية في سوريا بصورة ملحوظة بداية من ربيع 2015، وانتهت نهاية سبتمبر 2015 بالقيام بعمليات عسكرية جوية، استهدفت أغلب طلعاتها مناطق وعناصر المعارضة المسلحة على خطوط القتال مع النظام، مع بعض العمليات ضد تنظيم الدولة الإسلامية داعش الذي يسيطر على مناطق واسعة من سوريا، ويعد هذا التدخل تطورا مهما في الموقف الروسي منذ مطلع الأزمة، فضلا عن كونه سيلقي بظلاله على مجمل التفاعلات التي تشهدها الساحتان الإقليمية والدولية خلال السنوات القادمة.
تعد الأزمة السورية واحدة من الساحات التي مثلت اختبارًا للتوجهات الروسية الجديدة
أولًا- روسيا واستعادة بعض من الذاكرة الإمبراطورية في سوريا
منذ عودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى رئاسة الاتحاد الروسي منذ مارس 2012، وهناك حركة روسية اتصلت بجهوده التي بدأها خلال المرحلة الأولىالتي تولىفيها الحكم خلال الفترة من ديسمبر 1999 وحتىمايو 2008، أبرز ملامحها استعادة بعض من قواعد الاشتباك السياسي والدبلوماسي، وربما العسكري على الساحة الدولية، وتعد الأزمة السورية واحدة من الساحات التي مثلت اختبارا للتوجهات الروسية الجديدة، وهذا الدور رغم أنه لا يعبر عن سعي لمد النفوذ إلى مناطق أبعد من تلك التي استقر عليها الأمن القومي لروسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لكنه في الوقت ذاته تدخل دفاعي يعكس استفاقة روسية، ويؤشر إلى استعداد روسيا لتكون وريثًا أمينًا على ما تبقىمن مصالح إمبراطورية هي بالأساس في عهدة روسيا الاتحادية.
ولا شك أن تلك الاستفاقة الروسية قد استفادت من تعقيدات المشهد الدولي على إثر حالة الفوضىالتي ضربت النظام الدولي بعد انفراد الولايات المتحدة بتوجيه تفاعلاته، وبالأخص التفاعلات ذات الطابع الصراعى، ومساهمتها الرئيسية عن في انتشار حالة من عدم الاستقرار في كثير من الأقاليم بعدما غاب التوازن الدولي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبدت عودة روسيا إلى الساحة الدولية في مواجهة تلك الحالة مستندة على عدة ركائز أهمها:
1- التأكيد على مبدأ عدم التدخل خوفا من إرساء مبدأ تغيير الأنظمة القائمة عبر التدخل الخارجي، وهو مبدأ يشكل تهديدا مباشرا للمصالح الروسية في أقاليم أخرىمهمة مثل القوقاز. بل يمكن أن ينتهي بالتدخل الدولي في روسيا نفسها بالنظر إلى ما يكتنف عملية التحول الديمقراطي من عقبات، ووجود معارضة واسعة للرئيس بوتين، خاصة بعد عودته إلى منصب الرئاسة منذ العام 2012. هذا علاوة على أن الرئيس بوتين، يبني جزءا من شرعيته الداخلية عبر تقديم نفسه كرجل دولة قوي يحاول استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، وكزعيم يواجه الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
2- دعم الاستقرار والشرعية القانونية في مناطق النفوذ، ويقف خلف هذا المبدأ الهواجس الروسية من أن ينتقل المد الثوري المتصل بالموجة الثالثة للديمقراطية والتي بدأت مطلع التسعينيات مع انهيار الاتحاد السوفيتي إلى تخوم روسيا في منطقة وسط آسيا ومنطقة القوقاز وبعض بقايا مناطق النفوذ التقليدية في الشرق الأوسط، وهي المناطق التي تملك فيها روسيا نفوذا سياسيا واسعا وتنفرد فيها بمصالح اقتصادية ضخمة. ويعزز تلك الهواجس خبرة روسيا السلبية مع موجات الثورات البرتقالية التي ضربت مناطق نفوذها في أوروبا الشرقية بدعم غربي مما أسهم في الحد من نفوذ روسيا داخل هذه البلدان، بل أصبح بعضها جزءا من حلف الناتو.
فهناك وجهة نظر روسية ترىأن الولايات المتحدة تحرض على قيام ثورات تسهم في خلخلة الأوضاع داخل بعض الدول “فوضى خلاقة”، كإستراتيجية منخفضة التكلفة لخلق عدم استقرار يسمح لواشنطن بالتدخل في تلك الدول متىشاءت، والإطاحة بحكومات كما حدث في بلدان مثل ليبيا ومصر واليمن. ومن هنا يمكن فهم الموقف الروسي من تأمين الدعم بمختلف صوره، والذي قد يصل إلى حد التدخل لوقف هذه الإستراتيجية الأمريكية كلما سنحت الفرصة مثلما هو حادث في أوكرانيا وسوريا خلال تلك المرحلة، وربما يتكرر في مناطق نفوذ روسي أخرى.
3- التصدي لحالة الفوضىفي كثير من مناطق العالم، بالعمل على إيقاف تسييس الولايات المتحدة والغرب لآليات الشرعية الدولية بما يضر مصالح روسيا أو أي من شركائها في العالم، وهنا نلاحظ أن استخدام روسيا لحق الفيتو تزايد خلال تلك المرحلة بصورة لافتة للنظر.
4- أولوية مكافحة الإرهاب ومواجهة تنظيماته المتعددة على تخوم روسيا الاتحادية وخارج حدودها لا سيما بعد انتشارها على مساحات واسعة تكاد تكون أقرب تهديدًا لروسيا منها إلى الولايات المتحدة، حيث تشكل تلك الجماعات حزاما يحيط بروسيا من تخومها الجنوبية بداية من وسط وجنوب شرق آسيا وصولا إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد وسعت تلك الجماعات من نشاطاتها على إثر الانسحاب الأمريكي والفوضي الخلاقة التي تنتهجها واشنطن في تلك المناطق.
5- الشروع في استخدام القوة العسكرية المباشرة لحماية الأهداف والمصالح الحيوية خارج نطاق الأمن القومي المباشر في مناطق القوقاز وآسيا الوسطي أو دول شرق أوربا اتصالا بالشرق الأوسط.
6- العمل على استعادة المكانة الدولية بعد سنوات من العجز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وذلك بعد أن تمكنت روسيا من تحقيق الاستقرار الداخلي وإعادة بعض من الحياة للاقتصاد الروسي وإعادة هيكلة سياساتها الأمنية والدفاعية وعقيدتها وإستراتيجياتها العسكرية وتعزيز المصالح الروسية في الشرق الأوسط تحت تأثير تزايد الضغوط والمخاطر الإستراتيجية الناتجة عن توسع الناتو شرقا في مناطق النفوذ السابقة للاتحاد السوفيتى، ومشروع الدرع الصاروخية الذي يمثل أحد هواجس الأمن القومي الروسي.
لا شك عدت سوريا ساحة مهمة لاختبار الطموح الروسي، وقد كشفت الازمة حتى الآن على نجاح روسيا في التمسك بثوابتها، وذلك على النحو التالي:
أ. اتخذت روسيا منذ اندلاع الأزمة في سوريا موقفا سياسيا قاطعا برفض تغيير النظام في سوريا أو السماح بتدخل إقليمي أو دولي يسهم في هذا التغيير، وذلك بالنظر لما سيترتب على تغييره من تداعيات وتكلفة سياسية وإستراتيجية كبيرة بالنسبة للمصالح الروسية، خاصة في ضوء اعتمادها في السنوات الأخيرة على نظام بشار في تنفيذ سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وحماية مصالحها في الإقليم، ما يجعلها غير مستعدة لتحمل الخسائر المتوقعة في حالة سقوط النظام، خاصة وجودها العسكري على السواحل السورية، وترك الساحة للمخططات الأمريكية والأوروبية في الإقليم.
ب. اتخذت موسكو على عاتقها تقديم دعم كبير للنظام شمل تزويده بالدعم المادي والعسكري والسياسي والدبلوماسى، وذلك لتعزيز قدرته على مواجهة الأزمة، واتخذ هذا الدعم الصورة العلنية بما يحمله ذلك من دلالات.
ج. وفرت روسيا للنظام السوري مظلة حماية دولية تمكنت من خلال من حماية النظام السورى، الذي أفلت حتى الآن من كل المحاولات سواء العربية أو الدولية لإدراج أزمة سوريا في إطار عملية دولية تنهي الأزمة. وقدا بدا هذا في الاستخدام المكثف لروسيا لحق الفيتو في مجلس الأمن فيما يخص الازمة السورية، بل والإصرار على عدم طرح أي مشروع بيان يهدد حليفها في سوريا، وذلك دون النظر إلى حجم المأساة الإنسانية.
بفضل هذا الدعم المتواصل نجحت روسيا في حماية النظام السوري من السقوط، ولا شك لا تنفصل الحركة الروسية تجاه سوريا عن حركة متصلة بالصراع الروسي/ الأمريكي الغربي في أوكرانيا وجزيرة القرم وشرق أوربا، ومن ثم يبدو اتساع التحرك الروسي تجاه سوريا جزءًا من المعركة الحقيقية بين هذين الطرفين.
احتلت سوريا مكانة ثابتة ومهمة في المنطقة كعنصر مؤثر في التفاعلات الإقليمية، وانعكس ذلك على علاقاتها بالقوى الدولية التي ترتبط بمصالح وعلاقات إستراتيجية في المنطقة
ثانيًا- مكانة سوريا في الإستراتيجية الروسية خلال الحقبة البوتينية
لا يمكن فهم الرهان الروسي الكبير على بقاء النظام السوري من دون معرفة حدود العلاقة بين البلدين؛ فسوريا احتلت مكانة ثابتة ومهمة في المنطقة كعنصر مؤثر في التفاعلات الإقليمية، وانعكس ذلك على علاقاتها بالقوي الدولية التي ترتبط بمصالح وعلاقات استراتيجية في المنطقة ومنخرطة في هذه التفاعلات بصور مختلفة، ولم يختلف هذا الدور قبل سقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان يرتبط بتحالف استراتيجي مع سوريا في إطار الصراع الدولي بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربى، كما لم يختلف بعد انهياره بفضل براعة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الذي كان يجيد إدارة سياسة سوريا الخارجية بما يضمن لها مكانة لا يمكن تجاوزها عند أية ترتيبات إقليمية، وورث الأسد الابن تركة والده الإقليمية من منطلق الدور الإقليمي ذاته. فقد كانت سوريا تقاوم الضغوط الأمريكية، وتعمل على تفكيك آثار العزلة عبر بناء شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية تؤمن لها حرية الحركة بعيدا عن مسار السياسة الأمريكية والغربية، وكانت روسيا أحد أهم محاور السياسة الخارجية السورية.
وقد تزامن مع التحرك السوري للخروج من الضغوط والعزلة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 تحولات إستراتيجية مهمة على الساحة الروسية، حيث سعىالرئيس بوتين إلى محاولة استعادة مكانة روسيا العالمية بعد سنوات من العجز منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بعد أن تمكن من تحقيق استقرار داخلي، وأعاد روسيا رويدا رويدا لتصبح قوة اقتصادية لها مصالح مهمة في منطقة الشرق الأوسط، علاوة على تزايد الضغوط والمخاطر الإستراتيجية الناتجة عن توسع الناتو شرقا في مناطق النفوذ السابقة للاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى مشروع الدرع الصاروخي الذي يمثل أحد هواجس الأمن القومي الروسي.
من هنا عاد الاهتمام الروسي بسوريا كونها تملك مقومات الحليف الإستراتيجي بالنسبة لروسيا، وذلك بالنظر إلى إرث العلاقات القوية القديمة وطبيعة دور سوريا في المنطقة، لذا شهدت العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة تطورا ملحوظا على مستويات عدة اقتصادية وعسكرية وسياسية بالأساس.
ولقد عكست المواقف الدولية على وقع الانتفاضة الشعبية حالة التنافس الدولي على سوريا، فروسيا تراهن على بقاء النظام لأن عملية التغيير في سوريا صعبة ومكلفة بالنسبة إلى حجم مصالحها، حيث تمثل خسارتها لسوريا نهاية لوجودها في الشرق الأوسط ككل، لأن روسيا تعتقد أن التدخلات الأمريكية الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة في البلقان وأفغانستان والعراق وليبيا مثلت تهديدا لاستقرار النظام الدولي بل واستقرار النظام الروسي نفسه، لهذا هي تصر على عدم السماح بالتدخل الدولي في سوريا وتبدو وكأنها بصدد إحداث تغيير في طريقة تعاطي النظام الدولي مع الأزمات والصراعات لا سيما تلك التي لها صلة مباشرة بها.
كما استطاعت روسيا إعادة بناء علاقتها مع سوريا خلال السنوات العشر السابقة، وتطورت هذه العلاقات من خلال قطاعات الطاقة والتعاون العسكري والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية، ولا شك أن الانتفاضة السورية واستمرار حالة عدم الاستقرار يؤثران حتما على المصالح الروسية، كما أن احتمالات التغيير ربما تعيد هيكلة أجهزة السلطة وفقا لولاءات وميول سياسية داخلية وخارجية جديدة قد تؤثر سلبا على المصالح الروسية في سوريا.
فروسيا تقدر خسارتها بما يزيد على 10 مليارات دولار إذا انهارت صفقات أسلحة مبرمة مع دول عربية تشهد احتجاجات شعبية، علما بأنه قد بلغت قيمة الصادرات الروسية إلى سوريا 1.1 مليار دولار في عام 2010، كما أن الاستثمار الروسي في سوريا وصل إلى 19.4 مليار دولار في عام 2009، كما تلتزم روسيا بعقود في مجال الأسلحة بقيمة أكثر من 4 مليارات دولار مع سوريا، بما في ذلك طائرات مقاتلة من طراز ميج 29، وصواريخ بانتسير القصيرة المدي أرض/جو، وأنظمة المدفعية والأسلحة المضادة للدبابات علما بأن مبيعات الاسلحة الروسية بروسيا ارتفعت من 7 ملايين دولار عام 2005 إلى 162 مليون دولار عام 2010 وهو ارتفاع كبير، كما أمدت روسيا سوريا في أغسطس الماضي طائرات مقاتلة يستخدمها الجيش السوري من نوع ياك – 130، هذا بالإضافة إلى أنه تمت إعادة فتح وتطوير قاعدة طرطوس والتي تعتبر قاعدة التموين البحرية الوحيدة للأسطول الروسي في البحر المتوسط، كما شهدت السنوات الأخيرة نمو استثمارات شركات “تاتنفت” و “ستروي ترانس جاز” الروسيتين في مجال بناء محطات معالجة الغاز ومصافي النفط ومجال البتروكيماويات، وشهدت العلاقات أيضا حوارًا سياسيًا ودبلوماسيًا متبادلًا بين البلدين حيال القضايا المهمة في المنطقة وعلىرأسها الملف النووي الإيراني والصراع العربي الإسرائيلي والأوضاع في العراق ولبنان في إطار سعي روسيا لاستعادة مكانتها ونفوذها في المنطقة.
، وبالفعل قد وقعت شركات روسية عقود مع قبرص، كما تتجه لبنان إلى إعطاء عقود للتنقيب والإنتاج إلى شركات نفطية روسية، ويأتي هذا في إطار خوف روسيا من أن يشكل إنتاج الغاز المستقبلي في شرق المتوسط بديلا إستراتيجيا لأوربا عن الغاز الروسي، وفي هذا السياق تبدو أهمية سوريا وما تمثله بموقعها كممر وساحة لعبور الغاز الخليجي شمالا بالنسبة إلى الطموحات الروسية في المنطقة خصوصا أن الثورات العربية فتحت المجال أمام تنافس دولي وخصوصًا أوربي أمريكي على النفوذ والمصالح في المنطقة وفي مقدمة هذه المصالح الغاز والنفط.
بتلك العلاقة المتطورة بين روسيا والنظام السوري بقيادة بشار الأسد أصبح من الصعب على روسيا قبول تغيير سياسي في سوريا على غرار الحالة الليبية يطيح بآخر وجود لها في منطقة البحر المتوسط ويحرمها من طموحاتها السياسية والعسكرية وكذلك الاقتصادية، وهذا بدا بوضوح في موقف روسيا من تطورات الأزمة في سوريا منذ بدايتها في مارس 2011.
يزيد من أهمية سوريا بالنسبة لروسيا سعي الأخيرة لاحتلال دور رئيسي في عملية التنقيب وإنتاج الغاز والنفط في سوريا وفي شرق المتوسط
ثالثًا- التكتيكات الروسية للتعامل مع أزمة سوريا المتصاعدة
في ضوء التوجهات الروسية الجديدة على الساحة الدولية وحجم مصالحها في سوريا؛ فقد وظفت روسيا إمكانياتها المختلفة من أجل عدم تكرار نموذج التغيير الذي ضرب دول الربيع العربي في حالة سوريا، ذلك التغيير الذي بدأ بسقوط رؤساء وحكومات تونس ثم مصر ثم ليبيا ثم اليمن، حيث لم تتوان عن تقديم دعم سياسي شمل تبني وجهة نظر النظام في اعتبار ما يدور في سوريا مؤامرة خارجية، أو حرب تقودها جماعات إرهابية تستهدف أمن واستقرار سوريا، علاوة على دعم سياسي في المحافل الدولية وتوفير غطاء لتجاوزاته في مواجهة أي قرارات دولية أو إقليمية كمقدمة لتدخل خارجي، وصولا إلى تغيير في تركيبة السلطة في سوريا، وشمل هذا الدعم أيضا تنسيق روسي مع القوي الإقليمية المؤيدة لنظام بشار الأسد. فضلا عن تقديم دعم مادي للنظام السوري شمل تدفقات مالية، ومعدات وآليات عسكرية، وخبراء أمنيين وعسكريين، بجانب دعم تقني وتكنولوجي له صلة بدعم العمليات العسكرية للنظام ضد فصائل المعارضة بمختلف صورها.
رغم ذلك لم تكن روسيا قادرة وحدها على مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية التي تمكنت من نزع الشرعية الأخلاقية عن النظام السوري ومحاصرته وعزله وفرض عقوبات على رموزه، في الوقت ذاته الذي تشكلت مجموعة أصدقاء الشعب السوري على شاكلة مجموعة أصدقاء الشعب الليبي، فيما فهم تمهيد للتغيير بذات الآلية، وبالفعل أدين النظام السوري،وأسهمت الجهود العربية التي وجهتها دول الخليج في وضع قضية سوريا على قائمة اهتمام دول العالم، حتى أصبح النظام معزولا إلا من علاقات مع عدد محدود من الدول أهمها إيران وروسيا والعراق وميليشيا حزب اللـه، لكن كان موقف روسيا في مجلس الأمن حائلا دون تكرار نمط التدخل الذي حدث من قبل في ليبيا.
البديل عن التدخل الدولي لتغيير النظام الذي راهنت عليه المعارضة السورية وبعض القوىالإقليمية، كان الوصول إلى صيغة غير حاسمة لمرحلة انتقالية في سوريا، وذلك وفق بيان جنيف 1 في 30 يونيو 2012، وهذه الصيغة عدت بداية نجاح روسيا في إحباط مشروعات التغيير الشامل في سوريا، فمنذ ذلك التاريخ وقد انتقلت الجهود الإقليمية والدولية في سوريا من مرحلة الضغط المتصاعد باتجاه رحيل الأسد، إلى الخلاف حول تفسير بيان جنيف1 الملتبس حول تسوية الأزمة في سوريا، فبينما تصر المعارضة السياسية والفصائل المسلحة مدعومين بموقف عربي وغربي وأمريكي بأنها مرحلة انتقالية لا دور للأسد فيها، فيما ترىروسيا التفسير القانوني لبيان جنيف1،أنه يشير صراحة إلى أن تشكيل هيئة حكم انتقالي يتم من خلال اتفاق مشترك بين المعارضة والنظام، ومن ثم يجب أن يكون النظام جزءًا من هذه الهيئة التي تدير المرحلة الانتقالية، وهذا كان السبب وراء فشل مؤتمر جنيف2 الذي عقدت جولاته خلال فبراير ومارس 2014.
المهم أن روسيا تمكنت من نقل النقاش حول نظام جديد في سوريا إلى نقاش حول حدود دور الأسد في المرحلة الانتقالية، ونتيجة إصرار أطراف الصراع على رهاناتهم الصفرية على مسألة بقاء الأسد أو رحيله اتجه الصراع في الداخل نحو التصاعد، لتحقيق مكاسب فعلية على الأرض، قد تعزز موقف كل طرف عند الوصول إلى جنيف3 الذي لم يأت؛ لهذا في مرحلة لاحقة قامت روسيا بعيدا عن هذا المسار بمحاولات سياسية من أجل الترويج لتسوية سياسية بين النظام وبعض من أطراف المعارضة فيما يعرف باجتماعات موسكو التي شهدت جولتين، لم يكن الائتلاف الوطني السوري المعارض الممثل الأكثر تعبيرا عن المعارضة حاضرا فيهما، وذلك في سياق خطة لإعادة إنتاج نظام الأسد، وكتعبير عن دور روسي أوسع في الأزمة السورية.
ولا شك استفادت روسيا ومعها نظام بشار الأسد بصورة رئيسية من تزايد حدة الصراع العسكري في سوريا، ودخول جماعات متطرفة على خط الصراع، أهمها تنظيم داعش الذي أعلن دولته على مساحات جغرافية متسعة من سوريا والعراق، وتراجع قوة المعارضة المعتدلة، الأمر الذي أسهم في خلط أوراق الأزمة، وبدأت مراجعات مهمة غربية وأمريكية فيما يخص طريقة التعامل مع الأزمة، وبدت هناك أولوية لمواجهة التطرف، الذي يتمدد ويكتسب جغرافيا وأنصارًا، وبدأ يمثل تهديدا للاستقرار ليس داخل سوريا فحسب بل في المنطقة والعالم برمته، وقد وقفت تلك العوامل خلف تشكيل تحالف دولي لمكافحة تنظيم داعش في سوريا والعراق، ودعت الولايات المتحدة روسيا أكثر من مرة للدخول على خط مواجهة التنظيم.
استفاد النظام السوري من هذا الوضع المستجد الذي ساهم هو نفسه في صنعه، وساعدته روسيا ليكون بقاؤه ذا حيثية في مواجهة الإرهاب، وبالفعل تم تغيير مهم في خطاب القيادات والنخب الغربية بأهمية الحفاظ على مؤسسات النظام السوري وعدم سقوط النظام؛ لأن البديل بلا شك هو إعطاء فرصة لهيمنة الجماعات المتطرفة، في ذات الوقت الذي كانت قد توقفت شحنات السلاح إلى جماعات المعارضة المعتدلة والمدعومة من الغرب خشية أن تقع تلك الأسلحة المتطورة في يد المتطرفين.
هنا بدا أن روسيا قد تمكنت من فرض وجهة نظرها في سوريا على المجتمع الدولي، وتمكنت عبر تكتيكات مختلفة من نقل الصراع في سوريا من مرحلة الإطاحة بالأسد على غرار نماذج تونس ومصر وليبيا، إلى مرحلة إشراكه في التسوية، ثم إلى أهمية وجوده لمواجهة التطرف.
لكن انتباه بعض دول الإقليم وفي مقدمتها تركيا والمملكة العربية السعودية في ضوء بعض التغيرات على الساحة الداخلية في سوريا والتحولات الإقليمية، وأهمها الاتفاق النووي بين مجموعة 5+1 وإيران، وتردد الغرب في حسم مسألة بقاء الأسد، وتزايد حدة الصراع بين إيران من جانب ودول الخليج وتركيا من جانب آخر، والحديث عن تغيير في إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، كلها عوامل دفعت هذه الدول إلى زيادة استثماراتها في سوريا، عبر توحيد بعض الفصائل المتقاتلة فيما يعرف بجيش الفتح، والذي تمكن وبعض الفصائل الأخرىالتي تلقت دعما ماديا وعسكريا من إلحاق خسائر ذات تأثير على وضع النظام وتماسكه.
هنا شعرت روسيا بمدىتدهور وضع النظام، الذي كانت تعمل بصورة دائمة على ترميمه عبر الدعم المادي والسياسي والدبلوماسي والعسكري، وبدا أنه يمر بمرحلة بالغة الصعوبة جعلت الرئيس السوري يعترف بالخسائر الجغرافية، والخسائر البشرية، الذي اضطرت قواته إلى الانسحاب لأماكن أكثر أمنا، بل وحديثه حول الانسحاب إلى “سوريا المفيدة” تحت وطأة تلك التطورات الميدانية، وهو ما جعل روسيا تنتقل إلى إستراتيجية جديدة، وهي التدخل العسكري المباشر، تحت لافتة مقاومة الإرهاب، وإن كانت كل المؤشرات تدل على أنها تدخلت لحماية النظام من الانهيار، وحماية نفوذها من التراجع.
رابعًا- أبعاد التدخل العسكري الروسي في سوريا
علىالرغم من الدعم الروسي المتواصل للنظام السوري بجانب الدعم الإيراني والعراقي ودعم المليشيات الشيعية المختلفة؛ فإن النظام كما أشرنا قد تعرض لانتكاسات كبيرة منذ مطلع العام 2015 استدعت تغيير الإستراتيجية الروسية، حيث بدأ التصعيد العسكري الروسي منذ بداية ربيع عام 2015؛ بإرسال جنود إلى سوريا -سبق واعترف الرئيس السوري بأن جييشه يعاني من تناقص في عدد القوات- ثم أشارت تقارير إلى تعزيزات عسكرية تتزايد باطراد تمثلت في إرسال شحنات أسلحة متطورة إلى نظام الأسد شمل فريق تدخل عسكريا وإرسال وحدات سكنية جاهزة إلى قاعدة جوية قرب اللاذقية. وفي مطلع سبتمبر أكد الرئيس الروسي أن روسيا تواصل تقديم مساعدات مهمة إلى سوريا من خلال التدريب والأسلحة والمعدات. ثم شرعت روسيا في بناء قوة مشتركة للتدخل السريع لشن حملات جو-أرض في محافظات اللاذقية وطرطوس على طول الساحل الشمالي الغربي، في إشارة تتجاوز بكثير نطاق الدور الذي لطالما اضطلعت به روسيا على مستوىإمدادات الأسلحة والاستشارة.
وقد عززت روسيا وجودها على الساحل الروسي بقطع بحرية بما فيها سفن الإنزال البحرية إلى جانب 15 طائرة نقل من أجل إرسال أسلحة جديدة وقوات عسكرية إضافية إلى سوريا. وقد استخدمت تلك الطائرات مسارات جوية متعددة من روسيا إلى اللاذقية، وتمت هذه الأنشطة الجوية تحت غطاء بعثات المساعدات الإنسانية.
مكنت العمليات الميدانية الروسية النظام السوري من استعادة بعض المناطق الإستراتيجية التي كان قد خسرها أخيرًا، لا سيما أن قوات النظام قد استعادت بعض من الروح المعنوية والقتالية
كما شملت المعدات والأسلحة التي تم جلبها إلى سوريا خلال تلك المرحلة المركبات القتالية؛ ومنها ست دبابات من طراز تي -90، وخمس وثلاثون ناقلة جنود مدرعة، وخمسة عشر قطع مدفعية، وشاحنات عسكرية، ومركبات رباعية الدفع، ووحدات المساكن الجاهزة لنحو 1500 شخص، ومركز متنقل لمراقبة الحركة الجوية. كما تفيد بعض التقارير أن نحو 200 عنصر من عناصر المشاة البحرية الروسية قد تم نشرها في اللاذقية لحماية المنشآت الروسية. بجانب تمركز عناصر من لواء المشاة البحرية الروسية رقم 363 في سوريا.
علاوة على طائرات سخوي 34 الأحدث، وسخوي الاعتراضية 30 الأكثر تطورا، وطائرات ميج 31، بجانب طائرات إسناد جوي للهجوم البري من نوع سخوى، وصواريخ أرض أرض من نوع أس أيه-22 للدفاع عن مطار اللاذقية بجانب طائرات النقل الإستراتيجية والدبابات وطائرات تجسس واستطلاع.
بعد تعزيز قواتها ومعداتها العسكرية بدأت روسيا نهاية سبتمبر 2015 عملياتها العسكرية فوق الأراضي السورية، وذلك في سياق تعاملها مع كل الفصائل العسكرية المعارضة للنظام علىقدم المساواة باعتبارها منظمات إرهابية، وكذلك في سياق سعيها للدفاع عن بقاء النظام السوري، ومن ثم مواجهة المخاطر ذات الأولوية ومن ثم تركزت الضربات الصاروخية والجوية على خطوط التماس بين قوات النظام وبين الفصائل المعارضة له وكذلك في المناطق التي تخطط روسيا لعودة النظام إليها بعد خسارتها له خلال الشهور الأخيرة، في حين لا توجد مؤشرات حقيقية على قيام روسيا بتوجيه ضرباتها إلى تنظيم داعش بشكل مكثف.
وتزامن مع الضربات العسكرية الروسية الكشف عن إنشاء غرفة تنسيق أمني في بغداد بالعراق تجمع دول روسيا وإيران والعراق والنظام السوري ولا شك حزب اللـه ضمن هذا التحالف، هذا التحالف الذي يعلن عن نفسه باعتبار هدفه مواجهة تنظيم داعش، وربما يكون هذا التعاون قد جاء كرد فعل على فشل روسيا في الترويج لتحالف جديد لمحاربة داعش في منتصف عام 2015 يضم كلا من روسيا والسعودية وتركيا والأردن.
ورغم العملية العسكرية الروسية المتواصلةفإنه لا يمكن القول إن هذه الحدود من التسليح تمكن روسيا من القيام بشن حرب شاملة في سوريا، لكن من سير العمليات يمكن الإشارة إلى أن روسيا تنتهج أسلوب مشابه لما قامت به في حربها في شبه جزيرة القرم خلال الأزمة الأخيرة، من خلال خطة غير معلنة وعمليات مصحوبة بأهداف غير واضحة في سياق عملية تعزيز متواصل للقوات والمعدات، وذلك مع الاستفادة من الوجود المسبق في سوريا في منطقة الساحل، وهو ما قد يتطور في المستقبل أو يقف عند حدود بعينها، وفق الأهداف الروسية غير المعلنة من العمليات العسكرية في سوريا. وسوف تستعين بقوات برية من تلك التي تقاتل تحت سيطرة النظام السوري أو تلك المتعاونة معه من مليشيات كحزب الله اللبناني وقوات الحشد الشعبي العراقي وغيرها من الجماعات المقاتلة إلى جانب النظام، مع غطاء جوي وصاروخي روسي، ودعم من خبراء ومستشارين روس.
وقد يكون من المتوقع أن تركز العمليات خلال المراحل الأولى على ضرب جوي لمواقع المعارضة وإضعاف قدرتها، بجانب تأمين المنطقة الساحلية الحيوية للنظام في غرب سوريا والحيوية بالنسبة لروسيا، فضلا عن حماية المنافذ البحرية والجوية التي تعتمد عليها روسيا للوصول إلى سوريا والعمل على توسيعها، وبسط سيطرة موسكو على الوضع حول تلك المنطقة بشكل عام. بجانب دعم قوات النظام الجوية المتقهقرة في عمليات القصف الجوي ضد الفصائل المسلحة، وتزويد القوات الروسية والمنطقة الحيوية للنظام بالدفاع الجوي بواسطة نظام صواريخ أس أي-22، والطائرات القتالية، بالإضافة إلى مهمة شن سلسلة معارك قتالية برية وتنظيم بعثات دعم لاسيما من خلال شن عمليات دفاعية وهجومية، فضلا عن تدريب القوات العسكرية والقيام بأدوار استشارية.
قد تمكن العمليات الميدانية الروسية النظام السوري من استعادة بعض المناطق الإستراتيجية التي كان قد خسرها مؤخرا، كما تستطيع تأمين هذه المكاسب من خلال العمليات الاستخباراتية والحماية الجوية، لا سيما ان قوات النظام قد استعادت بعض من الروح المعنوية والقتالية على إثر التدخل الروسي العسكري في سوريا.
ويلاحظ أن العمليات العسكرية لا تنسجم مع أولويات العمل الأمريكي في سوريا الذي يعطي أهمية لاستئصال شأفة الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم داعش، حيث ستظل جهود روسيا مركزة لدعم بقاء النظام ومساعدته لمواجهة فصائل المعارضة المتاخمة لمناطق تمركز النظام، سواء في إدلب أو حلب أو حماة وحمص وريف دمشق وباتجاه حدود لبنان، وهي مناطق لا يوجد بها تنظيم داعش، كما أن التدخل الروسي سوف يكون قضما من حصة الولايات المتحدة في النظام الدولي الكبيرة منذ اكثر من عقدين، لا سيما إذا تمكنت روسيا من إعادة إنتاج نظام الأسد في سوريا، حيث يكون ذلك بداية تشكيك في مكانة الولايات المتحدة وهي التي طالما رفعت شعار رحيل الأسد.
كما يلاحظ التفاهم الروسي الإسرائيلي الذي سبق العمليات الروسية في سوريا يبدو أنه حسم تداعيات هذا التدخل ونتائجه في ضوء الخطوط الحمراء الإسرائيلية، والتي تولي اهتماما بعدم نقل أسلحة متطورة إلى حزب اللـه في لبنان وهو شريك روسيا في عملياتها العسكرية في سوريا، بجانب دفع المخاطر عن حدود إسرائيل، ووضع قواعد للاشتباك الجوي في سوريا.
ومع ذلك فإن العمليات العسكرية الروسية تواجه عددًا من التحديات ربما ستؤثر بصورة كبيرة على حدود تلك العمليات وتطورها، وتلك العوامل هي كالتالي:
1- أن التحرك الروسي على الساحة السورية لا ينطلق من أرضية توافق سياسي مع القوىالرئيسية المؤثرة على الساحة الروسية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بل هو استكمال لخط الخلاف بين الطرفين حول معالجات الأزمة، ومن ثم قد يسهم هذا التصعيد بالتدخل العسكري إلى زيادة التوتر بين روسيا من جانب وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب آخر.
2- أن تنسيق روسيا لأعمالها العسكرية مع القوي المنخرطة في الصراع في سوريا تتم عند حدود فنية بحته، وهي عند الحد الأدنى، وقد برزت بوادر مشكلات في قواعد الاشتباك في بعض المناطق، وهو ما قد يؤدي إلى شرارة تشعل صراعا عسكريا كبيرا في المنطقة برمتها، لا سيما أن روسيا باستخدامها صواريخ بالستية من قطعها البحرية في بحر قزوين ترفع درجة العمل العسكري إلى درجة غير مسبوقة، وتعد رسالة بأنها بصدد موقف صلب وليس مناروة من اجل مكاسب جزئية.
3- تسهم روسيا بعملياتها العسكرية وبالتنسيق مع دول إيران والعراق وسوريا ومعهم حزب الله في زيادة التوتر الإقليمي، وتصاعد الحرب بالوكالة في سوريا، حيث من الصعب على الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة تخليها عن مصالحها، بل ستعمل على تكبيد روسيا خسائر جراء موقفها من الأزمة، وستزيد من استثماراتها السياسية والعسكرية في الصراع.
4- قد يؤدي انخراط روسيا في الصراع بدرجة كبيرة على توحيد الفصائل المعارضة للنظام، مع جذب مزيد من الجهاديين من الخارج، وإعادة استنساخ النموذج الأفغاني واستنزاف روسيا، لا سيما أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية قد أعلنت أن القوات الروسية تخوض حربا مقدسة في سوريا.
5- تمثل العوامل الاقتصادية عائقا مهما أمام روسيا على المدىالطويل، حيث إن قدرة الاقتصاد الروسي غير مؤهلة لتحمل تكاليف وتبعات تدخل عسكري واسع النطاق وطويل المدى، بجانب عوامل لها صلة بالعقيدة والديمغرافيا العسكرية الروسية ما بعد الاتحاد السوفيتي، لا سيما أن روسيا تنشر خلال السنوات الأخيرة أعدادا متزايدة من القوات خارج حدودها.
6- أن الرهان على بقاء النظام السوري، يعني رهانا على بقاء روسيا على أنقاض نظام متهاو عاجز عن استعادة شرعيته وسلطته الفعلية، ومن ثم ستعاني روسيا من جراء الانخراط العسكري في دولة فاشلة لفترة طويلة، وهي الظروف التي واجهتها من قبل الولايات المتحدة في دول الصومال وأفغانستان والعراق وفي النهاية كانت التداعيات في مجملها سلبية بل وكارثية، وهو المصير ذاته الذي قد تواجهه روسيا.
خامسًا- مآلات التدخل الروسي في سوريا
يبدو أن التدخل العسكري الروسي على خط الأزمة السورية قد زادها تعقيدا، ومن الصعب الجزم بمآلاته، لا سيما أن هذا التدخل في مراحله الأولى، ولم تستقر بعد إستراتيجيات وتكتيكات الأطراف المناوئة لهذا التدخل في الداخل والخارج.
فبداية قد تنجح روسيا في تأمين بقاء النظام السوري على جغرافيا ملائمة عبر عنها الأسد بأنها مفيدة، وذلك من خلال استمرار الدعم السياسي والمادي بجانب العمليات العسكرية المحدودة، وربما يقود هذا الوضع إلى تسوية سياسية يكون النظام جزء منها، لا سيما مع الإصرار السوري، ومع تزايد تداعيات الأزمة بكافة جوانبها، وتزايد ضغط اللاجئين على الدول الأوربية، لكن هذا سيناريو مبتور حيث أنه سيتوقف على تخلي القوي الدولية والإقليمية المناوئة للنظام السوري عن شرطها في رحيل الأسد، واستعدادها لقبول وخسارة استثماراتها في الأزمة منذ اندلاعها وتخليها عن أطراف المعارضة التي تساندها، وما سترتب على ذلك من توسيع نفوذ إيران في المنطقة وتراجع تأثير تلك الدول وتعرضها لتهديدات مباشرة داخل حدودها.
من ناحية ثانية استمرار ضبط روسيا لأدائها في سوريا دون توسيع عملياتها العسكرية بغرض تأمين النظام وتأمين مصالحها، يبقيها بمنأىعن التعرض لخسائر كبيرة على المدي الطويل وتكبد خسائر عسكرية وبشرية تهدد عملياتها بالكلية في سوريا، لكن هذا الوضع مع الوقت يعزز تكريس عملية تقسيم غير معلن لمناطق النفوذ ومناطق العمل العسكري في سوريا، ويعني حربًا باردة في المنطقة بين القوىالدولية والإقليمية، وهنا يثار تساؤل هل روسيا لديها قدرة على خوض حرب باردة طويلة في سوريا خلال المرحلة الراهنة؟ وهل ستقف الولايات المتحدة والغرب وحلفاؤها الإقليميون متفرجين على هذا التحدي الروسي الآخذ في التصاعد، والذي يهدد بتغيير قواعد اللعبة على المستوىالدولي.
من ناحية أخيرة في ضوء الاستناد إلى تحالف يضم إيران والعراق والنظام السوري وحزب اللـه والفصائل الشيعية والمليشيات المتطرفة، فقد تتجه روسيا إلى توسيع عملياتها العسكرية لتمكين النظام من السيطرة على كل سوريا لكن هذا يتطلب عمليات عسكرية برية مشتركة مكلفة، وقد تأتي هذه الخطوات في إطار سعيها لدور إقليمي والعمل على ملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة في المنطقة في ضوء ترددها في التدخل خلال السنوات الأخيرة فيما يبدو أنه انسحاب تدريجي من المنطقة، لا سيما أن بعض القوىالإقليمية ترحب بهذا التدخل. ومن ثم قد تدخل المنطقة إلى مرحلة جديدة يتغير فيها الفاعلين الرئيسيين وتتغير فيها التحالفات، لكن المؤكد في الأخير أن الوصول إلى الاستقرار في ظل كثافة التدخل العسكري الراهن في المنطقة وآخره هذا التدخل الروسي بعيد المنال.
وفي النهاية فإن الترحيب من جانب بعض القوىالإقليمية بالتدخل العسكري الروسي الأخير في سوريا يمثل تنقضا لمبدأ عدم التدخل الذي اتخذته روسيا نفسها منذ البداية لوقف العنف في سوريا، واتخذته بعض دول المنطقة مخافة تمدده، وهو المبدأ الذي أسهم تكريسه في حينها في اتساع نطاق العنف والتطرف والإرهاب بصورة كبيرة وفي مقدمته إرهاب نظام بشار نفسه، في حين يبدو أن هذا التدخل الروسي الحالي المرحب به لا يصب في مواجهة هذا التطرف بقدر ما يعيد إنتاج نموذج التدخل الأمريكي في العراق، أو شكل من أشكال الحرب الباردة الجديدة التي قد تقسم المنطقة إلى مناطق نفوذ تعيدها سنوات للوراء.
محمود حمدي أبو القاسم
المركز العربي للبحوث و الدراسات